أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه السورة الكريمة أن يبلغ الناس ما أوحى إليه من استماع الجن إلى قراءته ، واستجابتهم لدعوته ، وإخبارهم بما كان من سفهائهم وصالحيهم ، وما كان من قعودهم لاستراق السمع ثم طردهم عنه الآن ، وعرضت آيات السورة للمستقيمين على طريقة الإسلام والمعرضين عنه ، وتحدثت عن خلوص المساجد والعبادة لله وحده وعن دعوة الرسول إلى الله ، والتفاف الجن حوله ، وحددت ما لا يملكه الرسول من الأمور وما يملكه ، وحذرت العاصين لله ورسوله من جهنم وخلودهم فيها .
وذكرت في ختامها أن الله مختص بعلم الغيب ، ويطلع عليه من يصطفيه من خلقه ليكون رسولا ، ويحفظ الوحي بحراس حتى يبلغه الناس تاما والله يعلمه كذلك .
1 - قل يا - محمد - لأمتك : أوحى الله إلىَّ أن جماعة من الجن قد استمعوا إلى قراءتي للقرآن ، فقالوا لقومهم : إنا سمعنا قرآناً بديعاً لم نسمع مثله من قبل ، يدعو إلى الهدى والصواب ، فآمنا - بالقرآن الذي سمعناه - ولن نشرك مع ربنا - الذي خلقنا وربانا - أحداً في عبادته .
سورة الجن مكية وآيتها ثمان وعشرون
هذه السورة تبده الحس - قبل أن ينظر إلى المعاني والحقائق الواردة فيها - بشيء آخر واضح كل الوضوح فيها . . إنها قطعة موسيقية مطردة الإيقاع ، قوية التنغيم ، ظاهرة الرنين ؛ مع صبغة من الحزن في إيقاعها ، ومسحة من الأسى في تنغيمها ، وطائف من الشجى في رنينها ، يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة وظلالها ومشاهدها ، ثم روح الإيحاء فيها . وبخاصة في الشطر الأخير منها بعد انتهاء حكاية قول الجن ، والاتجاه بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة ، عطفا مصحوبا بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شيء في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ ، والرقابة الإلهية المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغ : ( قل : إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا . . قل : إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا . . قل : إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ، إلا بلاغا من الله ورسالاته ، ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ، حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا . . قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وأحاط بما لديهم ، وأحصى كل شيء عددا ) . .
وذلك كله إلى جانب الإيقاع النفسي للحقائق التي وردت في حكاية قول الجن ، وبيانهم الطويل المديد . وهي حقائق ذات ثقل ووزن في الحس والتصور ؛ والاستجابة لها تغشى الحس بحاله من التدبر والتفكير ، تناسب مسحة الحزن ورنة الشجى المتمشية في إيقاع السورة الموسيقي !
وقراءة هذه السورة بشيء من الترتيل الهادئ ، توقع في الحس هذا الذي وصفناه من المسحة الغالبة عليها . .
فإذا تجاوزنا هذه الظاهرة التي تبده الحس ؛ إلى موضوع السورة ومعانيها واتجاهها فإننا نجدها حافلة بشتى الدلالات والإيحاءات .
إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها أشد الجدل ، ويرجمون في أمرها رجما لا يستندون فيه إلى حجة ، ويزعمون أحيانا أن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها ! فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها ؛ وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا . والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فهالهم وراعهم ومسهم منه ما يدهش ويذهل ، وملأ نفوسهم وفاض حتى ما يملكون السكوت على ما سمعوا ، ولا الإجمال فيما عرفوا ، ولا الاختصار فيما شعروا . فانطلقوا يحدثون في روعة المأخوذ ، ووهلة المشدوه ، عن هذا الحادث العظيم ، الذي شغل السماء والأرض والإنس والجن والملائكة والكواكب . وترك آثاره ونتائجه في الكون كله ! . . وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشرية حتما .
ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة ، وفي نفوس الناس جميعا من قبل ومن بعد ؛ ووضع حقيقة هذا الخلق المغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف . فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطانا في الأرض ، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر ، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض ، فقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه . . ثم بات آمنا ! كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به الكهان فيتنبأون بما يتنبأون . وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين الله نسبا ، وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة !
والاعتقاد في الجن على هذا النحو أو شبهه كان فاشيا في كل جاهلية ، ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا ! ! !
وبينما كانت الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم وتصوراتهم عن الجن في القديم ، وما تزال . . نجد في الصف الآخر اليوم منكرين لوجود الجن أصلا ، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنه حديث خرافة . .
وبين الإغراق في الوهم ، والإغراق في الإنكار ، يقرر الإسلام حقيقة الجن ، ويصحح التصورات العامة عنهم ، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم :
فالجن لهم حقيقة موجودة فعلا وهم كما يصفون أنفسهم هنا : ( وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ) . . ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون : ( وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ) . . وهم قابلون للهداية من الضلال ، مستعدون لإدراك القرآن سماعا وفهما وتأثرا : ( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ) . . وأنهم قابلون بخلقتهم لتوقيع الجزاء عليهم وتحقيق نتائج الإيمان و الكفر فيهم : ( وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ، فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا . وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون ، فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ، وأما القاسطون ، فكانوا لجهنم حطبا ) . . وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم : ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) . . وأنهم لا يعلمون الغيب ، ولم تعد لهم صلة بالسماء : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ، وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا . . وأنهم لا صهر بينهم وبين الله - سبحانه وتعالى - ولا نسب : ( وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ) . . وأن الجن لا قوة لهم مع قوة الله ولا حيلة : ( وأنا ظننا أن لن نعجزالله في الأرض ولن نعجزه هربا ) . .
وهذا الذي ذكر في هذه السورة عن الجن بالإضافة إلى ما جاء في القرآن من صفات أخرى كتسخير طائفة من الشياطين لسليمان - وهم من الجن - وأنهم لم يعلموا بموته إلا بعد فترة ، فدل هذا على أنهم لا يعلمون الغيب : فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين . .
ومثل قوله تعالى عن خصيصة من خصائص إبليس وقبيله - وهو من الجن - غير أنه تمحض للشر والفساد والإغراء : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم . . وما يدل عليه من أن كيان الجن غير مرئي للبشر ، في حين أن كيان الإنس مرئي للجن .
هذا بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي منها كيان الجن والمادة التي منها كيان الإنسان في قوله : ( خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلق الجان من مارج من نار ) . . يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيب ، تثبت وجوده ، وتحدد الكثير من خصائصه ؛ وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير ، العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق ، وتدع تصور المسلم عنه واضحا دقيقا متحررا من الوهم والخرافة ، ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك !
وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون . أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقا ، فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار ، بصيغة الجزم والقطع ، والسخرية من الاعتقاد بوجوده ، وتسميته خرافة !
ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها ? ! إن أحدا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم . وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرا مما يكشف وجوده يوما بعد يوم ، ولم يقل أحد إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام !
ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها ? ! إن أحدا لا يدعي هذه الدعوى . فهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم ؛ وهي كانت مجهولة بالأمس . والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية ، وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها ، أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون ، وأنهم لم يكادوا يبدأون بعد !
ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها ، فلم يروا الجن من بينها ? ! ولا هذه . فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة . ولكن أحدا منهم لم ير الكهرب قط . وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها !
ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن ? ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشيء ? ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة ? إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم ، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس ، بلا حجة ولا دليل ! ومثل هذا الغيب ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيد الموثوق بصحته ، وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه . فما يقوله هو كلمة الفصل في مثل هذا الموضوع .
والسورة التي بين أيدينا - بالإضافة إلى ما سبق - تساهم مساهمة كبيرة في إنشاء التصور الإسلامي عن حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، ثم عن هذا الكون وخلائقه ، والصلة بين هذه الخلائق المنوعة .
وفي مقالة الجن ما يشهد بوحدانية الله ، ونفي الصاحبة والولد ، وإثبات الجزاء في الآخرة ؛ وأن أحدا من خلق الله لا يعجزه في الأرض ولا يفلت من يديه ويفوته ، فلا يلاقي جزاءه العادل . وتتكرر بعض هذه الحقائق فيما يوجه للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من الخطاب : ( قل : إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا ) . . ( قل : إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ) . . وذلك بعد شهادة الجن بهذه الحقيقة شهادة كاملة صريحة .
كما أن تلك الشهادة تقرر أن الألوهية لله وحده ، وأن العبودية هي أسمى درجة يرتفع إليها البشر : ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ) . . ويؤكد السياق هذه الحقيقة فيما يوجه للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من خطاب : ( قل : إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ) . .
والغيب موكول لله وحده ؛ لا تعرفه الجن : ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) . . ولا تعرفه الرسل إلا ما يطلعهم الله عليه منه لحكمة يعلمها : ( قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا . عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا . . . ) . .
" أما العباد والعبيد في هذا الكون ، فقد علمتنا السورة أن بين بعضها والبعض الآخر مشاركات ومنافذ ، ولو اختلف تكوينها ، كالمشاركات التي بين الجن والإنس ، مما حكته السورة وحكاه القرآن في مواضع أخرى . فالإنسان ليس بمعزل - حتى في هذه الأرض - عن الخلائق الأخرى . وبينه وبينها اتصال وتفاعل في صورة من الصور . وهذه العزلة التي يحسها الإنسان بجنسه - بله العزلة الفردية أو القبلية أو القومية - لا وجود لها في طبيعة الكون ولا في واقعه . وأحرى بهذا التصور أن يفسح في شعور الإنسان بالكون وما يعمره من أرواح وقوى وأسرار . قد يجهلها الإنسان ، ولكنها موجودة بالفعل من حوله ، فهو ليس الساكن الوحيد لهذا الكون كما يعن له أحيانا أن يشعر ! !
ثم إن هناك ارتباطا بين استقامة الخلائق على الطريقة ، وتحركات هذا الكون ونتائجها ، وقدر الله في العباد : ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه . ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ) . . وهذه الحقيقة تؤلف جانبا من التصور الإسلامي للارتباطات بين الإنسان والكون وقدر الله .
وهكذا تمتد إيحاءات السورة إلى مساحات ومسافات وأبعاد وآماد واسعة بعيدة ، وهي سورة لا تتجاوز الثماني والعشرين آية ، نزلت في حادثة معينة ومناسبة خاصة . .
فأما هذا الحادث الذي أشارت إليه السورة . حادث استماع نفر من الجن للقرآن . فتختلف بشأنه الروايات . قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه : " دلائل النبوة " : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بنعبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا إسماعيل القاضي ، أخبرنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " ما قرأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على الجن ولا رآهم . انطلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، أرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ? فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فانطلقوا يضربون مشارق الأرض و مغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء . فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا إليه ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) . . وأنزل الله على نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] : ( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) . . وإنما أوحي إليه قول الجن " [ ورواه البخاري عن مسدد بنحو هذا ، وأخرجه مسلم عن شيبان ابن فروخ عن أبي عوانة بهذا النص ] .
فهذه رواية . وهناك رواية أخرى . . قال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود وهو ابن أبي هند ، عن عامر ، قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة الجن ? قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود - رضي الله عنه - فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة الجن ? قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ذات ليلة ، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقيل : استطير ? اغتيل ? قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فلما أصبحنا إذا هو ، جاء من قبل حراء . قال : فقلنا : يا رسول الله ، فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال : " أتاني داعي الجن ، فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن " . قال : " فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم " وسألوه الزاد فقال : " كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم " . قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " . .
وهناك رواية أخرى عن ابن مسعود أنه كان تلك الليلة مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن إسناد الرواية الأولى أوثق . فنضرب عن هذه وأمثالها . . ومن الروايتين الواردتين في الصحيحين يتبين أن ابن عباس يقول : إن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يعرف بحضور النفر من الجن ، وأن ابن مسعود يقول : إنهم استدعوه . ويوفق البيهقي بين الروايتين بأنهما حادثان لا حادث واحد .
وهناك رواية ثالثة لابن اسحق قال :
" ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب ، فخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم من قومه ، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل ، فخرج إليهم وحده " .
" قال ابن اسحق : فحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال : لما انتهى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة : " ياليل بن عمرو بن عمير ، ومسعود بن عمرو بن عمير ، وحبيب بن عمرو بن عمير . . . وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح . فجلس إليهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فدعاهم إلى الله ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه . فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة [ أي يمزقها ] إن كان الله أرسلك ! وقال الآخر : أما وجد الله أحدا يرسله غيرك ? وقال الثالث : والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام . ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك . فقام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من عندهم وقد يئس من خير ثقيف . وقد قال لهم - فيما ذكر لي - : " إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني " . وكره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يبلغ قومه عنه ، فيذئرهم [ أي يحرشهم ] ذلك عليه ! "
" فلم يفعلوا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، وألجأوه إلى حائط [ أي بستان ] لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة - وهما فيه - ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب [ أي طاقة من قضبان الكرم ] فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف . . . فلما اطمأن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال - فيما ذكر لي - : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ? إلى بعيد يتجهمني ? أم إلى عدو ملكته أمري ? إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " " . .
