ثم يأخذ في بيان صفات المتقين :
( الذين ينفقون في السراء والضراء ) . .
فهم ثابتون على البذل ، ماضون على النهج ، لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء . السراء لا تبطرهم فتلهيهم . والضراء لا تضجرهم فتنسيهم . إنما هو الشعور بالواجب في كل حال ؛ والتحرر من الشح والحرص ؛ ومراقبة الله وتقواه . . وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها ، المحبة للمال بفطرتها . . ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال ، إلا دافع أقوى من شهوة المال ، وربقة الحرص ، وثقلة الشح . . دافع التقوى . ذلك الشعور اللطيف العميق ، الذي تشف به الروح وتخلص ، وتنطلق من القيود والأغلال . .
ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة . فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها ، كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل - كما سيأتي في السياق القرآني - مكررا كذلك . مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة ، وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله .
( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) . .
كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل ، بنفس البواعث ونفس المؤثرات . فالغيظ انفعال بشري ، تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم ؛ فهو إحدى دفعات التكوين البشري ، وإحدى ضروراته . وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى ؛ وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات .
وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى . وهي وحدها لا تكفي . فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن ؛ فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة ؛ ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين . . وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن . . لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين . . إنها العفو والسماحة والانطلاق . .
إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه ؛ وشواظ يلفح القلب ؛ ودخان يغشى الضمير . . فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب ، فهو الانطلاق من ذلك الوقر ، والرفرفة في آفاق النور ، والبرد في القلب ، والسلام في الضمير .
والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون . والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون . . والله " يحب " المحسنين . . والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير ، الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم . .
ومن حب الله للإحسان وللمحسنين ، ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه . وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب . . فليس هو مجرد التعبير الموحي ، ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير !
والجماعة التي يحبها الله ، وتحب الله . . والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان . . هي جماعة متضامة ، وجماعة متآخية ، وجماعة قوية . ومن ثم علاقة هذا التوجيه بالمعركة في الميدان والمعركة في الحياة على السواء في هذا السياق !
ثم ذكر تعالى صَفَة أهل الجنة ، فقال : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ } أي : في الشدة والرخاء ، والمَنْشَط والمَكْرَه ، والصحة والمرض ، وفي جميع الأحوال ، كما قال : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً } [ البقرة : 274 ] . والمعنى : أنهم لا يشغلهم أمْر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مَرَاضِيه ، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر .
وقوله : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي : إذا ثار بهم الغيظ كظموه ، بمعنى : كتموه فلم يعملوه ، وعَفَوْا{[5687]} مع ذلك عمن أساء إليهم{[5688]} وقد ورد في بعض الآثار : " يقول الله تعالى : ابنَ آدَمَ ، اذْكُرْنِي إذَا غَضِبْتَ ، أَذْكُرُكَ إذَا غَضِبْتُ ، فَلا أُهْلِكُكَ{[5689]} فيمن أهْلِكَ " رواه ابن أبي حاتم{[5690]} .
وقد قال أبو يعلى في مسنده : حدثنا أبو موسى الزّمن ، حدثنا عيسى بن شُعَيب الضَّرِير أبو الفضل ، حدثنا{[5691]} الربيع بن سليمان الجيزي{[5692]} عن أبي عمرو بن أنس بن مالك ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ ، وَمَنْ خزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إلَى اللهِ قَبِلَ عُذْرَهُ " [ و ]{[5693]} هذا حديث غريب ، وفي إسناده نظر{[5694]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لَيْسَ الشَّدِيدُ{[5695]} بِالصُّرُعة ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ{[5696]} الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " . وقد رواه الشيخان من حديث مالك{[5697]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم التَّيْميّ ، عن الحارث بن سُوَيد ، عن عبد الله ، هو ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إلَيْه مِنْ مَالِهِ ؟ " قال : قالوا : يا رسول الله ، ما منا أحد إلا مَالهُ أحب إليه من مال وارثه . قال : " اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إلَيْه مِنْ مَالهِ مَالَكَ مِنْ مَالَكَ إلا مَا قَدَّمَتْ ، ومَالُ وَارِثَكَ مَا أخَّرْتَ " . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا تَعُدُّونَ فِيْكُمُ الصُّرعَة ؟ " قلنا : الذي لا تَصْرَعه{[5698]} الرجال ، قال : قال " لا ولكن الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " . قال : قال{[5699]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا تَعُدُّونَ فِيْكُمُ الرَّقُوبَ ؟ " قال : قلنا : الذي لا ولد له . قال : " لا ولكن الرَّقُوبَ الَّذِي لم{[5700]} يُقَدِّمْ مِنْ ولَدِهِ شَيْئًا " .
