المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

افتتحت بنهي المؤمنين عن الحكم بشيء قبل أن يأمر به الله ورسوله ، وعن رفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأثنت على الذين يخفضون أصواتهم في حضرته ، ونددت بمن يتركون الأدب فينادونه صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته ، ثم أمرت المؤمنين بالتثبت من أخبار الفاسقين وضعاف الإيمان ، وأمرت الولاة بما يفعلونه عند تقاتل فريقين من المؤمنين ، ونهت المؤمنين عن استهزاء بعضهم ببعض ، وتعييب بعضهم بعضا . وعن ظن السوء بأهل الخير ، وعن تتبع بعضهم ، ونهت الأعراب عن ادعاء الإيمان قبل أن يستقر في قلوبهم ، ثم أبانت من هم المؤمنون الصادقون ، وختمت الحديث بالنهي عن المن على رسول الله بالإسلام ، وبينت أن المنة لله عليهم بهدايتهم إلى الإيمان ، وإن كانوا صادقين في دعواهم .

1- يا أيها الذين آمنوا : لا تقدِّموا أي أمر في الدين والدنيا دون أن يأمر به الله ورسوله ، واجعلوا لأنفسكم وقاية من عذاب الله بامتثال شريعته . إن الله عظيم السمع لكل ما تقولون ، محيط علمه بكل شيء .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

هذه السورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية ، سورة جليلة ضخمة ، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ، ومن حقائق الوجود والإنسانية . حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقاً عالية وآماداً بعيدة ؛ وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة ؛ وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم ، وقواعد التربية والتهذيب ، ومبادئ التشريع والتوجيه ، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات !

وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبر والتفكير .

وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة ، هو أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة ، لعالم رفيع كريم نظيف سليم ؛ متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم ؛ والتي تكفل قيامه أولاً ، وصيانته أخيراً . . عالم يصدر عن الله ، ويتجه إلى الله ، ويليق أن ينتسب إلى الله . . علم نقي القلب ، نظيف المشاعر ، عف اللسان ، وقبل ذلك عف السريرة . . عالم له أدب مع الله ، وأدب مع رسوله ، وأدب مع نفسه ، وأدب مع غيره . أدب في هواجس ضميره ، وفي حركات جوارحه . وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه ، وله نظمه التي تكفل صيانته . وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب ، وتنبثق منه ، وتتسق معه ؛ فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره ، وتتلاقى شرائعه ومشاعره ، وتتوازن دوافعه وزواجره ؛ وتتناسق أحاسيسه وخطاه ، وهو يتجه ويتحرك إلى الله . . ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته ، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور ؛ ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم . بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق . كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده ، كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها . بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة ، والدولة بالأفراد ؛ وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق .

هو عالم له أدب مع الله ، ومع رسول الله . يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب ، والرسول الذي يبلغ عن الرب : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله ، إن الله سميع عليم ) . . فلا يسبق العبد المؤمن إلهه في أمر أو نهي ، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم ؛ ولا يتجاوز ما يأمر به وما ينهى عنه ؛ ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأيا مع خالقه . . تقوى منه وخشية ، وحياء منه وأدبا . . وله أدب خاص فيه خطاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتوقيره : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي . ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، لهم مغفرة وأجر عظيم . إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ، والله غفور رحيم ) . .

وهو عالم له منهجه في التثبت من الأقوال والأفعال ، والاستيثاق من مصدرها ، قبل الحكم عليها . يستند هذا المنهج إلى تقوى الله ، وإلى الرجوع بالأمر إلى رسول الله ، في غير ما تقدم بين يديه ، ولا اقتراح لم يطلبه ولم يأمر به : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ؛ واعلموا أن فيكم رسول الله ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم . ولكن الله حبب إليكم الإيمان ، وزينه في قلوبكم ، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ، أولئك هم الراشدون ، فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم ) . .