" قال : فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحركت له رحمهما ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له : عداس . فقال له " خذ قطفا من هذا العنب ، فضعه في هذا الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه . ففعل عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم قال له : كل . فلما وضع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيه يده قال : " بسم الله " ثم أكل . فنظر عداس في وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد . فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس ? وما دينك ? " قال : نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى . فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ? " فقال عداس : وما يدريك ما يونس ابن متى ? فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ذاك أخي . كان نبيا وأنا نبي " فأكب عداس على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقبل رأسه ويديه وقدميه . قال : يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك ! فلما جاءهما عداس قالا له : ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ? قال : يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا . لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي . قالا له : ويحك يا عداس ! لا يصرفنك عن دينك ، فإن دينك خير من دينه ! "
" قال : ثم إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انصرف من الطائف راجعا إلى مكة ، حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي . فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى ، وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين ، فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا . فقص الله خبرهم عليه [ صلى الله عليه وسلم ] قال الله عز وجل : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن إلى قوله ( ويجركم من عذاب أليم ) . وقال تبارك وتعالى : ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن )إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة .
وقد علق ابن كثير في تفسيره على رواية ابن أسحاق هذه فقال : " هذا صحيح . ولكن قوله : إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر . فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المذكور . وخروجه [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف كان بعد موت عمه . وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره . والله أعلم " .
وإذا صحت رواية ابن إسحاق عن أن الحادث وقع عقب عودة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من الطائف ، مكسور الخاطر من التصرف اللئيم العنيد الذي واجهه به كبراء ثقيف ، وبعد ذلك الدعاء الكسير الودود لربه ومولاه ، فإنه ليكون عجيبا حقا من هذا الجانب . أن يصرف الله إليه ذلك النفر من الجن ، وأن يبلغه ما فعلوا وما قالوا لقومهم ، وفيه من الدلالات اللطيفة الموحية ما فيه . .
وأيا كان زمان هذا الحادث وملابساته فهو أمر ولا شك عظيم . عظيم في دلالاته وفيما انطوى عليه . وفيما أعقبه من مقالة الجن عن هذا القرآن وعن هذا الدين . . فلنمض مع هذا كله كما يعرضه القرآن الكريم .
( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا . وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا . وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ) . .
والنفر ما بين الثلاثة والتسعة كالرهط . وقيل كانوا سبعة .
وهذا الافتتاح يدل على أن معرفة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بأمر استماع الجن له ، وما كان منهم بعد أن سمعوا القرآن منه . . كانت بوحي من الله سبحانه إليه ، وإخبارا عن أمر وقع ولم يعلم به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن الله أطلعه عليه . وقد تكون هذه هي المرة الأولى ، ثم كانت هناك مرة أو مرات أخرى قرأ النبي فيها على الجن عن علم وقصد . ويشهد بهذا ما جاء بشأن قراءته [ صلى الله عليه وسلم ] سورة الرحمن " أخرجه الترمذي بإسناده - عن جابر رضي الله عنه قال : " خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن إلى آخرها ، فسكتوا . فقال : " لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن ردودا منكم . كنت كلما أتيت على قوله تعالى : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ? )قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد " . . وهذه الرواية تؤيد رواية ابن مسعود - رضي الله عنه التي سبقت الإشارة إليها في المقدمة .
ولا بد أن هذه المرة التي تحكيها هذه السورة هي التي تحكيها آيات الأحقاف : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . فلما حضروه قالوا : أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا : يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ، مصدقا لما بين يديه ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء ، أولئك في ضلال مبين ) . .
فإن هذه الآيات - كالسورة - تنبئ عن وهلة المفاجأة بهذا القرآن للجن ، مفاجأه أطارت تماسكهم ، وزلزلت قلوبهم ، وهزت مشاعرهم ، وأطلقت في كيانهم دفعة عنيفة من التأثر امتلأ بها كيانهم كله وفاض ، فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعا ، ولا تملك عليه صبرا ، قبل أن تفيضه على الآخر ينفي هذا الأسلوب المتدفق ، النابض بالحرارة والانفعال ، وبالجد والاحتفال في نفس الأوان ، وهي حالة من يفاجأ أول مرة بدفعة قوية ترج كيانه ، وتخلخل تماسكه ، وتدفعه دفعا إلى نقل ما يحسه إلى نفوس الآخرين في حماسة واندفاع ، وفي جد كذلك واحتفال !
فأول ما بدههم منه أنه( عجب )غير مألوف ، وأنه يثير الدهش في القلوب ، وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح ، ومشاعر مرهفة ، وذوق ذواق . . عجب ! ذو سلطان متسلط ، وذو جاذبية غلابة ، وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهز أوتار القلوب . . عجب ! فعلا . يدل على أن أولئك النفر من الجن كانوا حقيقة يتذوقون !
قوله جل ذكره : { بسم الله الرحمان الرحيم } .
" بسم الله " اسم عزيز به أقر من أقر بربوبيته ، وبه أصر على معرفته ، وبه استقر من استقر من خليقته ، وبه ظهر ما ظهر من مقدوراته ، وبه بطن ما بطن من مخلوقاته ، فمن جحد فبخذلانه وحرمانه ، ومن وحد فبإحسانه وامتنانه .
قوله جل ذكره : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا } .
قيل : إن الجنَّ كانوا يأتون السماءَ فيستمعون إلى قولِ الملائكة ، فيحفظونه ، ثم يلقونه إلى الكهنة ، فيزيدون فيه وينقصون . . . وكذلك كانوا في الفترة التي بين نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه السلام . فلمَّا بُعِثَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم ورُجِمُوا بالشُّهُبِ عَلِمَ إبليس أنه وقع شيءٌ ففرَّ جنوده ، فأتى تسعةٌ منهم إلى بطن نخلة واستمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم فآمنوا ، ثم آتوا قومهم وقالوا : إنَّا سمعنا قرآنا عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به . . . إلى آخر الآيات .
( وجاءه سبعون منهم وأسلموا وذلك قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ . . } [ الأحقاف : 29 ] .
( سورة الجن مكية ، وآياتها 28 آية ، نزلت بعد سورة الأعراف )
وهي سورة تصحح كثيرا من المعلومات الخاطئة لأهل الجاهلية عن الجن ، حيث كانوا يزعمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم يتلقى ما يقوله لهم من الجن ، فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها ، وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا .
والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد صلى الله عليه وسلم ، فهالهم وراعهم ومسّهم منه ما يدهش ويذهل ، فانطلقوا يحدثون عن هذا الحدث العظيم الذي شغل السماء والأرض ، والإنس والجن والملائكة والكواكب ، وترك آثاره ونتائجه في الكون كله ، وهي شاهدة لها قيمتها في النفس البشرية حتما .
كان العرب يبالغون في أهمية الجنّ ، ويعتقدون أن لهم سلطانا في الأرض ، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض ، فيقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه . . ثم يبيت آمنا .
كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب ، وتخبر به الكهان فينبئون بما يتنبأون ، وفيهم من عبد الجن ، وجعل بينهم وبين الله نسبا ، وزعم أن له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة . وهكذا نجد كثيرا من الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم ، وتصوراتهم عن الجن في القديم ، ولا تزال هذه الأوهام تسود بعض البيئات إلى يومنا هذا .
