47- ونضع الموازين التي تقيم العدل يوم القيامة ، فلا تُظَلَم نفس بنقص شيء من حسناتها أو زيادة شيء في سيئاتها ، ولو كان وزن حبة صغيرة أتينا بها وحاسبنا عليها ، وكفي أن نكون الحاسبين فلا تظلم نفس شيئاً{[132]} .
ويختم الشوط بالإيقاع الأخير من مشاهد يوم الحساب :
( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا . وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها . وكفى بنا حاسبين ) . .
والحبة من خردل تصور أصغر ما تراه العيون وأخفه في الميزان ، وهي لا تترك يوم الحساب ولا تضيع . والميزان الدقيق يشيل بها أو يميل !
فلتنظر نفس ما قدمت لغد . وليصغ قلب إلى النذير . وليبادر الغافلون المعرضون المستهزئون قبل أن يحق النذير في الدنيا أو في الآخرة . فإنهم إن نجوا من عذاب الدنيا فهناك عذاب الآخرة الذي تعد موازينه ، فلا تظلم نفس شيئا ، ولا يهمل مثقال حبة من خردل .
وهكذا ترتبط موازين الآخرة الدقيقة ، بنواميس الكون الدقيقة ، بسنن الدعوات ، وطبائع الحياة والناس . وتلتقي كلها متناسقة موحدة في يد الإرادة الواحدة مما يشهد لقضية التوحيد وهي محور السورة الأصيل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَنَضَعُ المَوَازِينَ" العدل وهو القِسْطَ... وقوله: "لِيَوْمِ القِيامَةِ "يقول: لأهل يوم القيامة، ومن ورد على الله في ذلك اليوم من خلقه. وقد كان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك إلى «في» كأن معناه عنده: ونضع الموازين القسط في يوم القيامة.
وقوله: "فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا" يقول: فلا يظلم الله نفسا ممن ورد عليه منهم شيئا بأن يعاقبه بذنب لم يعمله أو يبخسه ثواب عمل عمله وطاعة أطاعه بها، ولكن يجازي المحسن بإحسانه، ولا يعاقب مسيئا إلا بإساءته...
وقوله: "وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلِ أتَيْنا بِها" يقول: وإن كان الذي له من عمل الحسنات أو عليه من السيئات وزن حبة من خردل "أتَيْنَا بِهَا" يقول: جئنا بها فأحضرناها إياه... قال ابن زيد، في قوله: "وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أتَيْنا بِها" قال: كتبناها وأحصيناها له وعليه... عن مجاهد، في قوله: "وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أتَيْنا بِها" قال: جازينا بها...
وقوله: "وكَفَى بِنا حاسِبِينَ" يقول: وحسب من شهد ذلك الموقف بنا حاسبين، لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم وما سلف في الدّنا من صالح أو سيئ منا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها} أي أتينا بجزائها، أو {أتينا بها} أي بعينها، لا يفوته شيء، ولا يغيب عنه. وليس المراد من ذكر مثقال حبة ومثقال ذرة الذرة والحبة، ولكن ذكر على التمثيل، أن لا يفوت عنه شيء، ولا يغيب، ذلك المقدار من الخير والشر غير فائت عنه ولا منسي، ولكن محفوظ محاسب.
{وكفى بنا حاسبين} لا تشغله كثرة الحساب وازدحامه، ليس كمن يحاسب آخر في الشاهد؛ إنه إذا كثر الحساب عليه وازدحم، شغله ذلك عن حفظ الحساب، والله أعلم...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
الموازين حق توزن فيها أعمال العباد، نؤمن لها ولا ندري كيف هي...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وكفى بنا حاسبين" أي وكفى المطيع أو العاصي بمجازاة الله وحسبه ذلك. وفي ذلك غاية التهديد، لأنه إذا كان الذي يتولى الحساب لا يخفى عليه قليل ولا كثير، كان أعظم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
توزن الأعمالُ بميزان الإخلاص فما ليس فيه إخلاصٌ لا يُقْبَل، وتوزن الأحوالُ بميزان الصدق فما يكون فيه الإعجابُ لا يُقْبَل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وصفت {الموازين} بالقسط وهو العدل، مبالغة، كأنها في أنفسها قسط...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الموازين} وإنما جمعها وهو ميزان واحد من حيث لكل أحد وزن يخصه.. وقوله تعالى: {ليوم القيامة} أي لحساب يوم القيامة أو لحكم يوم القيامة فهو بتقدير حذف مضاف والجمهور على أن الميزان في يوم القيامة بعمود وكفتين توزن به الأعمال؛ ليبين المحسوس المعروف عندهم، والخفة والثقل متعلقة بأجسام، ويقرنها الله تعالى يومئذ بالأعمال، فإما أن تكون صحف الأعمال أو مثالات تخلق أو ما شاء الله تعالى...
ثم بين سبحانه وتعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلا عدلا، فهم وإن ظلموا أنفسهم في الدنيا فلن يظلموا في الآخرة، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى: {ونضع الموازين القسط} وصفها الله تعالى بذلك؛ لأن الميزان قد يكون مستقيما وقد يكون بخلافه، فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل والقسط، وأكد ذلك بقوله: {فلا تظلم نفس شيئا}...
الدليل على وجود الموازين الحقيقية أن حمل هذا اللفظ على مجرد العدل مجاز، وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز، لا سيما وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في هذا الباب...
