المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

267- يا أيها المؤمنون أنفقوا من جيِّد ما تحصلونه بعملكم ، ومما يتيسر لكم إخراجه من الأرض من زروع ومعادن وغيرها ، ولا تتعمدوا الإنفاق من رديء المال وخبيثه أنكم لن تقبلوا هذا الخبيث لو قُدِّمَ إليكم إلا على إغماض وتساهل صارفين النظر عما فيه من خبث ورداءة ، واعلموا أن الله غني عن صدقاتكم ، مستحق للحمد بما أرشدكم إليه من خير وصلاح .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

261

ويمضي السياق خطوة أخرى في دستور الصدقة . ليبين نوعها وطريقتها ، بعد ما بين آدابها وثمارها :

( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، ومما أخرجنا لكم من الأرض ، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون . ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ، واعلموا أن الله غني حميد ) . .

إن الأسس التي تكشفت النصوص السابقة عن أن الصدقة تقوم عليها وتنبعث منها لتقتضي أن يكون الجود بأفضل الموجود ؛ فلا تكون بالدون والرديء الذي يعافه صاحبه ؛ ولو قدم إليه مثله في صفقة ما قبله إلا أن ينقص من قيمته . فالله أغنى عن تقبل الرديء الخبيث !

وهو نداء عام للذين آمنوا - في كل وقت وفي كل جيل - يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم . تشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب ، وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض ويشمل المعادن والبترول . ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال ، ما كان معهودا على عهد النبي [ ص ] وما يستجد . فالنص شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان . وكله مما يوجب النص فيه الزكاة . أما المقادير فقد بينتها السنة في أنواع الأموال التي كانت معروفة حينذاك . وعليها يقاس وبها يلحق ما يجد من أنواع الأموال .

وقد وردت الروايات بسبب لنزول هذه الآية ابتداء ، لا بأس من ذكره ، لاستحضار حقيقة الحياة التي كان القرآن يواجهها ؛ وحقيقة الجهد الذي بذله لتهذيب النفوس ورفعها إلى مستواه . .

روى ابن جرير - بإسناده - عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : " نزلت في الأنصار . كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الاسطوانتين في مسجد رسول الله [ ص ] فيأكل فقراء المهاجرين منه . فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع قناء البسر ، يظن أن ذلك جائز . فأنزل الله فيمن فعل ذلك : ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) . .

وكذلك رواه الحاكم عن البراء وقال : صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه .

ورواه ابن أبي حاتم - بإسناده عن طريق آخر - عن البراء - رضي الله عنه - قال : نزلت فينا . كنا أصحاب نخل ، فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ، فيأتي رجل بالقنو ، فيعلقه في المسجد . وكان أهل الصفة ليس لهم طعام . فكان أحدهم إذا جاع جاء فضرب بعصاه ، فسقط منه البسر والتمر فيأكل ، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص ، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه ، فنزلت : ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ) . قال : لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء . فكنا بعد ذلك يجيء الرجلى منا بصالح ما عنده .

والروايتان قريبتان . وكلتاهما تشير إلى حالة واقعة في المدينة ؛ وترينا صفحة تقابل الصفحة الأخرى التي خطها الأنصار في تاريخ البذل السمح والعطاء الفياض . وترينا أن الجماعة الواحدة تكون فيها النماذج العجيبة السامقة ، والنماذج الأخرى التي تحتاج إلى تربية وتهذيب وتوجيه لتتجه إلى الكمال ! كما احتاج بعض الأنصار إلى النهي عن القصد إلى الرديء من أموالهم ، الذي لا يقبلونه عادة في هدية إلا حياء من رده ولا في صفقة إلا بإغماض فيه أي : نقص في القيمة ! بينما كانوا يقدمونه هم لله !

ومن ثم جاء هذا التعقيب :

( واعلموا أن الله غني حميد ) . .

غني عن عطاء الناس إطلاقا . فإذا بذلوه فإنما يبذلونه لأنفسهم فليبذلوه طيبا ، وليبذلوه طيبة به نفوسهم كذلك .

حميد . . يتقبل الطيبات ويحمدها ويجزي عليها بالحسنى . .

ولكل صفة من الصفتين في هذا الموضع إيحاء يهز القلوب . كما هز قلوب ذلك الفريق من الأنصار فعلا . ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم . . . ) . . وإلا فالله غني عن الخبيث الذي تقصدون إليه فتخرجون من صدقاتكم ! بينما هو - سبحانه - يحمد لكم الطيب حين تجرحونه ويجزيكم عليه جزاء الراضي الشاكر . وهو الله الرازق الوهاب . . يجزيكم عليه جزاء الحمد وهو الذي أعطاكم إياه من قبل ! أي إيحاء ! وأي إغراء ! وأي تربية للقلوب بهذا الأسلوب العجيب !

/خ274

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرْضِ وَلاَ تَيَمّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ }

يعني جل ثناؤه بقوله : يا أيها الذين آمنوا صدّقوا بالله ورسوله وآي كتابه . ويعني بقوله : { أنْفِقُوا } زكوا وتصدّقوا . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ ما كَسَبْتُمْ } يقول : تصدقوا .

القول في تأويل قوله تعالى : { مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } .

يعني بذلك جل ثناؤه : زكوا من طيب ما كسبتم بتصرّفكم إما بتجارة ، وإما بصناعة من الذهب والفضة ، ويعني بالطيبات : الجياد . يقول : زكوا أموالكم التي اكتسبتموها حلالاً ، وأعطوا في زكاتكم الذهب والفضة ، الجياد منها دون الرديء . كما :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في هذه الآية : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } قال : من التجارة .

حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : وأخبرني شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني حاتم بن بكر الضبي ، قال : حدثنا وهب ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن جاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في قوله : { وَأنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } قال : التجارة الحلال .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن معقل : { أَنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } قال : ليس في مال المؤمن من خبيث ، ولكن لا تيمموا الخبيث منه تنفقون .

حدثني عصام بن رواد بن الجراح ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، قال : سألت عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه عن قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ ما كَسَبْتُمْ } قال : من الذهب والفضة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } قال : التجارة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ ما كَسَبْتُمْ } يقول : من أطيب أموالكم وأنفسه .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } قال : من الذهب والفضة .

القول في تأويل قوله تعالى : { ومِمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : وأنفقوا أيضا مما أخرجنا لكم من الأرض ، فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير ، وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض . كما :

حدثني عصام بن روّاد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، قال : سألت عليا صلوات الله عليه عن قول الله عزّ وجل : { ومِمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ } قال : يعني من الحبّ والثمر وكل شيء عليه زكاة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { ومِمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ } قال : النخل .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { ومِمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ } قال : من ثمر النخل .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } قال : من التجارة ، { وَمِمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ } من الثمار .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَمِمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ } قال : هذا في التمر والحبّ .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ } .

يعني بقوله جل ثناؤه { وَلاَ تَيَمّمُوا الخَبِيثَ } ولا تعمدوا ولا تقصدوا . مق وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «ولا تأمموا » ، من أممت ، وهذه من تيممت ، والمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ ، يقال : تأممت فلانا وتيممته وأممته ، بمعنى : قصدته وتعمدته ، كما قال ميمون بن قيس الأعشى :

تيمّمْتُ قَيْسا وكَمْ دُونَهُ *** مِنَ الأرْضِ من مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ

وكما حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَلاَ تَيَمّمُوا الخَبِيث } ولا تعمّدُوا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { وَلا تَيَمّمُوا } لا تعمّدوا .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، مثله .

( القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } .

يعني جل ثناؤه بالخبث : الرديء غير الجيد ، يقول : لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم ، فتصدّقوا منه ، ولكن تصدّقوا من الطيب الجيد . وذلك أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الأنصار علق قِنْوا من حَشَف في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم صدقة من تمره . ) ذكر من قال ذلك :

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن عديّ بن ثابت ، عن البراء بن عازب في قول الله عزّ وجلّ { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ } إلى قوله : { وَاللّهُ غَنِيّ حَمِيدٌ } قال : نزلت في الأنصار ، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر ، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل فقراء المهاجرين منه ، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر ، يظنّ أن ذلك جائز ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيمن فعل ذلك : { وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قال لا تيمموا الحَشَفَ منه تنفقون .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، زعم السدي ، عن عديّ بن ثابت ، عن البراء بن عازب بنحوه ، إلا أنه قال : فكان يعمد بعضهم ، فيدخل قنو الحشف ، ويظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء ، فنزل فيمن فعل ذلك : { وَلاَ تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } القنو الذي قد حَشِفَ ، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء بن عازب ، قال : كانوا يجيئون في الصدقة بأردإ تمرهم وأردإ طعامهم ، فنزلت : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ ما كَسَبْتُمْ } . . . الآية .

حدثني عصام بن رواد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، قال : سألت عليا عن قول الله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلاَ تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قال : فقال علي : نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة ، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه ، فيعزل الجيد ناحية ، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء ، فقال عزّ وجلّ : { وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عبد الجليل بن حميد اليحصبي ، أن ابن شهاب حدثه ، قال : ثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله عزّ وجلّ : { وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قال : هو الجُعْرُور ، ولون حُبَيْق ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ في الصدقة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلاَ تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قال : كانوا يتصدّقون ، يعني من النخل بحشفه وشراره ، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتصدّقوا بطيبه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } إلى قوله : { وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ } ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان على عهد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فيعمد إلى أردئهما تمرا فيتصدّق به ويخلط فيه من الحشف ، فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قال : تعمد إلى رذالة مالك فتصدّق به ، ولست بآخذه إلا أن تغمض فيه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن قال : كان الرجل يتصدّق برذالة ماله ، فنزلت : { وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثِ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرنا عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : { وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قال : في الأقناء التي تعلّق ، فرأى فيها حشفا ، فقال : «ما هذا ؟ » . قال ابن جريج : سمعت عطاء يقول : علق إنسان حشفا في الأقناء التي تعلق بالمدينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما هَذَا ؟ بِئْسَمَا عَلّقَ هَذَا ! » فنزلت : { وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تيمموا الخبيث من الحرام منه تنفقون ، وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسألته عن قول الله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قال : الخبيث : الحرام ، لا تتيمه : تنفق منه ، فإن الله عزّ وجلّ لا يقبله .

وتأويل الآية : هو التأويل الذي حكيناه عمن حكينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق أهل التأويل في ذلك دون الذي قاله ابن زيد .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } .

( يعني بذلك جل ثناؤه : ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم . والهاء في قوله : { بآخِذِيهِ } من ذِكر الخبيث . { إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } يعني إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم ، فترخصوا فيه لأنفسكم ، ) يقال منه : أغمض فلان لفلان عن بعض حقه فهو يغمض ، ومن ذلك قول الطرِمّاح بن حكيم :

لَمْ يَفُتْنا بالوِتْرِ قَوْمٌ وللضّيْ *** يْمِ رِجالٌ يَرْضَوْنَ بالإغْماضِ

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ولستم بآخذي هذا الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عصام بن رواد . قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : سألت عليا عنه ، فقال : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فيه } يقول : ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتى يهضم له .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء بن عازب : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } يقول : لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { وَلاَ تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } . يقول : لو كان لكم على أحد حقّ فجاءكم بحقّ دون حقكم ، لم تأخذوا بحساب الجيد حتى تنقصوه ، فذلك قوله : { إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها ؟ وهو قوله : { لَنْ تَنَالُوا البِرّ حتى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ } .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : لا تأخذونه من غرمائكم ولا في بيوعكم إلا بزيادة على الطيّب في الكيل .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ومِمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } وذلك أن رجالاً كانوا يعطون زكاة أموالهم من التمر ، فكانوا يعطون الحشف في الزكاة ، فقال : لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } يقول : لو كان لك على رجل دين فقضاك أردأ مما كان لك عليه هل كنت تأخذ ذلك منه إلا وأنت له كاره ؟

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ مَا كَسَبْتُمْ } إلى قوله : { إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : كانوا حين أمر الله أن يؤدوا الزكاة يجيء الرجل من المنافقين بأردإ طعام له من تمر وغيره ، فكره الله ذلك ، وقال : { أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ } يقول : لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه . يقول : لم يكن رجل منكم له حقّ على رجل فيعطيه دون حقه فيأخذه إلا وهو يعلم أنه قد نقصه ، فلا ترضوا لي ما لا ترضون لأنفسكم ، فيأخذ شيئا وهو مغمض عليه أنقص من حقه .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث إذا اشتريتموه من أهله بسعر الجيد إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عمران بن حدير ، عن الحسن : { وَلَسْتُمْ بآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يُهضم لكم من ثمنه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَلَسْتُمْ بآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } يقول : لستم بآخذي هذا الرديء بسعر هذا الطيب إلا أن يغمض لكم فيه .

وقال آخرون : معناه : ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي لكم إلا أن تغمضوا فيه ، فتأخذوه وأنتم له كارهون على استحياء منكم ممن أهداه لكم . ذكر من قال ذلك :

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن عديّ بن ثابت ، عن البراء بن عازب : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيه } قال : لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، قال : زعم السدي ، عن عديّ بن ثابت ، عن البراء نحوه ، إلا أنه قال : إلا على استحياء من صاحبه وغيظا أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن ابن معقل : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } يقول : ولستم بآخذيه من حقّ هو لكم ، إلا أن تغضموا فيه ، يقول : أغمض لك من حقك .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسألته عن قوله : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : يقول : لست آخذا ذلك الحرام حتى تغمض على ما فيه من الإثم قال : وفي كلام العرب : أما والله لقد أخذه ولقد أغمض على ما فيه وهو يعلم أنه حرام باطل .

والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا أن يقال : إن الله عزّ وجلّ حثّ عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم وفرضها عليهم فيها ، فصار ما فرض من ذلك في أموالهم حقا لأهل سهمان الصدقة ، ثم أمرهم تعالى ذكره أن يخرجوا من الطيبِ ، وهو الجيد من أموالهم ، الطيبَ ، وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الأموال في أموالهم بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها ، فلا شكّ أن كل شريكين في مال فلكلّ واحد منهما بقدر ملكه ، وليس لأحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه بإعطائه بمقدار حقه منه من غيره ، مما هو أردأ منه أو أخسّ ، فكذلك المزكي ماله حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان مما وجب لهم في ماله من الطيب الجيد من الحقّ ، فصاروا فيه شركاء من الخبيث الرديء غيره ، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من ماله الجيد ، كما لو كان مال ربّ المال رديئا كله غير جيد ، فوجبت فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم فيه لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه حقهم ، فقال تبارك وتعالى لأرباب الأموال : زكوا من جيد أموالكم الجيد ، ولا تيمموا الخبيث الرديء ، تعطونه أهل سهمان الصدقة ، وتمنعونهم الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم ، ولستم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الجيد الواجب لكم قِبل من وجب لكم عليه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه . يقول : ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حقّ ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم فأما إذا تطوّع الرجل بصدقة غير مفروضة فإني وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه لأن الله عزّ وجلّ أحقّ من تقرّب إليه بأكرم الأموال وأطيبها ، والصدقة قربان المؤمن ، فلست أحرّم عليه أن يعطي فيها غير الجيد ، لأن ما دون الجيد ربما كان أعمّ نفعا لكثرته ، أو لعظم خطره ، وأحسن موقعا من المسكين ، وممن أعطيه قربة إلى الله عزّ وجلّ من الجيد ، لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه .

وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل العلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن هذه الآية : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ ما كَسَبْتُمْ ومِمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلاَ تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : ذلك في الزكاة ، الدرهم الزائف أحبّ إليّ من التمرة .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن ذلك ، فقال : إنما ذلك في الزكاة ، والدرهم الزائف أحبّ إليّ من التمرة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن هذه الآية : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } فقال عبيدة : إنما هذا في الواجب ، ولا بأس أن يتطوّع الرجل بالتمرة ، والدرهم الزائف خير من التمرة .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين في قوله : { وَلاَ تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قال : إنما هذا في الزكاة المفروضة ، فأما التطوّع فلا بأس أن يتصدّق الرجل بالدرهم الزائف ، والدرهم الزائف خير من التمرة .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : واعلموا أيها الناس أن الله عزّ وجلّ غنيّ عن صدقاتكم وعن غيرها ، وإنما أمركم بها ، ورفضها في أموالكم ، رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم ، ويقوّي بها ضعيفكم ، ويجزل لكم عليها في الاَخرة مثوبتكم ، لا من حاجة به فيها إليكم . ويعني بقوله : { حَمِيدٌ } أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه ، وبسط لهم من فضله . كما :

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن عديّ بن ثابت ، عن البراء بن عازب في قوله : { وَاللّهُ غَنِيّ حَمِيدٌ } عن صدقاتكم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 267 )

هذا الخطاب هو لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذه صيغة أمر من الإنفاق ، واختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق( {[2624]} ) ، الزكاة المفروضة أو التطوع ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين : هي في الزكاة المفروضة . نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد ، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر ، ودرهم زائف خير من تمرة( {[2625]} ) ، فالأمر على هذا القول للوجوب ، والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن بن أبي الحسن وقتادة ، أن الآية في التطوع ، وروى البراء بن عازب ، وعطاء بن أبي رباح ما معناه أن الأنصار كانوا أيام الجداد( {[2626]} ) يعلقون أقناء التمر في حبل بين أسطوانتين في المسجد فيأكل من ذلك فقراء المهاجرين فعلق رجل حشفاً فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «بئسما علق هذا » ، فنزلت الآية .

قال القاضي أبو محمد : والأمر على هذا القول على الندب ، وكذلك ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار ، والآية تعم الوجهين( {[2627]} ) ، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب ، وهؤلاء كلهم وجمهور المتأولين قالوا معنى { من طيبات } من جيد ومختار { ما كسبتم } ، وجعلوا { الخبيث } بمعنى الرديء والرذالة ، وقال ابن زيد معناه : من حلال ما كسبتم ، قال : وقوله : { ولا تيمموا الخبيت } أي الحرام .

قال القاضي أبو محمد : وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه( {[2628]} ) ، وقوله : { من طيبات ما كسبتم } يحتمل أن لا يقصد به لا الجيد ولا الحلال ، لكن يكون المعنى كأنه قال : أنفقوا مما كسبتم ، فهو حض على الإنفاق فقط . ثم دخل ذكر الطيب تبييناً لصفة حسنة في المكسوب عاماً وتعديداً للنعمة كما تقول : أطعمت فلاناً من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء( {[2629]} ) ، والطيب على هذا الوجه يعم الجود والحل ، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال : ليس في مال المؤمن خبيث( {[2630]} ) ، و { كسبتم } معناه كانت لكم فيه سعاية ، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة( {[2631]} ) ، والموروث داخل في هذا لأن غير الوارث قد كسبه( {[2632]} ) ، إذ الضمير في { كسبتم } إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين ، { ومما أخرجنا لكم من الأرض }( {[2633]} ) النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك ، و { تيمموا } معناه تعمدوا وتقصدوا ، يقال تيمم الرجل كذا وكذا إذا قصده ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]

تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ التي عِنْدَ ضَارِجٍ . . . يفيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِ( {[2634]} )

ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]

تَيَمَّمْتُ قَيْساً وَكَمْ دُونَهُ . . . مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ( {[2635]} )

ومنه التيمم الذي هو البدل من الوضوء عند عدم الماء ، وهكذا قرأ جمهور الناس وروى البزي عن ابن كثير تشديد التاء في أحد وثلاثين موضعاً أولها هذا الحرف( {[2636]} ) ، وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله بن مسعود «ولا تؤموا الخبيث » من أممت إذا قصدت ، ومنه إمام البناء ، والمعنى في القراءتين واحد ، وقرأ الزهري ومسلم بن جندب( {[2637]} ) «ولا تُيمِّموا » بضم التاء وكسر الميم ، وهذا على لغة من قال : يممت الشيء بمعنى قصدته ، وفي اللفظ لغات ، منها أممت الشيء خفيفة الميم الأولى وأممته بشدها ويممته وتيممته ، وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ «ولا تؤمموا » بهمزة بعد التاء ، وهذه على لغة من قال أممت مثقلة الميم ، وقد مضى القول في معنى { الخبيث } وقال الجرجاني في كتاب نظم القرآن : قال فريق من الناس : إن الكلام تم في قوله : { الخبيث } ثم ابتدأ خبراً آخر في وصف الخبيث فقال : { منه تنفقون }( {[2638]} ) وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي ساهلتم .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع ، والضمير في { منه } عائد على { الخبيث } ، قال الجرجاني وقال فريق آخر : بل الكلام متصل إلى قوله { فيه } .