ونجد في الصف الآخر منكرين لوجود الجن أصلا ، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنه حديث خرافة .
وبين الإغراق في الوهم ، والإغراق في الإنكار ، يقرر الإسلام حقيقة الجن ، ويصحح التصورات العامة عنهم ، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم .
تحدث القرآن الكريم عن الجن في عدد من السور ، وقد عالج القرآن الأخطاء الشائعة عن الجن ، وأثبت الحقيقة فيما يتصل بهم ، وأعطى للإنسان صورة واضحة دقيقة متحررة من الوهم والخرافة ، ومن التعسف في الإنكار الجامح ، فالجن عالم نؤمن به وبخصائصه كما وردت في القرآن الكريم ، والجن لا يظهر للعين ولا يراه الإنسان بحاسة البصر .
قال تعالى : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم . . ( الأعراف : 27 ) .
والجن منهم الضالون المضلّون ، ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون ، ومنهم المستقيمون على الطريق القويم والمنهج السليم ، وليس للجن معرفة بالغيب ، وليس لهم قوة ولا حيلة مع قوة الله ، وليس بينهم وبين الله صهر ولا نسب ، وقد كان إبليس من الجن ثم فسق عن أمر ربه وتمحض للشر والفساد والإغواء ، وقد خلق الجن من النار ، كما خلق الإنسان من الطين .
وقد سخرت الجن لسليمان عليه السلام ، فمنهم من كان يبني له المساجد والمنازل والأبنية المختلفة ، ومنهم من كان يغوص في البحر يستخرج له اللؤلؤ والياقوت والأحجار الكريمة ، وسلطه الله على المردة والخارجين على القانون ، فكان يقيدهم في السلاسل والأغلال ، ويسخرهم في الأعمال ، ويرهقهم بألوان العذاب ، وقد جعل الله السيطرة على الجن منحة خاصة لسليمان عليه السلام ، فقد سأل ربه ملكا لا يتهيأ لأحد من بعده ، فأعطاه الله ملك الريح والجن والشياطين والمردة :
قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب* فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب* والشياطين كل بنّاء وغوّاص* وآخرين مقرّنين في الأصفاد* هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب* وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب . ( ص : 35-40 ) .
" إن الكون من حولنا حافل بالأسرار ، عامر بالرواح ، حاشد بالقوى ، وهذه السورة من القرآن- كغيرها- تمنحنا جوانب من الحقائق في هذا الوجود ، تعين على بناء تصور حقيقي صحيح للوجود ، وما فيه من قوى وأرواح وحيوانات تعج من حولنا ، وتتفاعل مع حياتنا ، وهذا التصور هو الذي يميز المسلم ، ويقف به وسطا بين الوهم والخرافة ، وبين الادعاء والتطاول ، ومصدره هو القرآن والسّنة ، وإليهما يحاكم المسلم كل تصور آخر ، وكل قول ، وكل تفسير )i .
في كتب السّنة ما يفيد أن الجن قد استمعت للقرآن عرضا دون قصد ، فأسلمت وآمنت ، وانطلقت تدعو قومها إلى الإسلام .
وفي روايات أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق متعمدا ليبلغ دعوته إلى الجن ، وقد افتقده أصحابه ذات ليلة فاشتد بهم القلق ، وباتوا بشرّ ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحوا جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم من قبل حراء ، فقال : ( أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن ) . والروايتان السابقتان واردتان في الصحيح ، أحداهما عن ابن عباس تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف بحضور النّفر من الجن ، والرواية الثانية عن ابن مسعود تقول إنهم استدعوه ويوفق البيهقي بين الروايتين بأنهما حادثان لا حادث واحد .
وفي رواية ثالثة لابن إسحاق أن الجن استعمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة عودته من الطائف قبل الهجرة .
ولعل الجن قد استمعت للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة ، وكان في استماع الجن للنبي بمكة قبل الهجرة تطييب لخاطره ، وتصديق لدعوته ، وتحقيق للحق بشأن الجن ، وتصحيح لمفاهيم الجاهلية عن الجن ، وإرشاد للمسلمين ليكون إيمانهم عن بيّنة ، وقد ساقت سورة الجن كثيرا من الحقائق عن الألوهية والعقيدة والوحدانية ، وإخلاص العبادة لله سبحانه ، فهي سورة الجن ولكنها توجيه وإرشاد وتعليم للخلق أجمعين .
نلاحظ أن السورة في القرآن تسمى بأغرب شيء فيها أو أهم شيء فيها ، فسورة البقرة اشتملت على قصة قتيل ضرب بقطعة من البقرة فدرت إليه الحياة ، وسورة آل عمران اشتملت على قصة مريم ابنة عمران ، وسورة النساء اشتملت على ذكر أحكام النساء ، وسورة المائدة اشتملت على قصة المائدة التي نزلت من السماء استجابة لدعاء عيسى عليه السلام .
كما سمى سبحانه سور كتابه بأسماء تبعث على النظر والاعتبار ، وتوجب التفكير ، فسمى بالأنعام ، وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت ، وبما هو ألطف من ذلك كالنور ، كما سمى ببعض الأنبياء كيوسف ويونس وهود ، وببعض الأخلاق كالتوبة ، وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم ، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى ، وببعض المعادن كالحديد ، وببعض الأماكن كالبلد ، وببعض النبات كالتين ، وكل ذلك مما نراه .
وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن ، وهو عالم لم يعرف في الإسلام إلا من طريق الوحي ، وليس للعقل دليل عليه ، فالمؤمن يؤمن بالغيب ، ويؤمن بالملائكة وبالجن على نحو ما ورد في القرآن .
وسميت السورة سورة الجن لأنها تحدثت عنهم وبدأت بذكرهم ، فقالت : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا . ( الجن : 1 ) .
2 ، 1- تطالعنا السورة بأن الجن فوجئت باستماع القرآن الكريم ، فقالوا لقومهم : إنا سمعنا كتابا بديعا يهدي إلى الحق وإلى الطريق المستقيم ، فصدّقنا به ، ولن نعود ما كنا عليه من الإشراك بالله .
3- ثم نزّهوا ربهم عن الزوجة والولد ، فقالوا : علا ملك ربنا وسلطانه أن يكون ضعيفا ضعف خلقه ، الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة ، أو ملامسة يكون منها الولد ، وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله ، جاءته من صهر مع الجن ، فجاءت الجن تكذب هذه الخرافة الأسطورية ، في تسبيح الله وتنزيه له .
4- وأن الجهّال من الجن يقولون قولا شططا عن الصواب ، بنسبة الولد والصاحبة إليه تعالى .
5- وأنهم كانوا يستعظمون أن يجرؤ أحد على الكذب على الله ، فلما قال لهم سفهاؤهم : إن الله صاحبة وولدا ، صدقوهم لأنهم لم يتصوروا أنهم يكذبون على الله .
