234- والذين يُتَوفَّوْن منكم من الرجال ويتركون زوجات لهم غير حوامل فعليهن أن يمكثن بعدهم دون تعرض للزواج مدة أربعة أشهر هلالية وعشر ليال بأيامها استبراء للرحم . فإذا انتهت هذه المدة فلا تبعة عليكم أيها الأولياء لو تركتموهن يأتين من شريف الأعمال التي يرضاها الشرع ليصلن بها إلى الزواج . فلا ينبغي أن تمنعوهن من ذلك ولا يجوز لهن أن يأتين من الأعمال ما ينكره الشرع ويأباه ، فإن الله مطلع على سرائركم ويعلم أعمالكم فيحاسبكم على ما تعملون .
وبعد استيفاء التشريع للمطلقات وللآثار المتخلفة عن الطلاق يأخذ في بيان حكم المتوفى عنها زوجها . . عدتها . وخطبتها بعد انقضاء العدة . والتعريض بالخطبة في أثنائها :
( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا . فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف . والله بما تعملون خبير ) .
( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم . علم الله أنكم ستذكرونهن . ولكن لا تواعدوهن سرا ، إلا أن تقولوا قولا معروفا . ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله . واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه . واعلموا أن الله غفور حليم ) . .
والمتوفى عنها زوجها كانت تلقى الكثير من العنت من الأهل وقرابة الزوج والمجتمع كله . . وعند العرب كانت إذا مات زوجها دخلت مكانا رديئا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا مدة سنة ، ثم تخرج فتقوم بعدة شعائر جاهلية سخيفة تتفق مع سخف الجاهلية ، من أخذ بعرة وقذفها ومن ركوب دابة : حمار أو شاة . . . إلخ . . فلما جاء الإسلام خفف عنها هذا العنت ، بل رفعه كله عن كاهلها ؛ ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج واضطهاد الأهل بعده . . وإغلاق السبيل في وجهها دون حياة شريفة ، وحياة عائلية مطمئنة . جعل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال - ما لم تكن حاملا فعدتها عدة الحامل - وهي أطول قليلا من عدة المطلقة . تستبريء فيها رحمها ، ولا تجرح أهل الزوج في عواطفهم بخروجها لتوها . وفي أثناء هذه العدة تلبس ثيابا محتشمة ولا تتزين للخطاب . فأما بعد هذه العدة فلا سبيل لأحد عليها . سواء من أهلها أو من أهل الزوج . ولها مطلق حريتها فيما تتخذه لنفسها من سلوك شريف في حدود المعروف من سنة الله وشريعته ، فلها أن تأخذ زينتها المباحة للمسلمات ، ولها أن تتلقى خطبة الخطاب ، ولها أن تزوج نفسها ممن ترتضي . لا تقف في سبيلها عادة بالية ، ولا كبرياء زائفة . وليس عليها من رقيب إلا الله :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا}: من يوم يموت زوجها. {فإذا بلغن أجلهن}: إذا مضى الأجل مما ذكر في هذه الآية. {فلا جناح عليكم} في قراءة ابن مسعود:"لا حرج عليهن". {فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف}، يعني لا حرج على المرأة إذا نقضت عدتها أن تتشوف وتتزين وتلتمس الأزواج. {والله بما تعملون خبير} من أمر العدة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: والذين يتوفون منكم من الرجال أيها الناس، فيموتون ويذرون أزواجا يتربص أزواجهن بأنفسهن.
فإن قال قائل: فأين الخبر عن الذين يتوفون؟ قيل: متروك لأنه لم يقصد قصد الخبر عنهم، وإنما قصد قصد الخبر عن الواجب على المعتدات من العدة في وفاة أزواجهنّ، فصرف الخبر عن الذين ابتدأ بذكرهم من الأموات إلى الخبر عن أزواجهم والواجب عليهن من العدة، إذ كان معروفا مفهوما معنى ما أريد بالكلام. وكذلك الأزواج اللواتي عليهنّ التربص لما كان إنما ألزمهنّ التبرص بأسباب أزواجهن صرف الكلام عن خبر من ابتدئ بذكره إلى الخبر عمن قصد قصد الخبر عنه...
"يَتَرَبصْنَ بأنْفُسِهِنّ": يحتبسن بأنفسهن معتدّات عن الأزواج والطيب والزينة والنقلة عن المسكن الذي كن يسكنه في حياة أزواجهن أربعة أشهر وعشرا، إلا أن يكن حوامل، فيكون عليهن من التربص كذلك إلى حين وضع حملهن، فإذا وضعن حملهن انقضت عددهن حينئذٍ.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم مثل ما قلنا فيه.