قال القاضي أبو محمد : فالضمير في { منه } عائد على { ما كسبتم } ، ويجيء { تنفقون } كأنه في موضع نصب على الحال ، وهو كقولك : إنما أخرج أجاهد في سبيل الله ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } فقال البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وغيرهم . معناه ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تساهلوا في ذلك ، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه ، أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم ، وقال الحسن بن أبي الحسن معنى الآية : لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع ، إلا أن يهضم لكم من ثمنه ، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة( {[2639]} ) وقال البراء بن عازب أيضاً : معناه ولستم بآخذيه لو أهدي إليكم { إلا أن تغمضوا } أي تستحيي من المهدي أن تقبل منه ما لا حاجة لك فيه ، ولا قدر له في نفسه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يشبه كون الآية في التطوع ، وقال ابن زيد معنى الآية : ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه( {[2640]} ) ، وقرأ جمهور الناس «إلا أن تُغْمِضوا » بضم التاء وسكون الغين وكسر الميم . وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففاً ، وروي عنه أيضاً «تُغْمِّضُوا » بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة ، وحكى مكي عن الحسن البصري «تغمَّضوا » مشددة الميم مفتوحة وبفتح التاء .

وقرأ قتادة بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففاً قال أبو عمرو معناه : إلا أن يغمض لكم .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذه اللفظة تنتزع إما من قول العرب أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز ، فمن ذلك قول الطرماح بن حكيم : [ الخفيف ]

لَمْ يَفُتنا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وللذُ . . . لِّ أُنَاسٌ يَرْضَونَ بالإغْمَاضِ( {[2641]} )

وإما أن تنتزع من تغميض العين لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عنه عينيه ومنه قول الشاعر :

إلى كم وكم أشياء منكمْ تريبني . . . أغمض عنها لست عنها بذي عمى

وهذا كالإغضاء عند المكروه ، وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه مكي ، وإما من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى غامضاً من الأمر كما تقول : أعمن إذا أتى عمان ، وأعرق إذا أتى العراق ، وأنجد ، وأغور ، إذا أتى نجداً والغور الذي هو تهامة ، ومنه قول الجارية : وإن دسر أغمض( {[2642]} ) فقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى التغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضاً من التأويل والنظر في أخذ ذلك إما لكونه حراماً على قول ابن زيد ، وإما لكونه مهدياً أو مأخوذاً في دين على قول غيره ، وأما قراءة الزهري الأولى فمعناها تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم ، قال أبو عمرو معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان .

قال القاضي أبو محمد : وأما قراءته( {[2643]} ) الثانية فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها . ويحتمل أن تكون من تغميض العين . وأما قراءة قتادة فقد ذكرت تفسير أبي عمرو لها . وقال ابن جني : معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس ، وهذا كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محموداً إلى غير ذلك من الأمثلة ، ثم نبه تعالى على صفة الغنى أي لا حاجة به إلى صدقاتكم ، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر( {[2644]} ) ، و { حميد } معناه محمود في كل حال ، وهي صفة ذات .