6- وأن رجالا من الإنس يستعيذون في القفر برجال من الجن فزادوا الجن بذلك طغيانا وغيّا ، إنهم لما استعاذوا بالجن خوفا منهم ولم يستعيذوا بالله ، استذلوهم واجترؤوا عليهم .
7- ظنّت الطائفة الظالمة من الجن أن الله لن يبعث رسولا إلى خلقه يدعوهم إلى توحيده والإيمان برسله واليوم الآخر . أو ظنّوا أن لن يبعث الله أحدا بعد الموت ، وهذا الظن مخالف للاعتقاد في حكمة الله وكماله . وهؤلاء النفر من الجن المؤمن يصححون لقومهم ظنّهم ، والقرآن في حكايته عنهم يصحح للمشركين أوهامهم .
8-9- كان الجن يحاولون الاتصال بالملأ الأعلى ، واستراق شيء مما يدور بين الملائكة ، عن شئون الخلائق في الأرض ، ثم يوحون ما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرافين ، الذين يستغلون الكثير من الحق فيمزجونه بالكثير من الباطل ، ويروجونه بين جماهير الناس .
وبعد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حاولت الجن استراق السمع من السماء فلم يتمكنوا ، لأن الحراسة شدّدت على السماء ، ومن حاول استراق السمع ومعرفة الغيب رجم بالشهب فتقتله أو تخبله .
10- إن الجن لا تعلم شيئا عن الغيب المقدّر للبشر ، ولا يدرون الحكمة من حراسة السماء بالشهب ، ولا ماذا قدر الله لعباده في الأرض ، أعذابا أراد الله أن ينزله بهم ، أم أراد بهم ربهم الهدى ، بأن يبعث فيهم رسولا مرشدا يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
11- من الجن الصالح والطالح ، ومنهم المسلم والجائر ، فهم مثلهم مثل الإنسان في طبيعته ، لديهم استعداد للخير والشر ، إلا من تمحض منهم للشر وهو إبليس وقبيله .
12- إن الله قادر علينا حيث كنا فلا نفوته هربا ، فهم يقدرون ضعف المخلوق أمام الخالق ، ويشعرون بسلطان الله القاهر الغالب .
13- لما سمعنا القرآن صدقنا به وأقررنا بأنه من عند الله ، ومن يصدق بالله وبما أنزله على رسله فلا يخاف نقصا من حسناته ، ولا هوانا ولا جوارا ، لأن المؤمن في حماية الله وعونه ورعايته ، وسينال جزاءه وافرا كاملا .
14- من الجن فريق مؤمن أطاع الله واستقام على الهدى ، وفريق قاسط جائر مائل عن الصواب ، وقد وصل الفريق المؤمن إلى الصواب ، حين اختار الإسلام وحرص على الرشد والاعتدال .
15- أما الجائرون عن سنن الإسلام فشأنهم أن يكونوا حطبا لجهنم ، تتلظى بهم وتزداد اشتعالا ، كما تتلظى النار بالحطب .
16- يلتفت القرآن في الخطاب ، وينتقل من الحديث على لسان الجن إلى مخاطبة الرسول والخلق أجمعين فيقول : لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام لوسعنا عليهم أرزاقهم ، ولبسطنا لهم خيرات الحياة .
17- وهذه النعم للاختبار والابتلاء ، فمن شكر النعمة وأحسن التصرف فيها استحق بقاءها ، ومن أعرض عن منهج الله دخل في العذاب الشاق الذي يعلوه ويغلبه ولا يطيق له حملا .
18- إن السجود أو مواضع السجود – وهي المساجد- لا تكون إلا لله ، فهناك يكون التوحيد الخالص ، ويتوارى كل ظل لكل أحد ، ولكل قيمة ، ولكل اعتبار ، وينفرد الجو للعبودية الخالصة لله .
19- لما قام محمد صلى الله عليه وسلم يعبد الله ، كاد الجن يكونون جماعات بعضها فوق بعض تعجبا مما شاهدوا من عبادته ، وسمعوا من قراءته ، واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا ، وأخذوا ودهشوا من جلال ما سمعوا ، وروعة ما شاهدوا ، وهو دليل على انشغال السماء والأرض والملائكة والجن بهذا الوحي ، وعلى الجدّ الذي يتضمنه : إنه لقول فصل* وما هو بالهزل . ( الطارق : 13 ، 14 ) .
20- قل يا محمد للناس : إنما أعبد الله وحده ، ولا أشرك بعبادته صنما ولا وثنا ولا مخلوقا .
21- قل : إني لا أملك نفعا ولا ضرا ، فالله وحده هو الذي يملك الضرّ ويملك الخير .
22 ، 23- إني لا أجد ملجأ أو حماية من دون الله ، إلا أن أبلغ هذا الأمر ، وأؤدي هذه الأمانة ، فهذا الأمر ليس أمري ، وليس لي فيه شيء إلا التبليغ ، ولا مفر لي من هذا التبليغ ، والرسالة ليست تطوعا ، وإنما هي تكليف صارم جازم لا مفر من أدائه ، فالله من ورائه .
يقول الله تعالى : يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته . . . ( المائدة : 67 ) .
ومن يكذّب برسالات الله فإن له نارا يصلاها ، خالدا فيها إلى غير نهاية .
23- وإذا كان المشركون يركنون إلى قوة وإلى عدد ، ويقيسون قوتهم إلى قوة محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون القلائل معه ، فسيعلمون حين يرون ما يوعدون ، أي الفريقين هو الضعيف المخذول ، القليل المهزول .
24- ويتجرد الرسول وينفض يده من أمر الغيب ، فالعذاب الذي يتوعد به الكافرين ليس له فيه يد ، ولا يعلم له موعدا ، ولا يدري أقريب هو أم بعيد يجعل الله له أمدا ممتدّا ، سواء عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ، فكله غيب في علم الله .
25- والله سبحانه هو المختص بالغيب دون العالمين .
26- والرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته ، يطلعهم على جانب من غيبه ، هو هذا الوحي : موضوعه ، وطريقته ، والملائكة الذين يحملونه ، ومصدره ، وحفظه في اللوح المحفوظ . . . إلى آخر ما يتعلق بموضوع رسالتهم ، مما كان في ضمير الغيب لا يعلمه أحد منهم .
وفي الوقت ذاته يحيط بهؤلاء الرسل الأرصاد والحراس من الحفظة ، للحفظ والوقاية ، يحمونهم من وسوسة النفس وتمنياتها ، ومن الضعف البشري في أمر الرسالة ، ومن النسيان أو الانحراف ومن سائر ما يعتري البشر من النقص والضعف .
والخلاصة : إنه ليدخل حفظة من الملائكة يحفظون قوى الرسول الظاهرة والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم .
68- وهذه الحراسة الشديدة ليظهر الله للناس أجمعين أن الملائكة قد أبلغوا رسالات ربهم ، غير مشوبة بتخليط من الجن أو من الجنون ، وهو سبحانه محيط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط ، وهو سبحانه أحصى كل شيء عددا ، فلا تقتصر إحاطته على ما لدى الرسل ، بل يحيط بكل شيء إحصاء وعدّا ، وهو أدق أنواع الإحاطة والعلم . وبهذا الإيقاع الهائل الرهيب تختم السورة التي بدئت بروعة الجن من سماع القرآن ، وختمت بإحاطة الله الشاملة لمن يؤدون رسالته ، وحمايته لمن يبلغون دعوته ، وقد وسع علمه السماوات والأرض وكل ما في الوجود .
1- حكاية أقوال صدرت عن الجن حين سمعوا القرآن ، كوصفهم له بأنه كتاب يهدي إلى الرشد ، وأن الرب سبحانه تنزه عن الصاحبة والولد ، وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على الله ، وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون في القفر برجال من الجن ، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلوي فمنعوا ، وأن الجن لا يدرون ماذا يحل بالأرض من هذا المنع ، وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجّار ، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق .
2- ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه إلى الحق ، ككونه لا يشرك بربه أحدا ، وأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، وأنه لا يمنعه أحد من الله إن عصاه ، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يدري متى يكون وقت تعذيبهم فالعلم لله وحده ، وأن الغيب لا يعلمه إلا الله ، ثم من اصطفى من الرسل .
{ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنّا سمعنا قرآنا عجبا 1 يهدي إلى الرّشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا 2 وأنه تعالى جدّ ربنا ما اتّخذ صاحبة ولا ولدا 3 وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا 4 وأنّا ظننّا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا 5 وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا 6 وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا 7 }
أوحي إليّ : الوحي شرعا : إعلام الله تعالى أنبياءه ما يريد إبلاغهم به من الشرائع والأخبار بطريق خفي .
النفر : ما بين الثلاثة والعشرة .
الجن : واحدهم جنّي ، كروم ورومي .
عجبا : بديعا مباينا لكلام الناس ، في حسن النظم ودقة المعنى .
1- قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنّا سمعنا قرآنا عجبا .
قل يا محمد لقوم : إن جبريل أخبرني بأن جماعة من الجن ، قد استمعت القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم في صلاة الفجر بعد عودته من الطائف ، فقال الجن لإخوانهم ولقومهم :
أي : باهرا عجيبا بديعا في حسن نظمه ، ودقة معانيه ، فهو عجيب باهر في أسلوبه ونظامه ورصف معانيه ، وهو عجيب باهر في رشاقة ألفاظه ، وتسلسل أفكاره ، وهو عجيب باهر فيما اشتمل عليه من أحكام وتشريع وآداب ، وأخبار عن الأمم الماضية ، ومشاهد للقيامة والحساب والجزاء ، والصراط والميزان ، والجنة والنار .
عالم الجن من العوالم الكونية كعالم الملائكة ؛ وقد أخبر الله تعالى أنه خلقه من مارج من نار . أي أن عنصر النار فيه هو الغالب ، وأنه يرى الأناسي وهم لا يرونه ، أي بصورته الجبلية ؛ وإن كان يرى حين يتشكل بأشكال أخرى ؛ كما رأى جبريل حين تشكل بشكل آدمي . وأخبر تعالى بأنه قادر على الأعمال الشاقة . وأنه سخر الشياطين لسليمان يعملون له ما يشاء ، من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب . وأخبر بأن من الجن مؤمنين ، ومنهم شياطين متمردين ؛ ومن هؤلاء إبليس اللعين .
ولم يختلف أهل الملل في وجودهم ، بل اعترفوا به كالمسلمين ، وإن اختلفوا في حقيقتهم . ولا تلازم بين الوجود والعلم بالحقائق ، ولا بينه وبين الرؤية بالحواس . فكثير من الأشياء الموجودة لا تزال حقائقها مجهولة ، وأسرارها محجبة ؛ وكثير منها لا يرى بالحواس . ألا ترى الروح – وهي مما لا شك في وجودها في الإنسان والحيوان-لم يدرك كنهها أحد ولم يرها أحد ؛ وغاية ما علم من أمرها بعض صفاتها وآثارها . وكم في العوالم من أسرار ، وفي الكون من حجب وأستار ، تشهد بأن وراء علم الإنسان علوما أحاط بها خالق الكون ومبدعه ؛ ومنه ما استأثر بعلمه ، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه .
وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجن ؛ كما بعث إلى الإنس . فدعاهم إلى التوحيد ، وأنذرهم وبلغهم القرآن . وسيحاسبون على الأعمال يوم الحساب كما يحاسب الناس ، فمؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم . وكل ذلك جاء صريحا في القرآن السنة .
{ قل أوحي إلى . . . } أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن جماعة من الجن – وكانوا من جن نصيبين – استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن في صلاة الفجر في بطن نخلة [ وهي في طريق الطائف على مسيرة ليلة من مكة ]
فعادوا إلى قومهم فأخبروهم بما سمعوا ، وآمنوا بالله ، وكذبوا ما دعا إليه سفيههم من الكفر والضلال [ آية 29 الأحقاف ص 323 ] . { قرآنا عجبا } بديعا مباينا لما سبقه من الكتب في خصائصه وعلومه ، داعيا إلى الرشد والهدى ، في نظم محكم ، وأسلوب حكيم .
سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون ، نزلت بعد سورة الأعراف . لقد سمى الله تعالى سور كتابه الكريم بأسماء تبعث على النظر والاعتبار وتوجب التفكير ، فسمى بالأنعام وببعضها كالبقرة ، وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت ، وبما هو ألطف من ذلك كالنور . كما سمى ببعض الأنبياء كيونس ويوسف وهود ومحمد ، وببعض الأخلاق كالتوبة ، وببعض الكواكب كالشمس والنجم والقمر ، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى ، وببعض المعادن كالحديد ، وببعض الأماكن كالبلد ، وببعض النبات كالتين ، وبكل شيء مما نراه وما لا نراه .
وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن . وهو عالم لم يُعرف في الإسلام إلا من طريق الوحي ، وليس للعقل دليل عليه . ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين ، فصار علماء أوروبا يدرسون في مباحث عالم الجن وعالم الأرواح ، ويحاولون أن يطلعوا على غوامض هذه العوالم . ونُقل عن كثير منهم أنهم تحدثوا مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا ، وعن اتصال العالم الإنسي بالعالم الجني ، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة .
فإذا سمى الله هذه السورة بهذا الاسم فمعناه أنه أعطى هذا العالم الخفي عنايته وسمى السورة باسمه ، كما اعتنى بالحديد ، وهو نوع من المعادن . وهكذا توجهت عنايته إلى النور وأنواع الحيوان والنبات والأوقات المختلفة ، وبكل شيء نراه وما لا نراه ، لنجدّ في البحث عن المعادن كلها ، وعن حساب الزمان ، ونُعنى بالعلوم العناية اللائقة المفيدة .