وإنما قلنا: عنى بالتربص ما وصفنا لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع وأبو أسامة، عن شعبة، وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن حميد بن نافع، قال: سمعت زينب ابنة أم سلمة تحدّث قال أبو كريب: قال أبو أسامة، عن أم سلمة أن امرأة توفي عنها زوجها، واشتكت عينها، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم تستفتيه في الكحل، فقال: «لَقَدْ كانَتْ إحْدَاكُنّ تَكُونَ فِي الجاهِلِيّةِ فِي شَرّ أحْلاسِها، فَتَمْكُثُ فِي بَيْتِها حَوْلاً إذَا تُوُفي عَنْها زَوْجُها، فَيَمُرّ عَلَيْها الكَلبُ فَترْمِيهِ بالبَعْرَةِ أفَلا أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا».
حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت نافعا، عن صفية ابنة أبي عبيد أنها سمعت حفصة ابنة عمر زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم تحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَحِلّ لامْرأةٍ تُؤْمِنُ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ أنْ تُحِدّ فَوْقَ ثَلاثٍ إلاّ على زَوْجٍ فإنها تُحِدّ عَلَيْهِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا».
قال يحيى: والإحداد عندنا أن لا تطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران، ولا تكتحل ولا تزّيّن.
قال يحيى: فسألت حميدا عن رميها بالبعرة، قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها عمدت إلى شرّ بيتها، فقعدت فيه حولاً، فإذا مرّت بها سنة ألقت بعرة وراءها.
وقال آخرون: إنما أمرت المتوفى عنها زوجها أن تربص بنفسها عن الأزواج خاصة، فأما عن الطيب والزينة والمبيت عن المنزل فلم تنه عن ذلك، ولم تؤمر بالتربص بنفسها عنه.
واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن الله تعالى ذكره إنما أمر المتوفى عنها بالتربص عن النكاح، وجعلوا حكم الآية على الخصوص... عن أسماء بنت عميس، قالت: لما أصيب جعفر قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «تَسَلّبِي ثَلاثا ثُم اصْنَعِي ما شِئْتِ».
قالوا: فقد بين هذا الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا إحداد على المتوفى عنها زوجها، وأن القول في تأويل قوله: "يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا "إنما هو يتربصن بأنفسهن عن الأزواج دون غيره.
وأما الذين أوجبوا الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وترك النقلة عن منزلها الذي كانت تسكنه يوم توفي عنها زوجها، فانهم اعتلوا بظاهر التنزيل وقالوا: أمر الله المتوفى عنها أن تربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا، فلم يأمرها بالتربص بشيء مسمى في التنزيل بعينه، بل عمّ بذلك معاني التربص. قالوا: فالواجب عليها أن تربص بنفسها عن كل شيء، إلا ما أطلقته لها حجة يجب التسليم لها. قالوا: فالتربص عن الطيب والزينة والنقلة مما هو داخل في عموم الآية كما التربص عن الأزواج داخل فيها. قالوا: وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بالذي قلنا في الزينة والطيب... قالوا: وأما الخبر الذي روى عن أسماء ابنة عميس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره إياها بالتسلّب ثلاثا، ثم أن تصنع ما بدا لها، فإنه غير دالّ على أن لا إحداد على المرأة، بل إنما دلّ على أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم إياها بالتسلب ثلاثا، ثم العمل بما بدا لها من لبس ما شاءت من الثياب مما يجوز للمعتدة لبسه مما لم يكن زينة ولا تطيبا لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة ولا ثياب تسلب. وذلك كالذي أذن صلى الله عليه وسلم للمتوفى عنها أن تلبس من ثياب العَصْب وبرود اليمن، فإن ذلك لا من ثياب زينة ولا من ثياب تسلّب، وكذلك كل ثوب لم يدخل عليه صبغ بعد نسجه مما يصبغه الناس لتزيينه، فإن لها لبسه، لأنها تلبسه غير متزينة الزينة التي يعرفها الناس.