[2624]:- لما ذكر سبحانه وجوب الإخلاص في الإنفاق ذكر هنا ضرورة الإخلاص في الشيء المُنْفَق أيضا، وبإخلاص الظاهر والباطن تتحقق النتيجة إن شاء الله يضاعف ثوابه.
[2625]:- يعني أنه في التطوع يجوز للإنسان أن يعطي غير الطيب، لأنه قد يكون أعم نفعاً لكثرته، أو لعظم خطره، وأحسن موقعا من المسكين من الجيد لقلته، أو لصغر خطره، وقلة جدوى نفعه على من أُعطيه، وعليه فقد يكون الدرهم الزائف خيرا من تمرة لقلتها، انظر تفسير الإمام (ط) رحمه الله.
[2626]:- أي جداد النخل وصرامه وهو بالمهملة والمعجمة، يقال: جذَّ النخل إذا قطعه وصرمه، وحديث البراء بن عازب خرجه الإمام الترمذي وصححه.
[2627]:- هذا هو الظاهر، وله من الأدلة ما يؤيده، منها أن سبب الآية كان في التطوع، ومنها أن الرديء غير محمود لا في الفرض ولا في النفل، وإنما يحرم في الفرض ويكره في النفل.
[2628]:- لا مانع من اعتبار الأمرين جميعا، لأن الكسب الجيد والمختار إنما يطلق على الحلال في الحقيقة الشرعية، وإن أطلق أهل اللغة على ما هو جيد في ذاته حلالا أم حراما، والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية، ويرجع إلى هذا قول ابن عطية رحمه الله فيما بعد: والطيب على هذا الوجه يعم الجودة والحل إلخ. تأمل.
[2629]:- روى الطبراني بسنده، عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطعم أخاه حتى يشبعه، وسقاه من الماء حتى يرويه بعده الله من النار سبع خنادق، ما بين كل خندقين مسيرة مائة عام).
[2630]:- روى حديث عبد الله بن مغفل ابن حاتم كما في تفسير الحافظ ابن (ك). وفي نسخة عبد الله بن معقل. وعبد الله بن مغفل المزني من مشاهير الصحابة نقل البخاري أنه كان يكنى أبا زياد، وهو أحد البكاتين في غزوة تبوك مات سنة 61هـ بالبصرة. وعبد الله بن معقل مات في حدود السبعين، وهو صحابي أنصاري، شهد أحدا مع أبيه، وهو شاعر مقل من شعراء الدولة الأموية.
[2631]:- في التجارة تسعة أعشار الرزق، ويقال: علموا أولادكم التجارة، ولا تعلموهم الإجارة، والإجارة هي ما فيها تعب البدن.
[2632]:- يريد الموروث، وهذا ما فسر به ابن عطية رحمه الله تبعا لغيره، ويعني أنه لا فرق بين أن يكون كسبه بنفسه، أو كسبه بغيره كالوارث، ولك أن تقول: ذكرت الآية المكسوب، لأن بذله يكون أشق على النفس من غير المكسوب كالميراث، وفي ذلك إشارة إلى أن ثواب الصدقة من الحلال المكتسب أعظم من الحلال غير المكتسب.
[2633]:- بهذه الآية الكريمة استدل الحنفية على وجوب الزكاة من جميع ما يخرج من الأرض، وللمذاهب الأخرى تفصيل مأخوذ من السنة، والله أعلم.
[2634]:- قبله: ولمَّـا رأتْ أنَّ الشريعة هَمُّهـا وأن البياض من فرائصها دامـي تَيَمَّمَتِ العَيْنَ التي عند ضـارج يفيءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضهَا طَامِي والضمير في (رأت) لحمر الوحش، والشريعة مورد الماء المقصود، ويريد أن الحمر لما أرادت شريعة الماء وخافت على نفسها من الرماة، وأن تدمي فرائصها من سهامهم عَدَلتْ إلى ضارج لعدم وجود الرماة على العين التي فيه، وضارج: موضع في بلاد بني عبس، والعرمض: الطحلب، والطامي: المرتفع، وفي رواية (الطلح) بدل (الظل).
[2635]:- أي ذي خشونة، لأن أرضه غير مستوية. وقد روي البيت: «تُيَمِّمُ قيسا» يريد الناقة.
[2636]:- ذكرها أبو (ح) رحمه الله في كتبه، ونظمها في تفسيره، وقراءة البزي لا تجوز عند البصريين لما فيها من الجمع بن الساكنين، وليس الساكن الأول حرف مدِّ ولين، إلا أن الأمة تلقتها بالقبول، والعلم غير محصور في البصريين، وقد كان الأصل تاءين، تاء الخطاب، وتاء الفعل، فحذفت تاء الخطاب في القراءة العامة لئلا يتكرر مثلان، والبزي رد الحرف المحذوف وأدغمه.
[2637]:- مسلم بن جندب تابعي مدني يعد من القراء، ومن النحاة، وهو أحد من أخذ عنه القراءة نافع بن أبي نعيم.
[2638]:- تقديم الجار والمجرور يفيد التخصيص، أي لا تقصدوا المال الخبيث مخصصين الإنفاق به، وقاصرين ذلك عليه، وفي ذلك تنبيه على أن المنهي عنه هو القصد للرديء من جملة ما في يده، وأما إنفاق الرديء لمن ليس له غيره، أو لمن لا يقصده فغير منهي عنه.
[2639]:- قال ابن العربي: لو كانت الآية في الفرض لما قال: [ولستم بآخذيه] لأن الرديء والمعيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه، وإنما يؤخذ بإغماض ما سواه.
[2640]:- قال أبو (ح) بعد أن أورد هذه الأقوال: «والظاهر عموم نفي الأخذ بأي طريق، والهاء في (بآخذيه) عائدة على الخبيث، وهي مجرورة بالإضافة، وإن كانت من حيث المعنى مغعولة». البحر المحيط 2-318
[2641]:- الوتر – بفتح الواو وكسرها: الذَّحْل، والظلم فيه، والذَّحْل: الحقد والعداوة والثأر، والجمع: أذحال وذحول، يقال: طلب بذحله: أي بثأره – وقد روي "والذُّل" بدل "واللضّيْم"، والإغماض هنا كما يرى المؤلف هو التساهل في الحقوق، والرضا ببعضها مع التجاوز عن بعضها الآخر.
[2642]:- روى أبو علي القالي في كتاب "الأمالي" قصة هذه الجارية، وهي واحدة من ثلاث بنات سألتهن أمهن العجوز عما يحببن من الأزواج، وقالت كل واحدة ما تحبه، وجاء في كلام الثالثة وهي صغراهن: «أُريده بازل عام، كالمهند الصمصام، قرانه حبور، وبقاؤه سرور، إن دسر أغمض، وإن أخلَّ أحمض... الخ» والدسر هنا معناه الجماع.
[2643]:- هذا مقابل قوله: «وأما قراة الزهري الأولى»، وقوله: «فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها» يعني أن معناها حتى تأخذوا بنقصان.
[2644]:- يعني أنه سبحانه وإن أمركم بالنفقة فإن ذلك لمنفعتكم ولمصلحة الفقير والغني منكم، وإلا فهو غني عن صدقاتكم، ولذلك فمن تصدق بصدقة طيبة فليعلم أن الله غني واسع العطاء. وأنه سيجزيه عليها ويضاعفها له أضعافا كثيرة، وأنه المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرائعه لا إله إلا الله ولا رب سواه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