وقد أفاض الأستاذ طنطاوي جوهري رحمه الله في كتابه " الجواهر " في هذا الموضوع وأطال ونقل أشياء كثيرة من محاولات الأوروبيين وبحوثهم في هذا الموضوع وقال إنه ألّف كتابا سماه " كتاب الأرواح " ذكر فيه ما جرّبه القوم في أوروبا ، وكيف أحضروا الأرواح ، وما الشروط وما الواجب على الإنسان في ذلك ، وما فوائد هذا العلم ومضارّه .
ونقل نبذة من خطبة " السير : أوليفر لودج " ، وهو من أشهر علماء الطبيعة في هذا العصر في بلاد الإنجليز ، إذ أكد في مجمع من كبار العلماء أنه حادث الأموات ، وأن هناك عقولا أسمى من عقولنا في عالم الأرواح ، وأنهم يهتمون بنا ، وأن إخوانه من الجمعية الروحية الذين ماتوا كلموه بعد موتهم وبرهنوا له ببراهين قاطعة أنهم هم الذين يكلمونه . وقال : إن ما يقوله الأنبياء عن عالم الأرواح وعن الله حق بلا تأويل . وقال إنه اشتغل بهذا الفن ثلاثين سنة فله الحق أن يحكم بما يقول . ومن أراد الزيادة فليرجع إلى تفسير " الجواهر " للمرحوم الشيخ طنطاوي جوهري .
وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على حكاية أقوال الجن وما يتعلق بهم ، وأنهم سمعوا كتابا بديعا ، هو القرآن ، يهدي إلى الصواب فآمنوا به وتركوا الشرك . وأن الله تعالى لم يتخذ زوجة ولا ولدا كما يقول السفهاء منهم على الله شططا . وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه . . وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون برجال من الجن فزاد الجن الإنس ضلالا باستعاذتهم بهم . . وأن الجن ظنوا مثل بعض الإنس أنه لن يبعث الله أحدا . . وأنهم طلبوا خبر العالم العلوي المعبَّر عنه بالسماء فمُنعوا . . وأن الجن كانوا يقعدون مقاعد خالية ليتمكنوا من السمع ، فمنِعوا الآن برجم الشهُب لهم ، وأنهم لا يدرون : { أشرّ أريدَ بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } . وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار ، وأنهم علموا أنهم لن يفرّوا من أمر الله إن أراد بهم أمرا على هذه الأرض ، وأنهم حين سمعوا الهدى آمنوا به . . { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا } . وأنهم فريقان : مسلمون ، وجائرون ، فالمسلم قصد طريق الحق وتوخاه ، أما الجائر فإنه يكون { لجهنم حطبا } . وأن الإنس والجن إذا استقاموا على الطريقة المثلى وسّع الله عليهم رزقهم واختبرهم به .
وأن المساجد لله ، فعلى من يدخلها أن يُخلص لله فيها ولا يشرك به أحدا . وأنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله كاد الجن يكونون جماعات ملتفة حوله من ازدحامهم عليه تعجبا مما رأوا من عباراته وسمعوا من قراءته .
ثم تُختم السورة بتوجيهات علوية إلى الرسول الكريم والمؤمنين ، وأنّ علم الساعة عند الله وحده وهو { عالم الغيب فلا يُظهر على غيه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول . . . . } .
وأنه تعالى { أحصى كل شيء عددا } مما خلق ، وعرفه فلا يغيب عنه شيء .
النفر : ما بين الثلاثة والعشرة .
عجبا : عجيبا بديعا لا يشبهه شيء من كلام الناس .
قل يا محمد لأمتك : أوحى اللهُ إليَّ أنه استمعَ إلى تلاوة القرآنِ جماعةٌ من الجنِّ فدُهِشوا من عَظَمتِه وبلاغته فقالوا لقومهم : إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ ، فدُهِشوا من عَظَمته وبلاغته فقالوا لقومهم : إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ .
وتسمى قل أوحي إلي وهي مكية بالاتفاق وآيها بلا خلاف ثمان وعشرون آية ووجه اتصالها قال الجلال السيوطي فكرت فيه مدة فلم يظهر لي سوى أنه سبحانه قال في سورة نوح استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا وقال عز وجل في هذه السورة لكفار مكة وإن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا وهذا بين في الارتباط انتهى وفي قوله لكفار مكة شيء ستعلمه إن شاء الله تعالى ويجوز أن يضم إلى ذلك اشتمال هذه السورة على شيء مما يتعلق بالسماء كالسورة السابقة وذكر العذاب لمن يعصى الله عز وجل في قوله سبحانه ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا فإنه يناسب قوله تعالى أغرقوا فأدخلوا نارا على وجه وقال أبو حيان في ذلك أنه تعالى لما حكى تمادى قوم نوح في الكفر والعكوف على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى أهل الأرض كما أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض والعرب الذين هو منهم صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء أي أو عينها وكان ما جاء به عليه الصلاة والسلام هاديا إلى الرشد وقد سمعته العرب وتوقف عن الإيمان به أكثرهم أنزل الله تعالى سورة الجن وجعلها أثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان وكانت الجن خيرا منهم إذ أقبل للإيمان من أقبل منهم وهم من غير جنس الرسول عليه الصلاة والسلام حتى كادوا يكونون عليه لبدا ومع ذلك التباطيء فهم مكذبون له ولما جاء به حسدا وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده
بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { قُلْ أُوحِىَ إلي } وقرأ ابن أبي عبلة والعتكي عن أبي عمرو وجؤبة بن عائذ الأسدي وحي بلا همزة وهو بمعنى أوحي بالهمز ومنه قول العجاج
وقرأ زيد بن علي وجؤبة فيما روى عنه الكسائي وابن أبي عبلة في رواية أحي بإبدال واو وحي همزة كما قالوا في وعد أعد قال الزمخشري وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضاً كأشاح وإعاء وإسادة وهذا أحد قولين للمازني والقول الآخر قصر ذلك على السماع وما ذكره من إطلاق الجواز في المضمومة تعقب بأن المضمومة قد تكون أولاً وحشوا وآخراً ولكل منها أحكام وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في كتب النحو فليراجع وزاد بعض الأجلة قلب الواو المضموم ما قبلها فقال إنه أيضاً مقيس مطرد وأنه قد يرد ذلك في المفتوحة كأحد وعلى جميع القراآت الجار متعلق بما عنده ونائب الفاعل { أَنَّهُ } الخ على أنه في تأويل المصدر والضمير للشأن { استمع } أي القرآن كما ذكر في الاحقاق وقد حذف لدلالة ما بعده عليه { نَفَرٌ مّنَ الجن } النفر في المشهور ما بين الثلاثة والعشرة وقال الحريري في درته أن النفر إنما يقع على الثلاثة من الرجال إلى العشرة وقد وهم في ذلك فقد يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح وقد ذكره غير واحد من أهل اللغة وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفراً ولا يختص بالرجال بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى الأربعين والفرق بينهما أن الرهط يرجعون إلى أب واحد بخلاف النفر وقد يطلق على القوم ومنه قوله تعالى وأعز نفراً وقول امرىء القيس