فإن قال لنا قائل: وكيف قيل "يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا "ولم يقل وعشرة؟ وإذ كان التنزيل كذلك، أفبالليالي تعتدّ المتوفى عنها العشر أم بالأيام؟ قيل: بل تعتدّ بالأيام بلياليها. فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك فكيف قيل وعشرا ولم يقل وعشرة، والعشر بغير الهاء من عدد الليالي دون الأيام؟ فإن أجاز ذلك المعنى فيه ما قلت، فهل تجيز عندي عشر وأنت تريد عشرة من رجال ونساء؟ قلت: ذلك جائز في عدد الليالي والأيام، وغير جائز مثله في عدد بني آدم من الرجال النساء وذلك أن العرب في الأيام والليالي خاصة إذا أبهمت العدد غلبت فيه الليالي، حتى إنهم فيما رُوي لنا عنهم ليقولون: صمنا عشرا من شهر رمضان، لتغليبهم الليالي على الأيام وذلك أن العدد عندهم قد جرى في ذلك بالليالي دون الأيام، فإذا أظهروا مع العدد مفسره أسقطوا من عدد المؤنث الهاء، وأثبتوها في عدد المذكر، كما قال تعالى ذكره: "سَخّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثمانِيَةَ أيَامٍ حُسُوما" فأسقط الهاء من سبع، وأثبتها في الثمانية. وأما بنو آدم، فإن من شأن العرب إذا اجتمعت الرجال والنساء ثم أبهمت عددها أن تخرجه على عدد الذكران دون الإناث، وذلك أن الذكران من بني آدم موسوم واحدهم وجمعه بغير سمة إناثهم، وليس كذلك سائر الأشياء غيرهم، وذلك أن الذكور من غيرهم ربما وسم بسمة الأنثى، كما قيل للذكر والأنثى شاة، وقيل للذكور والإناث من البقر بقر، وليس كذلك في بني آدم.
فإن قال: فما معنى زيادة هذه العشرة الأيام على الأشهر؟ قيل:
عن أبي العالية قال: لأنه ينفخ فيه الروح في العشر.
"فإذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنّ بالمَعْرُوفِ": فإذا بلغن الأجل الذي أبيح لهنّ فيه ما كان حظر عليهن في عددهن من وفاة أزواجهنّ، وذلك بعد انقضاء عددهن، ومضيّ الأشهر الأربعة والأيام العشرة، فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف. يقول: فلا حرج عليكم أيها الأولياء -أولياء المرأة- فيما فعل المتوفي عنهنّ حينئذٍ في أنفسهن من تطيب وتزين ونقلة من المسكن الذي كنّ يعتددن فيه ونكاح من يجوز لهن نكاحه بالمعروف يعني بذلك: على ما أذن الله لهنّ فيه وأباحه لهن. وقد قيل: إنما عنى بذلك النكاح خاصة. وقيل: إن معنى قوله بالمَعْرُوفِ إنما هو النكاح الحلال... "وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ": والله بما تعملون أيها الأولياء في أمر من أنتم وليه من نسائكم من عضلهن وإنكاحهنّ ممن أردن نكاحه بالمعروف، ولغير ذلك من أموركم وأمورهم، خبير يعني ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه منه شيء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا}؛ قيل: هي ناسخة لقوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف} [البقرة: 240] إنها وإن [كانت] مقدمة في الذكر، وتلك مؤخرة، ف: {أربعة أشهر وعشرا} ناسخة لتلك. إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل. ألا ترى إلى ما جاء في الخبر أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن ابنتها توفي عنها زوجها، واشتكت عينها، وهي تريد أن تكحلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد كانت] إحداكن في الجاهلية تجلس حولا في منزلها، ثم تخرج عند رأس الحول، فترمي بالبعيرة، وإنما هي أربعة أشهر وعشرا [مسلم: 1488]؟ فثبت أن ما كان ذلك، مما تقدم الأمر به، نسخ بالثاني. وقال آخرون: إنه قد أثبت في الآية متاعا أو وصية، ثم ورد النسخ على كل وصية كانت للوارث بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) [الترمذي: 2121]، وإلا كان الاعتداد الواجب اللازم هو أربعة أشهر وعشرا. وأمكن أن يستدل بقوله: {فإن خرجن} إذ كان على إثر قوله: {غير إخراج} [البقرة: 241]؛ {فإن خرجن} كان النهي على الإخراج دون الخروج، وهذا أصل في الوصايا بالمتاع؛ ألا يمنع الرد، وإن أجبر على التسليم.
وفي الآية دلالة جواز الوصية بالسكنى إذا بطلت بحق الميراث لا بحق الوصية، والله الموفق، وهو جائز في من لم تنسخ له الوصية.