المسألة الرابعة: إنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم وهو جمع تفخيم، ويجوز أن يرجع إلى الموزونات...
أما قوله تعالى: {وكفى بنا حاسبين} فالغرض منه التحذير، فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء، حقيق بالعاقل أن يكون في أشد الخوف منه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بيّن ما افتتحت السورة من اقتراب الساعة بالقدرة عليه واقتضاء الحكمة له، وأن كل أحد ميت لا يستطيع شيئاً من الدفع عن نفسه فضلاً عن غيره، وختمت الآيات بإقرار الظالم بظلمه، وكانت عادة كثير من الناس الجور عند القدرة، بين أنه سبحانه بخلاف ذلك فذكر بعض ما يفعل في حساب الساعة من العدل فقال عاطفاً على قوله {بل تأتيهم بغتة}: {ونضع} فأبرزه في مظهر العظمة إشارة إلى هوانه عنده وإن كان لكثرة الخلائق وأعمال كل منهم متعذراً عندنا {الموازين} المتعددة لتعدد الموزونات أو أنواعها. ولما كانت الموازين آلة العدل، وصفها به مبالغة فقال {القسط} أي العدل المميز للأقسام على السوية.
ولما كان يوم الجزاء علة في وضع المقادير، عبر باللام ليشمل -مع ما يوضع فيه- ما وضع الآن لأجل الدينونة فيه فقال: {ليوم القيامة} الذي أنتم عنه -لإعراضكم عن الذكر- غافلون. ولما جرت العادة بأن الملك قد يكون عادلاً فظلم بعض أتباعه، بين أن عظمته في إحاطة علمه وقدرته تأبى ذلك، فبنى الفعل للمجهول فقال: {فلا} أي فتسبب عن هذا الوضع أنه لا {تظلم} أي من ظالم ما {نفس شيئاً} من عملها {وإن كان} أي العمل {مثقال حبة} هذا على قراءة الجماعة بالنصب.
والتقدير على قراءة نافع بالرفع: وإن وقع أو وجد {من خردل} أو أحقر منه، وإنما مثل به لأنه غاية عندنا في القلة، وزاد في تحقيره بضمير التأنيث لإضافته إلى المؤنث فقال: {أتينا بها} بما لنا من العظمة في العلم والقدرة وجميع صفات الكمال فحاسبناه عليها، والميزان الحقيقي. ووزن الأعمال على صفة يصح وزنها معها بقدرة من لا يعجزه شيء.
ولما كان حساب الخلائق كلهم على ما صدر منهم أمراً باهراً للعقل، حقره عند عظمته فقال: {وكفى بنا} أي بما لنا من العظمة {حاسبين} أي لا يكون في الحساب أحد مثلنا، ففيه توعد من جهة أن معناه أنه لا يروج عليه شيء من خداع ولا يقبل غلطاً، ولا يضل ولا ينسى، إلى غير ذلك من كل ما يلزم منه نوع لبس أو شوب نقص، ووعد من جهة أنه لا يطلع على كل حسن فقيد وإن دق وخفي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختم الشوط بالإيقاع الأخير من مشاهد يوم الحساب: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا. وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها. وكفى بنا حاسبين).. والحبة من خردل تصور أصغر ما تراه العيون وأخفه في الميزان، وهي لا تترك يوم الحساب ولا تضيع. والميزان الدقيق يشيل بها أو يميل! فلتنظر نفس ما قدمت لغد، وليصغ قلب إلى النذير. وليبادر الغافلون المعرضون المستهزئون قبل أن يحق النذير في الدنيا أو في الآخرة. فإنهم إن نجوا من عذاب الدنيا فهناك عذاب الآخرة الذي تعد موازينه، فلا تظلم نفس شيئا، ولا يهمل مثقال حبة من خردل. وهكذا ترتبط موازين الآخرة الدقيقة، بنواميس الكون الدقيقة، بسنن الدعوات، وطبائع الحياة والناس. وتلتقي كلها متناسقة موحدة في يد الإرادة الواحدة مما يشهد لقضية التوحيد وهي محور السورة الأصيل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والوضع حقيقته: حط الشيء ونَصْبه في مكان، وهو ضد الرفع. ويطلق على صنع الشيء وتعيينه للعمل به وهو في ذلك مجاز...
ويظهر لي أن التزام صيغة جمع الموازين في الآيات الثلاث التي ذكر فيها الميزان يرجح أن المراد بالوزن فيها معناه المجازي وأن بيانه بقوله {القسط} في هذه الآية يزيد ذلك ترجيحاً...
والمثقال: ما يماثل شيئاً في الثقل، أي الوزن، فمِثقال الحبة: مقدارها...
والخردل: حبوب دقيقة كحَبّ السمسم هي بزور شجر يسمى عند العرب الخَردل...
وشجرته ذات ساق دقيقة ينتهي ارتفاعها إلى نحو متر...
وجملة {وكفى بنا حاسبين} عطف على جملة {وإن كان مثقال حبة من خردل}... ومعنى كفاهم نحن حاسبين أنهم لا يتطلعون إلى حاسب آخر يعدل مثلَنا. وهذا تأمين للناس من أن يجازى أحد منهم بما لا يستحقه. وفي ذلك تحذير من العذاب وترغيب في الثواب.
وحبة الخردل تدل في صغرها على الحجم، وكلمة مثقال تدل على الوزن، فجمع فيها الحجم والوزن.