أخرج البخاري الفصل الأول منه وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش ، به{[5701]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعْبة ، سمعت عُرْوة بن عبد الله الجَعْفِيّ يحدث عن أبي حصبة ، أو ابن حصبة ، عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : " تَدْرُونَ مَا الرَّقُوبُ ؟ " قالوا{[5702]} الذي لا ولد له . قال : " الرَّقُوبُ كُلُّ الرَّقُوبِ الَّذِي لَهُ وَلَدٌ فَمَاتَ ، وَلَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُمْ شَيْئًا " . قال : " تَدْرُونَ مَا الصُّعْلُوكُ ؟ " قالوا : الذي ليس له مال . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الصُّعْلُوكُ كُلُّ الصُّعْلُوكِ الَّذِي لَهُ مَالٌ ، فَمَاتَ وَلَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُ شَيْئًا " . قال : ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَا الصُّرَعَةُ ؟ " قالوا : الصريع . قال : فقال{[5703]} صلى الله عليه وسلم الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ الَّذِي يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ ، وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ ، وَيَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ " {[5704]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمَيْر ، حدثنا هشام - هو ابن عروة - عن أبيه ، عن الأحنف بن قيس ، عن عم له يقال له : جَارية بن قُدامة السعدي ؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، قل لي قولا ينفعني وأقْلِل عليّ ، لعلي أعيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَغْضَبْ " . فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا ، كل ذلك يقول : " لا تَغْضَبْ " .
وكذا رواه عن أبي معاوية ، عن هشام ، به . ورواه [ أيضا ]{[5705]} عن يحيى بن سعيد القطان ، عن هشام ، به ؛ أن رجلا قال : يا رسول الله ، قل لي قولا وأقْلِل علَيَّ لَعَلّي أعقِله . قال : " لا تَغْضَبْ " .
الحديث انفرد به أحمد{[5706]} .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رجل : يا رسول الله ، أوصني . قال : " لا تَغْضَبْ " . قال الرجل : ففكرت حين قال{[5707]} صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله .
انفرد به أحمد{[5708]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا داود بن أبي هِنْد عن بن أبي حَرْب بن أبي الأسود ، عن أبي الأسود ، عن أبي ذَرّ قال : كان يسقي على حوض له ، فجاء قوم قالوا{[5709]} أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه فقال رجل : أنا . فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه ، وكان أبو ذر قائما فجلس ، ثم اضطجع ، فقيل له : يا أبا ذر ، لم جلست ثم اضطجعت ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : " إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ ، فإن{[5710]} ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلا فَلْيَضْطَجِعْ " .
ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل بإسناده ، إلا أنه وقع في روايته : عن أبي حرب ، عن أبي ذر ، والصحيح : ابن أبي حرب ، عن أبيه ، عن أبي ذر ، كما رواه عبد الله بن أحمد ، عن أبيه{[5711]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن خالد : حدثنا أبو وائل الصَّنْعَاني قال : كنا جلوسا عند عرْوة بن محمد إذ دخل عليه رجل ، فكلمه بكلام أغضبه ، فلما أن غضب قام ، ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال : حدثني أبي ، عن جدي عطية - هو ابن سعد السعدي ، وقد كانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وإنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ{[5712]} وإنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالماءِ ، فَإذَا أُغْضِبَ{[5713]} أحَدُكُمْ فَلْيَتَوضَّأْ " .
وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنْعَاني ، عن أبي وائل القاص{[5714]} المُرَادي الصَّنْعَاني : قال أبو داود : أراه عبد الله بن بَحير{[5715]} {[5716]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا نوح بن جَعْوَنة السُّلَمي ، عن مقاتل بن حَيَّان ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ وَقَاهُ اللهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ، ألا إنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوُةٍ - ثلاثا - ألا إنَّ عَمَلَ النَّار سَهْلٌ بسَهْوة . والسَّعِيدُ مَنْ وقيَ الفِتَنَ ، ومَا مِنْ جَرْعَةٍ أحَبُّ إلَى اللهِ [ عز وجل ]{[5717]} مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ للهِ{[5718]} إلا مَلأ{[5719]} جَوْفُه إيمَانًا " .
انفرد به أحمد ، إسناده حسن ليس فيه{[5720]} مجروح ، ومتنه حسن{[5721]} .
حديث آخر في معناه : قال أبو داود : حدثنا عقبة بن مُكرَم ، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مَهْدي - عن بشر - يعني ابن منصور - عن محمد بن عَجْلان ، عن سُوَيد بن وَهْب ، عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُنْفِذَه مَلأهُ اللهُ أَمْنًا وَإيمانًا ، وَمَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَال وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْه - قال بِشر : أحسبه قال : " تَوَاضُعًا " - كَسَاهُ اللهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ، وَمَنْ زَوَّجَ للهِ كَسَاهُ اللهُ تَاجَ الْمُلْكِ " {[5722]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يَزيد ، حدثنا سعيد ، حدثني أبو مَرْحُوم ، عن سَهْل بن مُعَاذ بن أنس ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَه ، دَعَاهُ اللهُ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ ، حَتَّى يُخيرَهُ مِنْ أيِّ الْحُورِ شَاءَ " .
ورواه أبو داود والترمذي ، وابن ماجة ، من حديث سعيد بن أبي أيُّوب ، به . وقال الترمذي : حسن غريب{[5723]} .
حديث آخر : قال : عبد الرزاق : أخبرنا داود بن قَيْس ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل الشام - يقال له : عبد الجليل - عن عم له ، عن أبي هريرة في قوله تعالى : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كظم غيظا ، وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا " . رواه ابن جرير{[5724]} .
حديث آخر : قال ابن مَرْدُويَه : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد ، أخبرنا يحيى بن أبي طالب ، أخبرنا علي بن عاصم ، أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تَجَرَّعَ عبد من جُرْعَةٍ أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله " .
وكذا رواه ابن ماجة عن بشر بن عمر ، عن حَمَّاد بن سلمة ، عن يونس بن عُبَيد ، به{[5725]} .
فقوله : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أي : لا يعملون{[5726]} غضبهم في الناس ، بل يكفون عنهم شرهم ، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل .
ثم قال [ تعالى ]{[5727]} { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي : مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم ، فلا يبقى{[5728]} في أنفسهم{[5729]} مَوجدة على أحد ، وهذا أكمل الأحوال ، ولهذا قال : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } فهذا من مقامات الإحسان .
وفي الحديث : " ثلاث أُقْسِمُ عليهن : ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عِزا ، ومن تواضع لله رفعه الله " {[5730]} .
وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عُقبة ، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القُرشي ، عن عُبَادة بن الصامت ، عن أبي بن كعب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يُشْرَف له البنيان ، وترفع له الدرجات فَلْيَعْفُ عمن ظلمه ، ويعط من حرمه ، ويَصِلْ من قطعه " .
ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[5731]} وقد أورده ابن مردويه من حديث علي ، وكعب بن عُجْرة ، وأبي هريرة ، وأم سلمة ، بنحو ذلك . وروي عن{[5732]} طريق الضحاك ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول : أين العافون عن الناس ؟ هَلُمُّوا إلى ربكم ، وخذوا أجوركم ، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة " .
{ الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ وَالضّرّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } أُعدت الجنة التي عرضها السموات والأرض للمتقين ، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله ، إما في صرفه على محتاج ، وإما في تقوية مضعف على النهوض للجهاد في سبيل الله .
وأما قوله : { فِي السّرّاء } فإنه يعني : في حال السرور بكثرة المال ، ورخاء العيش والسرّاء : مصدر من قولهم سرّني هذا الأمر مسرّة وسرورا¹ والضراء : مصدر من قولهم : قد ضرّ فلان فهو يضرّ إذا أصابه الضرّ ، وذلك إذا أصابه الضيق والجهد في عيشه .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } يقول : في العسر واليسر .