وأمكن الاستدلال بالآية على عدة الوفاة بالحبل إذا ثبت ما روي أنه يكون [أربعين يوما نطفة، و] أربعين يوما علقة، وأربعين يوما مضغة، ثم ينفخ فيه الروح في العشر. فإذا كان ما ذكر أمرت بتربص أربعة أشهر وعشر ليتبين الحبل إن كان بها. وإذا كان بهذا معنى العدة، فإذا ولدت بدونه انقضت العدة، والله أعلم... ثم الأمر بالإحداد أربعة أشهر وعشرا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا المرأة على زوجها، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا) [البخاري: 5334] فإن قيل: أليس وجب ذلك على المطلقة؟ والخبر إنما جاء في الموت، وهو فوت النعمة في الدين، وذلك الفوت في الطلاق كهو في الموت. [قيل] ألا ترى أنه لم يجب ذلك في موت أبيها ولا في موت ولدها؟ دل أنه لم يجب للموت نفسه، ولكن لفوت النعمة في الدين. ألا ترى أنه روي في الخبر: (أن المرأة الصالحة مفتاح الجنة) [بنحوه مسلم 1467] فأمرت بإظهار الحزن على ما فات منها من النعمة بترك الزينة والتشوف؟ إذ النكاح نعمة، ثم الدخول بها سواء في وجوب المهر والعدة وترك الزينة وإظهار الحزن على فوت النعمة. وأما المطلقة قبل الدخول بها لم يلزمك ذلك، لأن العدة لم تلزمها، فتتجدد لها النعمة لما لها أن [تنكح] للحال، فتكسب نعمة، والله أعلم. ألا ترى أن الصبي الصغير إذا مات عن امرأته تلزمها أربعة أشهر وعشر؟ دل هذا أن وجوبها لفوت النعمة، والله أعلم. [وقوله: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلتم في أنفسكم بالمعروف والله بما تعلمون خبير}؛ قوله: {فيما فعلن في أنفسهم} أي] في الأكفاء بمهر مثلهن...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها الأئمة وجماعة المسلمين {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ} من التعرّض للخطاب {بالمعروف} بالوجه الذي لا ينكره الشرع. والمعنى أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمة أن يكفوهن. وإن فرّطوا كان عليهم الجناح.
يتوفون معناه يموتون ويقبضون قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} وأصل التوفي: أخذ الشيء وافيا كاملا، فمن مات فقد وجد عمره وافيا كاملا، ويقال: توفي فلان، وتوفي إذا مات، فمن قال: توفي. كان معناه قبض وأخذ. ومن قال: توفى؛ كان معناه توفى أجله واستوفى أكله وعمره وعليه قراءة علي عليه السلام يتوفون بفتح الياء.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{والله بما تعملون خبير} وعيد يتضمن التحذير، وخبير للمبالغة، وهو العلم بما لطف والتقصي له...
قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ...}... فإن قلت: ما فائدة قوله: « بِأَنْفُسِهِنَّ»؟ قلت: فائدته التنبيه على مجاهدة النفس بمنعها شهواتها وتحملها الصبر على النكاح حتى تنقضي العدة... فإن قلت: ظاهر الآية أن يكون التربص مقصودا لها. والمذهب على أنها إذا لم تعلم بوفاة زوجها إلاّ بعد مضي العدة فإنّها تجزيها تلك ولا تستأنف عدة أخرى بوجه؟ قلنا: الأغلب في النساء معرفة -وكذلك المذهب- في الأربعة أشهر وعشرا أنها تكفي بشرط أن تحيض فيها حيضة وهو الأعم الأغلب في النساء فإن لم تحض واسترابت رفعت إلى تسعة أشهر فإن زالت عنها الرّيبة فقد انقضت عدتها وإن استرابت بحس بطن فإنّها تمكث أقصى أمد الحمل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي: لما ذكر عدة الطلاق الذي هو فرقة الحياة، انتظم برأس آيته ذكر عدة الوفاة الذي هو فراق الموت واتصل بالآية السابقة لما انجر في ذكر الرضاع من موت الوالد وأمر الوارث وكذلك كل آية تكون رأساً لها متصلان متصل بالرأس النظير لها المنتظمة به ومتصل بالآية السابقة قبلها بوجه ما...
{والذين} أي وأزواج الذين {يتوفون منكم} أي يحصل وفاتهم بأن يستوفي أنفسهم التي كانت عارية في أبدانهم الذي أعارهم إياها.