إفضاء إلى المقصود وهو الأمرُ بالصدقات بعد أن قُدم بين يديه مواعظ وترغيبٌ وتحذير . وهي طريقة بلاغية في الخطابة والخِطاب . فربما قدموا المطلوب ثم جاؤوا بما يكسبه قبولاً عند السامعين ، وربما قدموا ما يكسب القبولَ قبل المقصود كما هنا . وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجُمل ، ونكتة ذلك أنّه قد شاع بين الناس الترغيب في الصدقة وتكرّر ذلك في نزول القرآن فصار غرضاً دينياً مشهوراً ، وكان الاهتمام بإيضاحه والترغيب في أحواله والتنفير من نقائصه أجدر بالبيان . ونظير هذا قول علي في خطبته التي خطبها حين دخل سُفيان الغَامِدي أحد قواد أهل الشام بلدَ الأنبار وهي من البلاد المطيعة للخليفة علي وقتلوا عاملها حسان بنَ حسان البَكري : « أما بعد فإنّ من تَرك الجهاد رغبةَ عنه ألبسه الله ثوبَ الذل ، وشملُه البلاء ، ودُيِّثَ بالصّغار ، وضرب على قلبه ، وسيم الخَسْفَ ، ومُنِع النِّصْف . ألاَ وإنِّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وقلتُ لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم ، فوالله ما غُزِي قوم في عُقْر دارهم إلاّ ذلوا ، فتواكلتم . هذا أخو غامد قد وردتْ خيلُه الأنباء » إلخ . وانظر كلمة « الجهاد » في هذه الخطبة فلعل أصلها القِتال كما يدل عليه قوله بعده إلى قتال هؤلاء فحَرفَها قاصِدٌ أو غَافِلٌ ولا إخالها تصدر عن علي رضي الله عنه .

والأمر يجوز أن يكون للوجوب فتكون الآية في الأمر بالزكاة ، أو للندب وهي في صدقة التطوّع ، أو هو للقدر المشترك في الطَلب فتشمل الزكاة وصدقة التطوّع ، والأدلة الأخرى تبيّن حكم كل . والقيد بالطَّيِّبَات يناسب تعميم النفقات .

والمراد بالطيّبات خيار الأموال ، فيطلق الطيِّب على الأحسن في صنفه . والكَسب ما يناله المرء بسعيه كالتجارة والإجارة والغنيمة والصيد . ويطلق الطيّب على المال المكتسب بوجه حلال لا يخالطه ظلم ولا غشّ ، وهو الطيّب عند الله كقول النبي صلى الله عليه وسلم " من تصدق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيّباً تلقّاها الرحمن بيمينه " الحديث ، وفي الحديث الآخر : " إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً " . ولم يذكر الطيّبات مع قوله : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } اكتفاء عنه بتقدم ذكره في قسيمه ، ويظهر أنّ ذلك لم يقيّد بالطيّبات لأنّ قوله : { أخرجنا لكم } أشعر بأنّه مما اكتسبه المرء بعمله بالحرث والغرس ونحو ذلك ، لأنّ الأموال الخبيثة تحصل غالباً من ظُلم الناس أو التحيّل عليهم وغشّهم وذلك لا يتأتّى في الثمرات المستخرجة من الأرض غالباً .

والمراد بما أخرج من الأرض الزروع والثمار ، فمنه ما يخرج بنفسه ، ومنه ما يعالج بأسبابه كالسقي للشجر والزرع ، ثم يخرجه الله بما أوجد من الأسباب العادية .

وبعض المفسرين عد المعادن داخلة في { ما أخرجنا لكم من الأرض } . وتجب على المعدن الزكاة عند مالك إذا بلغ مقدار النّصاب ، وفيه ربع العشر . وهو من الأموال المفروضة وليس بزكاة عند أبي حنيفة ، ولذلك قال فيه الخمس . وبعضهم عدّ الركاز داخلاً فيما أخرج من الأرض ولكنّه يخمس ، والحق في الحكم بالغنيمة عند المالكية . ولعلّ المراد بما كسبتم الأموال المزكّاة من العين والماشية ، وبالمخرج من الأرض الحبوب والثمار المزكّاة .

وقوله : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } أصل تيمّموا تتيمموا ، حذفت تاء المضارعة في المضارع وتَيمّم بمعنى قصد وعمد .

والخبيث الشديد سُوءاً في صنفه فلذلك يطلق على الحرام وعلى المستقذر قال تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] وهو الضدّ الأقصى للطيّب فلا يطلق على الرديء إلاّ على وجه المبالغة ، ووقوع لفظه في سياق النهي يفيد عموم ما يصدق عليه اللفظ .