فأخبر جلّ ثناؤه أن الجنة التي وصف صفتها لمن اتّقاه وأنفق ماله في حال الرخاء والسعة وفي حال الضيق والشدة في سبيله .
وقوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ } يعني : والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه ، يقال منه : كظم فلان غيظه : إذا تجرّعه فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرة على إمضائه باستمكانها ممن غاظها وانتصارها ممن ظلمها . وأصل ذلك من كظم القربة ، يقال منه : كظمتُ القربة : إذا ملأتها ماء ، وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غمّا وحزنا ، ومنه قول الله عزّ وجلّ ، { وابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } يعني ممتلىء من الحزن ، ومنه قيل لمجاري المياه الكظائم لامتلائها بالماء ، ومن قيل : أخذت بكظمه يعني بمجاري نفسه . والغيظ : مصدر من قول القائل : غاظني فلان فهو يغيظني غيظا ، وذلك إذا أحفظه وأغضبه .
وأما قوله : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ } فإنه يعني : والصافحين عن الناس عقوبة ذنوبهم إليهم ، وهم على الانتقام منهم قادرون ، فتاركوها لهم .
وأما قوله { واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } فإنه يعني : فإن الله يحبّ من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعدّ للعاملين بها الجنة التي عرضها السموات والأرض . والعاملون بها هم المحسنون ، وإحسانهم هو عملهم بها . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } . . . الاَية : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } أي وذلك الإحسان ، وأنا أحبّ من عمل به .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } : قوم أنفقوا في العسر واليسر ، والجهد والرخاء ، فمن استطاع أن يغلب الشرّ بالخير فليفعل ، ولا قوّة إلا بالله ، فنعمت والله يا ابن آدم الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ وأنت مظلوم .
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محرز أبو رجاء ، عن الحسن ، قال : يقال يوم القيامة : ليقم من كان له على الله أجر ! فما يقوم إلا إنسان عفا . ثم قرأ هذه الاَية : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل ، عن عمّ له ، عن أبي هريرة في قوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ كَظَمَ غَيْظا وَهُوَ يَقْدِرُ على إنْفَاذِهِ مَلأَهُ اللّهُ أمْنا وإيمانا » .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ } . . . إلى الاَية : { واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } ، فالكاظمين الغيظ كقوله : { وإذَا مَا غَضِبُوا هُمُ يَغْفِرُونَ }¹ يغضبون في الأمر لو وقعوا به كان حراما فيغفرون ويعفون ، يلتمسون بذلك وجه الله¹ { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ } كقوله : { وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ } . . . إلى : { ألاَ تُحِبّونَ أن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ } يقول : لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئا واعفوا واصفحوا .
{ الذين ينفقون } صفة مادحة للمتقين ، أو مدح منصوب أو مرفوع . { في السراء والضراء } في حالتي الرخاء والشدة ، أو الأحوال كلها إذ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة ، أي لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير ، { والكاظمين الغيظ } الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة ، من كظمت القرية إذا ملأتها وشددت رأسها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من كظم غيظا وهو يقدر على إنقاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا " . { والعافين عن الناس } التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام " إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله " وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت . { والله يحب المحسنين } يحتمل الجنس ويدخل تحته هؤلاء ، والعهد فتكون الإشارة إليهم .
ثم وصف تعالى المتقين الذين أعدت لهم الجنة ، بقوله : { الذين ينفقون } الآية ، وظاهر هذه الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : { في السراء والضراء } ، معناه : في العسر واليسر .