قال الحرالي: من الوفاة وهو استخلاص الحق من حيث وضع، إن الله عز وجل نفخ الروح وأودع النفس ليستوفيها بعد أجل من حيث أودعها فكان ذلك توفياً تفعلاً من الوفاء وهو أداء الحق {ويذرون} من الوذر وهو أن يؤخذ المرء عما شأنه إمساكه {أزواجاً} بعدهم.
ولما أريد تأكيد التربص مراعاة لحق الأزواج وحفظاً لقلوب الأقارب واحتياطاً للنكاح أتى به في صيغة الخبر الذي من شأنه أن يكون قد وجد وتمّ فقال:
{يتربصن} أي ينتظرن أزواجهن لانقضاء العدة.
ولما كان الممنوع إنما هو العقد والتعرض له بالأفعال دون طلبه بالتعريض قال معبراً بالنفس لذلك وللتنبيه على أن العجلة عن ذلك إنما تكون شهوة نفسانية بهيمية ليكون ذلك حاويا على البعد عنها: {بأنفسهن} فلا يبذلنها لزوج ولا يخرجن من منزل الوفاة ويتركن الزينة وكل ما للنفس فيه شهوة تدعو إلى النكاح كما بينت ذلك السنّة {أربعة أشهر وعشراً} إن كن حرائر ولم يكن حمل سواء [أكانت] صغيرة [أم] كبيرة تحيض [أم] لا، ابتداؤها من حين الوفاة لأنها السبب وغلب الليالي فأسقط التاء لأن أول الشهر الليل.
{فإذا بلغن أجلهن} ولما كان الله سبحانه وتعالى قد جعل المسلمين كالجسد الواحد وكان الكلام في أزواج الموتى أعلم سبحانه وتعالى بأنه يجب على إخوانهم المسلمين من حفظ حقوقهم ما كانوا يحفظونه لو كانوا أحياء بقوله: {فلا جناح عليكم} أي يا أهل الدين {فيما} ولما كان لا بد من إذن المرأة وقد تأذن للقاضي على رغم الولي عند عضله مثلا أسند الفعل إليهن فقال: {فعلن في أنفسهن} أي من النكاح ومقدماته التي كانت ممنوعة منها بالإحداد، ولا يحمل هذا على المباشرة ليكون دليلاً على -إنكاح المرأة نفسها لمعارضة آية {ولا تعضلوهن} المتأيدة بالسنّة.
ولما كان ذلك قد لا يكون على وجه شرعي قال: {بالمعروف} لينصرف إلى الكامل فلا يكون في ذلك شوب نكارة، فإن فعلن ما ينكر كان على الناس الجناح بترك الأمر كما عليهن بالفعل؛ وأجمع الفقهاء غير أبي مسلم الأصفهاني على أن هذه الآية ناسخة لآية العدة بالحول، والتقدم في التلاوة لا يمنع التأخر في النزول لأن الترتيب ليس على ترتيب النزول...
ولما كان التقدير: فالله حد لكم هذه الحدود فاحفظوها عطف عليه قوله محذراً من التهاون في شيء منها في أنفسهم أو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق غيرهم: {والله} أي الذي له صفات الكمال {بما تعملون} من سر وعلانية.
ولما كان هنا من أمر العدة ما لم تعرفه العرب قبل فربما أنكرته القلوب لكونها لم تفهم سره وكان أمر النكاح وإن قيد بالمعروف باطناً ختم بقوله
{خبير} أي يعلم خفايا البواطن كما يعلم ظواهرها فاحذروا مخالفته وأطيعوا أمره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد استيفاء التشريع للمطلقات وللآثار المتخلفة عن الطلاق يأخذ في بيان حكم المتوفى عنها زوجها.. عدتها. وخطبتها بعد انقضاء العدة. والتعريض بالخطبة في أثنائها... والمتوفى عنها زوجها كانت تلقى الكثير من العنت من الأهل وقرابة الزوج والمجتمع كله.. وعند العرب كانت إذا مات زوجها دخلت مكانا رديئا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا مدة سنة، ثم تخرج فتقوم بعدة شعائر جاهلية سخيفة تتفق مع سخف الجاهلية، من أخذ بعرة وقذفها ومن ركوب دابة: حمار أو شاة... إلخ..