وجملة { منه تنفقون } حال ، والجار والمجرور معمولان للحال قدماً عليه للدلالة على الاختصاص ، أي لا تقصدوا الخبيث في حال إلاّ تنفقوا إلاّ منه ، لأنّ محل النهي أن يخرج الرجل صدقته من خصوص رديء ماله . أما إخراجه من الجيدَ ومن الرديء فليس بمنهي لا سيما في الزكاة الواجبة لأنّه يخرج عن كل ما هو عنده من نوعه . وفي حديث « الموطأ » في البيوع " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عاملاً على صدقات خيبر فأتاه بتَمْر جَنيب فقال له : أكُلُّ تَمْرِ خيبر هكذا قال : لا ، ولكنّي أبيع الصاعين من الجَمْع بصاع من جنيب . فقال له : بع الجمع بالدّراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً " فدل على أنّ الصدقة تؤخذ من كل نصاب من نوعه ، ولكنّ المنهي عنه أن يخصّ الصدقة بالأصناف الرديئة . وأما في الحيوان فيؤخذ الوسط لتعذّر التنويع غالباً إلاّ إذا أكثر عدده فلا إشكال في تقدير الظرف هنا .

وقرأ الجمهور { تَيمّموا } بتاء واحدة خفيفة وصْلاً وابتداء ، أصله تَتيمّموا ، وقرأه البزي عن ابن كثير بتشديد التاء في الوصل على اعتبار الإدغام .

وقوله : { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } جملة حالية من ضمير تنفقون ويجوز أن يكون الكلام على ظاهره من الإخبار فتكون جملة الحال تعليلاً لنهيهم عن الإنفاق من المال الخبيث شرعاً بقياس الإنفاق منه على اكتسابه قياس مساواة أي كما تكرهون كسبه كذلك ينبغي أن تكرهوا إعطاءه . وكأنّ كراهية كسبه كانت معلومة لديهم متقرّرة في نفوسهم ، ولذلك وقع القياس عليها .

ويجوز أن يكون الكلام مستعملاً في النهي عن أخذ المال الخبيث ، فيكون الكلام منصرفاً إلى غرض ثانٍ وهو النهي عن أخذ المال الخبيث والمعنى لا تأخذوه ، وعلى كلا الوجهين هو مقتضٍ تحريم أخذ المال المعلومة حِرمته على من هو بيده ولا يُحلّه انتقاله إلى غيره .

والإغماض إطباق الجفن ويطلق مجازاً على لازم ذلك ، فيطلق تارة على الهناء والاستراحة لأنّ من لوازم الإغماض راحة النائم قال الأعشى :

عليكِ مثلُ الذي صَلِّيتِ فاغْتمضي *** جَفْناً فإنّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعَا

أراد فاهنئي . ويطلق تارة على لازمه من عدم الرؤية فيدل على التسامح في الأمر المكروه كقول الطرماح :

لم يَفُتْنا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وَللضّ *** يْمِ رجالٌ يَرْضَوْن بالإغماض

فإذا أرادوا المبالغة في التغافل عن المكروه الشديد قالوا أغمض عينه على قذى ؛ وذلك لأنّ إغماض الجفن مع وجود القذى في العين . لقصد الراحة من تحرّك القذى ، قال عبد العزيز بن زُرَارة الكَلاَئي{[195]} :

وأغْمَضْتُ الجُفُونَ على قَذَاها *** ولَمْ أسْمَعْ إلى قالٍ وقِيلِ

والاستثناء في قوله : { إلا أن تغمضوا فيه } على الوجه الأول من جعل الكلام إخباراً ، هو تقييد للنفي . وأما على الوجه الثاني من جعل النفي بمعنى النهي فهو من تأكيد الشيء بما يُشبه ضدّه أما لا تأخذوه إلاّ إذا تغاضيتم عن النهي وتجاهلتموه .

وقوله : { واعلموا أن الله غني حميد } تذييل ، أي غني عن صدقاتكم التي لا تنفع الفقراء ، أو التي فيها استساغة الحرام . حميد ، أي شاكر لمن تصدّق صدقة طيّبة . وافتتحه باعلموا للاهتمام بالخبر كما تقدم عند قوله تعالى : { واتقوا الله واعلوا أنكم ملاقوه } [ البقرة : 223 ] ، أو نُزِّل المخاطبون الذين نُهوا عن الإنفاق من الخبيث منزلة من لا يعلم أن الله غني فأعطوا لوجههِ ما يقبله المحتاج بكل حال ولم يعلموا أنّه يحمد من يعطي لوجهه من طيّب الكسب .

والغني الذي لا يحتاج إلى ما تكثر حاجة غالب الناس إليه ، ولِلَّهِ الغنى المطلق فلا يعطى لأجله ولامتثال أمره إلاّ خير ما يعطيه أحد للغَنِي عن المال .

والحميد من أمثلة المبالغة ، أي شديد الحَمد ؛ لأنه يثني على فاعلي الخيرات . ويجوز أن يكون المراد أنّه محمود ، فيكون حَميد بمعنى مفعول ، أي فتخلَّقُوا بذلك لأنّ صفات الله تعالى كمالات ، فكونوا أغنياء القلوب عن الشحّ محمودين على صدقاتكم ، ولا تعطوا صدقات تؤذن بالشحّ ولا تشكرون عليها .


[195]:- الكلائي نسبة إلأى الكلاء بوزن جبار محلة بالبصرة قرب الشاطئ. والكلاء الشاطي. وهذه الأبيات قالها بعد أن مكث عاما بباب معاوية لم يؤذن له وأدناه وأولاه مصر، وقبله: دخلت على معاوية بن حرب ولكن بعد يأس من دخول وما نلت الدخول عليه حتى حللت محلة الرجل الذليل