قال القاضي : إذ الأغلب أن مع اليسر النشاط وسرور النفس ، ومع العسر الكراهية وضر النفس ، وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كاد أن يخرج من كثرته ، فضبطه ومنعه كظم له ، والكظام : السير الذي يشد به فم الزق والقربة ، وكظم البعير جرته{[3538]} : إذا ردها في جوفه ، وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه ، كظم ، حكاه الزجّاج ، فقال : كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ومنه قول الراعي : [ الكامل ]
فَأَفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بجِرَّةٍ . . . من ذي الأباطح أذرعين حقيلا{[3539]}
و { الغيظ } : أصل الغضب ، وكثيراً ما يتلازمان ، ولذلك فسر بعض الناس { الغيظ } بالغضب وليس تحرير الأمر كذلك ، بل { الغيظ } فعل النفس لا يظهر على الجوارح ، والغضب حال لها معه ظهور في الجوارح وفعل ما ولا بد ، ولهذا جاز إسناد الغضب إلى الله تعالى ، إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم ، ولا يسند إليه تعالى غيظ ، وخلط ابن فورك في هذه اللفظة ، ووردت في كظم الغيظ وملك النفس عند الغضب أحاديث ، وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس ، ومنه قوله عليه السلام< ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب>{[3540]} ، ومنه قول النبي عليه السلام : ( ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجراً من جرعة غيظ في الله ) {[3541]} ، وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال : «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ، ملأه الله أمناً وإيماناً »{[3542]} ، والعفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير ، وهذا حيث يجوز للإنسان ألا يعفو ، وحيث يتجه حقه ، وقال أبو العالية : { والعافين عن الناس } ، يريد المماليك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن على جهة المثال ، إذ هم الخدمة ، فهم مذنبون كثيراً ، والقدرة عليهم متيسرة ، وإنفاذ العقوبة سهل ، فلذلك مثل هذا المفسر به ، وذكر تعالى بعد ذلك أنه { يحب المحسنين } ، فعم هذه الوجوه وسواها من البر ، وهذا يدلك على أن الآية في المندوب إليه ، ألا ترى إلى سؤال جبريل عليه السلام ، فقال : ما الإيمان ؟ ثم قال ما الإسلام ؟ فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم المفروضات ، ثم قال له : ما الإحسان ؟ قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ) {[3543]} ، الحديث .
الصفة الأولى : الإنفاق في السَّراء والضّراء . والإنفاق تقدّم غير مرّة وهو الصدقة وإعطاء المال والسلاح والعُدة في سبيل الله . والسرّاء فَعْلاء ، اسم لمصدر سرّه سَرّاَ وسُروراً . والضّراء كذلك من ضَرّه ، أي في حالي الاتّصاف بالفرح والحزن ، وكأنّ الجمعَ بينهما هنا لأنّ السرّاء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم ، والضرّاء فيها ملهاة وقلّة مَوجدة . فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تَدلّ على أنّ محبَّة نفع الغير بالمال ، الَّذي هو عزيز على النَّفس ، قد صارت لهم خلقاً لا يحجبهم عنه حاجب ولا ينشأ ذلك إلاّ عن نفس طاهرة .
الصفة الثَّانية : الكاظمين الغيظ . وكظم الغيظ إمساكه وإخفاؤه حتَّى لا يظهر عليه ، وهو مأخوذ من كظم القربة إذا ملأها وأمسك فمها ، قال المبرّد : فهو تمثيل للإمساك مع الامتلاء ، ولا شكّ أن أقوى القوى تأثيراً على النَّفس القوّة الغاضبة فتشتهي إظهار آثار الغضب ، فإذا استطاع إمساكَ مظاهرها ، مع الامتلاء منها ، دلّ ذلك على عزيمة راسخة في النَّفس ، وقهرِ الإرادةِ للشهوة ، وهذا من أكبر قوى الأخلاق الفاضلة .
الصفّة الثالثة : العفو عن النَّاس فيما أساؤوا به إليهم . وهي تكملة لصفة كظم الغيظ بمنزلة الاحتراس لأنّ كظم الغيظ قد تعترضه ندامة فيستعدي على من غاظه بالحقّ ، فلمَّا وصفوا بالعفو عمّن أساء إليهم دلّ ذلك على أنّ كظم الغيظ وصف متأصّل فيهم ، مستمرّ معهم . وإذا اجتمعت هذه الصفّات في نفسٍ سهل ما دونها لديها .
وبجماعها يجتمع كمال الإحسان ولذلك ذيل الله تعالى ذكرها بقوله : { والله يحب المحسنين } لأنه دال على تقدير أنهم بهذه الصفات محسنون والله يحبّ المحسنين .