فلما جاء الإسلام خفف عنها هذا العنت، بل رفعه كله عن كاهلها؛ ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج واضطهاد الأهل بعده.. وإغلاق السبيل في وجهها دون حياة شريفة، وحياة عائلية مطمئنة. جعل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال -ما لم تكن حاملا فعدتها عدة الحامل- وهي أطول قليلا من عدة المطلقة، تستبرئ فيها رحمها، ولا تجرح أهل الزوج في عواطفهم بخروجها لتوها. وفي أثناء هذه العدة تلبس ثيابا محتشمة ولا تتزين للخطاب. فأما بعد هذه العدة فلا سبيل لأحد عليها. سواء من أهلها أو من أهل الزوج. ولها مطلق حريتها فيما تتخذه لنفسها من سلوك شريف في حدود المعروف من سنة الله وشريعته، فلها أن تأخذ زينتها المباحة للمسلمات، ولها أن تتلقى خطبة الخطاب، ولها أن تزوج نفسها ممن ترتضي. لا تقف في سبيلها عادة بالية، ولا كبرياء زائفة. وليس عليها من رقيب إلا الله: {والله بما تعملون خبير}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال إلى بيان عدة الوفاة بعد الكلام عن عدة طلاق وما اتصل بذلك من أحكام الإرضاع عقب الطلاق، تقصيا لما به إصلاح أحوال العائلات، فهو عطف قصة على قصة.
ويتوفون مبني للمجهول، وهو من الأفعال التي التزمت العرب فيها البناء للمجهول مثل عني واضطر، وذلك في كل فعل قد عرف فاعله ما هو، أو لم يعرفوا له فاعلاً معيناً. وهو من توفاه الله أو توفاه الموت فاستعمال التوفي منه مجاز، تنزيلاً لعمر الحي منزلة حق للموت، أو لخالق الموت، فقالوا: توفى فلان كما يقال: توفى الحق ونظيره قبض فلان، وقبض الحق فصار المراد من توفى: مات، كما صار المراد من قبض وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية وجاء الإسلام فقال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس} [الزمر: 42] وقال: {حتى يتوفاهن الموت} [النساء: 15] وقال: {قل يتوفاكم ملك الموت} [السجدة: 11] فظهر الفاعل المجهول عندهم في مقام التعليم أو الموعظة، وأبقي استعمال الفعل مبنياً للمجهول فيما عدا ذلك إيجازاً وتبعاً للاستعمال...
فإن قلت: كيف لا تلتفت الشريعة على هذا إلى ما في طباع النساء من الحزن على وفاة أزواجهن؟ وكيف لا تبقى بعد نسخ حزن الحول الكامل مدة ما يظهر فيها حال المرأة؟ وكيف تحل الحامل للأزواج لو وضعت حملها وزوجها لما يوضع عن سريره كما وقع في قول عمر؟
قلت: كان أهل الجاهلية يجعلون إحداد الحول فرضاً على كل متوفى عنها، والأزواج في هذا الحزن متفاوتات، وكذلك هن متفاوتات في المقدرة على البقاء في الانتظار لقلة ذات اليد في غالب النساء، فكن يصبرن على انتظار الحول راضيات أو كارهات، فلما أبطل الشرع ذلك فيما أبطل من أوهام الجاهلية، لم يكترث بأن يشرع للنساء حكماً في هذا الشأن، ووكله إلى ما يحدث في نفوسهن وجِدَتهن، كما يوكل جميع الجبليات والطبيعيات إلى الوجدان؛ فإنه لم يعين للناس مقدار الأكلات والأسفار والحديث ونحو هذا، وإنما اهتم بالمقصد الشرعي وهو حفظ الأنساب، فإذا قضى حقه فقد بقي للنساء أن يفعلن في أنفسهن ما يشأن من المعروف، كما قال: {فلا جناح عليكم فيما فعلن} فإذا شاءت المرأة بعد انقضاء العدة أن تحبس نفسها فلتفعل...
والحكمة من الإحداد سد ذريعة كل ما يوسوس إلى الرجال من رؤية محاسن المرأة المعتدة، حتى يبتعدوا عن الرغبة في التعجل بما لا يليق، ولذلك اختلف العلماء في الإحداد على المطلقة، فقال مالك والشافعي وربيعة وعطاء: لا إحداد على مطلقة، أخذاً بصريح الحديث، وبأن المطلقة يرقبها مطلقها ويحول بينها وبين ما عسى أن تتساهل فيه، بخلاف المتوفى عنها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآيات السابقة بين سبحانه إنشاء الزواج، و ما ينبغي أن يكون في الاختيار وما يجب، ثم بين العشرة الزوجية، ثم بين الفراق بين الزوجين والأحكام التي تتبع عند الافتراق، وأن الزواج إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وأنه إذا لم يكن واحدا منهما فهو الكفر في الإسلام، أو الجهل بأحكامه أو الزيغ عن قانونه.