: فهو لا تنمى رميته *** ماله لا عد من نفره
وقال الإمام الكرماني للنفر معنى آخر في العرف وهو الرجل وأراد بالعرف عرف اللغة لأنه فسر به الحديث الصحيح فليحفظ والجن واحده جنى كروم ورومي وهم أجسام عاقلة تغلب عليها النارية كما يشهد له قوله تعالى : { وخلق الجان من مارج من نار } [ الرحمن : 15 ] وقيل الهوائية قابلة جميعها أو صنف منها للتشكل بالأشكال المختلفة من شأنها الخفاء وقد ترى بصور غير صورها الأصلية بل وبصورها الأصلية التي خلقت عليها كالملائكة عليهم السلام وهذا للأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ومن شاء الله تعالى من خواص عباده عز وجل ولها قوة على الأعمال الشاقة ولا مانع عقلاً من أن تكون بعض الأجسام اللطيفة النارية مخالفة لسائر أنواع الجسم اللطيف في الماهية ولها قبول لإفاضة الحياة والقدرة على أفعال عجيبة مثلاً وقد قال أهل الحكمة الجديدة بأجسام لطيفة أثبتوا لها من الخواص ما يبهر العقول فلتكن أجسام الجن على ذلك النحو من الأجسام وعالم الطبيعة أوسع من أن تحيط بحصر ما أودع فيه الأفهام وأكثر الفلاسفة على إنكار الجن وفي رسالة الحدود لابن سينا الجني حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة وهذا شرح الاسم وظاهره نفي أن يكون لهذه الحقيقة وجود في الخارج ونفي ذلك كفر صريح كما لا يخفي واعترف جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات بوجودهم ويسمونهم بالأرواح السفلية والمشهور أنهم زعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساماً ولا جسمانية وهي أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض فبعضها خيرة وبعضها شريرة ولا يعرف عدد أنواعها وأصنافها إلا الله عز وجل ولا يبعد على هذا أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة يعجز عنها البشر بل لا يبعد أيضاً على ما قيل أن يكون لكل نوع مها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم ومن الناس من زعم أن الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها ازدادت قوة وكمالاً بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن تعلقت تلك النفس به تعلقاً ما وتصير كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكاً وتلك الإعانة إلهاماً وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطاناً وتلك الإعانة وسوسة والكل مختلف لأقوال السلف وظاهر الآيات والأحاديث وجمهور أرباب الملل معترفون بوجودهم كالمسلمين وإن اختلفوا في حقيقتهم وتمام الكلام في هذا المقام يطلق من آكام المرجان وفي «التفسير الكبير » طرف مما يتعلق بذلك فارجع إليه إن أردته واختلف في عدد المستمعين فقيل سبعة فعن زر ثلاث من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير القرية التي بالعراق وعن عكرمة أنهم كانوا إثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل وأين سبعة أو تسعة من اثني عشر ألفاً ولعل النفر عليه القوم وفي «الكشاف » كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم والآية ظاهرة في أنه صلى الله عليه وسلم علم استماعهم له بالوحي لا بالمشاهدة وقد وقع في الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام رآهم وجمع ذلك بتعدد القصة قال في آكام المرجان ما محصله في الصحيحين في حديث ابن عباس ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ وقد حيل بين الجن والسماء بالشهب فقالوا ما ذاك إلا لشيء حدث فأضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمر من ذهب لتهامة منهم به عليه الصلاة والسلام وهو يصلي الفجر بأصحابه بنخلة فلما استمعوا له قالوا هذا الذي حال بيننا وبين السماء ورجعوا إلى قومهم وقالوا { يا قومنا } [ الأحقاف : 30 ] الخ فأنزل الله تعالى عليه قل أوحي الخ ثم قال ونفي ابن عباس إنما هو في هذه القصة واستماعهم تلاوته صلى الله عليه وسلم في الفجر في هذه القصة لا مطلقاً ويدل عليه قوله تعالى { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن } [ الأحقاف : 29 ] الخ فإنها تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كلمهم ودعاهم وجعلهم رسلاً لمن عداهم كما قاله البيهقي وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني داعي الجن فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن قال وانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم " الخ وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات وقال ابن تيمية أن ابن عباس علم ما دل عليه القرآن ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة من إتيان الجن له صلى الله عليه وسلم ومكالمتهم إياه عليه الصلاة والسلام وقصة الجن كانت قبل الهجرة بثلاث سنين وقال الواقدي كانت سنة إحدى عشرة من النبوة وابن عباس ناهز الحلم في حجة الوداع فقد علمت أن قصة الجن وقعت ست مرات وفي «شرح البيهقي » من طرق شتى عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء ثم انصرف فأخذ بيدي حتى أتينا مكان كذا فأجلسني وخط على خطا ثم قال لا تبرحن خطك فبينما أنا جالس إذ أتاني رجال منهم كأنهم الزط فذكر حديثاً طويلاً وأنه صلى الله عليه وسلم ما جاءه إلى السحر قال وجعلت أسمع الأصوات ثم جاء عليه الصلاة والسلام فقلت أين كنت يا رسول الله فقال أرسلت إلى الجن فقلت ما هذه الأصوات التي سمعت قال هي أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي وقد يجمع الاختلاف في القلة والكثرة بأن ذلك لتعدد القصة أيضاً والله تعالى أعلم واختلف فيما استمعوه فقال عكرمة { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] وقيل سورة الرحمن { فَقَالُواْ } أي لقومهم عند رجوعهم إليهم { قُلْ أُوحِىَ إلي } أي كتاباً مقروءاً على ما فسره به بعض الأجلة وفسر بذلك للإشارة إلى أن ما ذكروه في وصفه مما يأتي وصف له كله دون المقروء منه فقط والمراد أنه من الكتب السماوية والتنوين للتفخيم أي قرآناً جليل الشأن { عَجَبًا } بديعاً مبايناً لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى وهو مصدر وصف به للمبالغة .
{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا }
أي : { قُلْ } يا أيها الرسول للناس { أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } صرفهم الله [ إلى رسوله ] لسماع آياته لتقوم عليهم الحجة [ وتتم عليهم النعمة ] ويكونوا نذرا{[1243]} لقومهم . وأمر الله رسوله أن يقص نبأهم على الناس ، وذلك أنهم لما حضروه ، قالوا : أنصتوا ، فلما أنصتوا فهموا معانيه ، ووصلت حقائقه إلى قلوبهم ، { فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } أي : من العجائب الغالية ، والمطالب العالية .