و الخروج من ربقته ونظامه، ثم أشار سبحانه إلى حقوق ثمرة الزواج في حالي الوفاق والخلاف، وأنها حقوق مقرة في الحالين. و بعد ذلك بين الحكم إذا فرق بين الزوجين الموت، فذكر القيود المعقولة التي تقيد بها المرأة، وبعدها تكون الحرية التي يكون من آثارها اختيار الزوج الكفء، فقد قال تعالى: {و الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} في هذه الآية الكريمة يتبين عدة المتوفى عنها زوجها، وهي أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام.
وعبر سبحانه عن العشر بما يدل على أن المعدود مؤنث، إذ إنه حذف التاء، فدل على أن المراد عشر ليال والمؤدى واحد، ولكن التعبير بالليالي فيه فائدة أكبر من التعبير بالأيام؛ لأن فيه إشارة إلى أن تقدير الأشهر بالقمرية... لأن الليالي هي التي تعرف فيها أحوال القمر وأدواره، فكان التعبير بها توجيها لما يكون فيها، وهو القمر بأطواره وأحواله...
و "يتربصن "هي خبر في معنى الطلب فالمعنى ليتربصن، كقوله تعالى: {و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} (البقرة 233) وفي ذلك إشارة إلى أن التربص أمر نظري يتلاقى مع الأمر الشرعي، فإن الحرة الكريمة لا ترضى لنفسها ولا ترضى معها أسرتها أن تتزوج فور وفاة زوجها، أو بعدها بمدة قليلة، فإن ذلك أمر مستهجن في الفطرة السليمة، وفي الشرع الحكيم، وفي عرف الناس، ولا ترضى العقول به والمدارك الصحيحة.
و كان من ذلك التعبير قوله تعالى: {بأنفسهن} فيه إشارة إلى أن ذلك التربص فيه صيانة لأنفسهن، وحفظ لكرامتهن، ودفع لمعنى الامتهان والعار الذي يلحق المرأة من أن يموت ضجيعها، فلا تلبث إلا قليلا بعد أن يسجى ويدفن، حتى تعرض نفسها طالبة الأزواج، كأنه ليس المتوفى عشيرا أليفا يستحق الحداد. و قد حد الشارع للمتوفى عنها زوجها عدة هي في جملتها أكثر من عدة المطلقات، لأن تلك ثلاثة قروء تجيء عادة في نحو ثلاثة أشهر.
وهنا يرد سؤالان: أولهما: لماذا كانت العدة في المتوفى عنها زوجها بالأشهر دون الحيض، فلم تجعل أربع حيضات بدل ثلاثة؟ ولماذا كانت الزيادة؟
و لم نجد أحدا تصدى لبيان الحكمة في جعلها بالأشهر، ويبدو لنا أن الحكمة التي تدركها عقولنا – وإن كانت الحكمة الشرعية السامية قد تعلو على مداركنا – هي أن عدة الوفاة تكون للمدخول بها وغير المدخول بها، وللصغيرة والكبيرة، والأساس فيها هو الحداد على الزواج السابق الذي انتهى بوفاة أحد ركنيه، فلزم أن يكون بأمر يشترك فيه الجميع مادام السبب واحدا في الجمع، وفوق ذلك إن العدة في الوفاة لو قدرت بالحيض، وهو أمر لا يعلم إلا من جهة المرأة، فربما تدفعها الرغبة في الزواج إلى الكذب فتدعيه وهو لم يقع، وفي المطلقات العدة حق للمطلق فيستطيع أن ينكر عليها، أو يظهر كذبها، وهي تخشى صولته، فتبتعد ما أمكن من المراء، أما في حال الوفاة فصاحب الحق الأول قد مات وصار الحق لله خاصا، فحد ذلك الحق بالأشهر والأيام حتى لا يكون مساغا للكذب وادعاء ما لم يحصل، لأن الأيام والأشهر تعرف بالكتاب والحساب، وليست أمرا يعرف من جهتها فقط...
أما الجواب عن الأمر الثاني وهو: لماذا كانت العدة بالوفاة أكثر في الجملة من العدة الناشئة عن الطلاق؟ فيبدو بادي الرأي، من الفرق بين حال الطلاق وحال الوفاة، أن الطلاق نتيجة شقاق، فالحداد على الزوج الذي ينشئه ليس قويا، ومعنى براءة الرحم وإعطاء الزوج فرصة للرجعة يكون أوضح في معنى العدة، ويكفي لذلك نحو ثلاثة أشهر، أما حال الموت، فإن مرارة الفراق فيها أوضح وأشد، ومعنى الحداد يغلب فيها معنى براءة الرحم، ولذلك تجب على المدخول بها وغير المدخول بها، وإن الشارع قد جعلها لذلك أطول من عدة الطلاق، وإن الشارع الحكيم قد خفف من حدة ما كانت تعمله النسوة الجاهلية... و قد يرد سؤال آخر: لماذا حد العدد بأربعة أشهر وعشرا؟ وإن تقدير الأعداد كما يقرر الفقهاء أمر توفيقي خالص لا يجري فيه القياس، ولكن ليس معنى ذلك أنه لا حكمة فيه، وإن الحكمة يقررها العلماء في أمرين:
أولهما – أن الأشهر الأربعة هي التي يظهر فيها الحمل ويستبين، وقد جعلت العشر بعدها للاحتياط، وتعرف أعراضه وظواهره، وذلك لأنه لما وكل أمر براءة الرحم إلى مدة، لوحظ فيه المدة التي فيها يعرف ويستبين وتظهر أعراضه.
ثانيهما – أن مدة أربعة الأشهر هي المدة التي قررها الشارع أقصى مدة للحرمان من الرجال، ولذلك جعل الإيلاء مدته أربعة أشهر... فكان من التنسيق بين الأحكام الشرعية أن تجعل مدة الإحداد على الزواج في حدود هذه المدة، ومقاربة لها في الجملة، وليس من المعقول أن يعاقب الشارع الرجل إذا أصر على هجر زوجه بالفراق إذا أصر عليه أربعة أشهر، وفي الوقت نفسه يلزمها بالحداد مدة أطول من ذلك، بل ينبغي أن تكون مدة الإحداد حول هذه المدة أيضا...
{فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} بينت الجملة السامية السابقة مدة العدة للمتوفى عنهن أزواجهن، وفي هذه الجملة الكريمة يبين سبحانه وتعالى انتهاءها وما يترتب على الانتهاء، والمعنى: إذا انتهت المدة المقررة للتربص، فلا إثم على الناس فيما يفعلن في أنفسهن من زينة واستعداد للزواج والزواج بالفعل، ونرى في التعبير الفعل المباح منسوبا لهن، ونفي الإثم عن الناس المتصلين بهؤلاء المتوفى عنهن أزواجهن، وفي ذلك دلالة على أمرين:
أحدهما: أن المرأة تباح لها الزينة بالمعروف، أي بالأمر المعقول الذي تقره العقول، وتدركه الأفهام، وتعرفه أهل المدارك السليمة والأذواق الدقيقة المحكومة بشكائم الأخلاق، يدخل فيما يفعلن بأنفسهن الزواج، فلها اختيار الزوج، وتولي العقد، بشرط أن يكون ذلك في دائرة العرف والتقيد بالكفاءة، وألا تجلب عارا على أسرتها وذويها.
وثانيهما: أن نفي الإثم عن الجماعة فيما يفعلن بأنفسهن بالمعروف غير المستنكر، دليل على أن الجماعة الإسلامية متعاونة متآزرة متماسكة بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، وأن على كل امرئ أن يصلح من شأن أخيه، ويقومه بالمعروف، ويبين له أوامر الشرع وحكم الله تعالى، و لا تذهب عنه هذه المسؤولية حتى يكون عمل من يكون ذا صلة به في دائرة الشرع والخلق القويم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[الملاحظ] في الآية وفي غيرها من الآيات، وهي اختتام الجملة المتضمنة للتشريع بالتأكيد على رقابة اللّه على الإنسان من خلال خبرته المطلقة بكلّ خفاياه وقضاياه، تمثّل أسلوباً تربوياً في ربط المكلّف بالحكم الشرعي على أساس الوعي لموقعه من ربه وموقع ربه منه، حتى لا يكون التكليف مجرّد مادة قانونية جامدةٍ يتلقاها الإنسان بشكل عادي، بحيث لا تثير في نفسه أي معنى يربط الإلزام بالخطّ الإيماني الروحي المنفتح على إشراف اللّه عليه. وقد يكون من الضروري أن ينطلق الدعاة والمبلغون للأخذ بهذا الأسلوب في نطاق التبليغ للأحكام الشرعية الإسلامية، والدعوة إلى الالتزام بها في حياة المسلمين...