وهو عالم له نظمه وإجراءاته العملية في مواجهة ما يقع فيه من خلاف وفتن وقلاقل واندفاعات ، تخلخل كيانه لو تركت بغير علاج . وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة بين المؤمنين ، ومن حقيقة العدل والإصلاح ، ومن تقوى الله والرجاء في رحمته ورضاه : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ؛ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ؛ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا ، إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة ، فأصلحوا بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) . .

وهو عالم له آدابه النفسية في مشاعره تجاه بعضه البعض ؛ وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض : ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ؛ ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ؛ ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم : الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) . .

وهو عالم نظيف المشاعر ، مكفول الحرمات ، مصون الغيبة والحضرة ، لا يؤخذ فيه أحد بظنة ، ولا تتبع فيه العورات ، ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس : ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ، ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه ! واتقوا الله ، إن الله تواب رحيم ) .

وهو عالم له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب ؛ وله ميزانه الواحد الذي يقوم به الجميع . إنه ميزان الله المبرأ من شوائب الهوى والاضطراب : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير ) . .

والسورة بعد عرض هذه الحقائق الضخمة التي تكاد تستقل برسم معالم ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم ، تحدد معالم الإيمان ، الذي باسمه دعي المؤمنون إلى إقامة ذلك العالم . وباسمه هتف لهم ليلبوا دعوة الله الذي يدعوهم إلى تكاليفه بهذا الوصف الجميل ، الحافز إلى التلبية والتسليم : يا أيها الذين آمنوا . . ذلك النداء الحبيب الذي يخجل من يدعى به من الله أن لا يجيب ؛ والذي ييسر كل تكليف ويهون كل مشقة ، ويشوق كل قلب فيسمع ويستجيب : ( قالت الأعراب : آمنا . قل : لم تؤمنوا ، ولكن قولوا : أسلمنا . ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ، إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ، ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون . قل : أتعلمون الله بدينكم ، والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، والله بكل شيء عليم ) . .

وتكشف السورة في ختامها عن ضخامة الهبة الإلهية للبشر . هبة الإيمان التي يمن بها على من يشاء ، وفق ما يعلمه فيه من استحقاق : يمنون عليك أن أسلموا . قل : لا تمنوا علي إسلامكم . بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون . .

فأما الأمر الثاني الذي يبرز للنظر من خلال السورة ، ومن مراجعة المناسبات الواقعية التي صاحبت نزول آياتها ، فهو هذا الجهد الضخم الثابت المطرد ، الذي تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة ، لإنشاء وتربية تلك الجماعة المسلمة ، التي تمثل ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم ، الذي وجدت حقيقته يوما على هذه الأرض ؛ فلم يعد منذ ذلك الحين فكرة مثالية ، ولا حلما طائرا ، يعيش في الخيال !

هذه الجماعة المثالية التي تمثلت حقيقة واقعة في فترة من فترات التاريخ لم تنبت فجأة ولم توجد مصادفة ؛ ولم تخلق بين يوم وليلة . كذلك لم تظهر نتيجة نفحة تغير طبائع الأشياء كلها في لحظة أو ومضة . بل نمت نموا طبيعيا بطيئا كما تنمو الشجرة الباسقة العميقة الجذور . وأخذت الزمن اللازم لنموها ، كما أخذت الجهد الموصول الثابت المطرد الضروري لهذا النمو . واحتاجت إلى العناية الساهرة ، والصبر الطويل ، والجهد البصير في التهذيب والتشذيب ، والتوجيه والدفع ، والتقوية والتثبيت . واحتاجت إلى معاناة التجارب الواقعية المريرة والابتلاءات الشاقة المضنية ؛ مع التوجيه لعبرة هذه التجارب والابتلاءات . . وفي هذا كله كانت تتمثل الرعاية الإلهية لهذه الجماعة المختارة - على علم - لحمل هذه الأمانة الكبرى ؛ وتحقيق مشيئة الله بها في الأرض . وذلك مع الفضائل الكامنة والاستعدادات المكنونة في ذلك الجيل ؛ وفي الظروف والأحوال المهيأة له على السواء . . وبهذا كله أشرقت تلك الومضة العجيبة في تاريخ البشرية ؛ ووجدت هذه الحقيقة التي تتراءى من بعيد وكأنها حلم مرفرف في قلب ، أو رؤيا مجنحة في خيال !

( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله إن الله سميع عليم . يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، لهم مغفرة وأجر عظيم . إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون . ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ، والله غفور رحيم ) . .

تبدأ السورة بأول نداء حبيب ، وأول استجاشة للقلوب . ( يا أيها الذين آمنوا ) . . نداء من الله للذين آمنوا به بالغيب . واستجاشة لقلوبهم بالصفة التي تربطهم به ، وتشعرهم بأنهم له ، وأنهم يحملون شارته ، وأنهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده ، وأنهم هنا لأمر يقدره ويريده ، وأنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم اختيارا لهم ومنة عليهم ، فأولى لهم أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا ، وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه وتوجيهه في نفسه وفي غيره ، يفعل ما يؤمر ويرضى بما يقسم ، ويسلم ويستسلم :

( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله إن الله سميع عليم ) . .

يا أيها الذين آمنوا ، لا تقترحوا على الله ورسوله اقتراحا ، لا في خاصة أنفسكم ، ولا في أمور الحياة من حولكم . ولا تقولوا في أمر قبل قول الله فيه على لسان رسوله ، ولا تقضوا في أمر لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول رسوله .

قال قتادة : ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا وكذا . لو صح كذا . فكره الله تعالى ذلك . وقال العوفي : نهوا أن يتكلموا بين يديه . وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه . وقال الضحاك : لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم . وقال علي بن طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة .

فهو أدب نفسي مع الله ورسوله . وهو منهج في التلقي والتنفيذ . وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته . . وهو منبثق من تقوى الله ، وراجع إليها . هذه التقوى النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم . . وكل ذلك في آية واحدة قصيرة ، تلمس وتصور كل هذه الحقائق الأصلية الكبيرة .

وكذلك تأدب المؤمنون مع ربهم ومع رسولهم ؛ فما عاد مقترح منهم يقترح على الله ورسوله ؛ وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يدلي به ؛ وما عاد أحد منهم يقضي برأيه في أمر أو حكم ، إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول الرسول . .

روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه - باسناده - عن معاذ - رضي الله عنه - حيث قال له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين بعثه إلى اليمن : " بم تحكم ? " قال : بكتاب الله تعالى . قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " فإن لم تجد ? " قال : بسنة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " فإن لم تجد ? " قال - رضي الله عنه - : أجتهد رأيي . فضرب في صدره وقال " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لما يرضي رسول الله " .

وحتى لكأن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يسألهم عن اليوم الذي هم فيه ، والمكان الذي هم فيه ، وهم يعلمونه حق العلم ، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم : الله ورسوله أعلم . خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله !

جاء في حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي - رضي الله عنه - أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] سأل في حجة الوداع :

" أي شهر هذا ? " . . قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : " أليس ذا الحجة ? " قلنا بلى ! قال : " أي بلد هذا ? " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : " أليس البلدة الحرام ? " قلنا : بلى ! قال : " فأي يوم هذا ? " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : أليس يوم النحر ? قلنا بلى ! . . الخ .

فهذه صورة من الأدب ، ومن التحرج ، ومن التقوى ، التي انتهى إليها المسلمون بعد سماعهم ذلك النداء ، وذلك التوجيه ، وتلك الإشارة إلى التقوى ، تقوى الله السميع العليم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا : يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ، وبنبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهَ وَرَسُولِهِ يقول : لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم ، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله ، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله ، محكيّ عن العرب فلان يقدّم بين يدي إمامه ، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم بالبيان عن معناه ذكر من قال ذلك :

حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لا تُقَدّموا بينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ يقول : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ ورَسُولِهِ . . . الاَية قال : نُهُوا أن يتكلموا بين يدي كلامه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يا أيّها الّذينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ ذُكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا لوضع كذا وكذا ، قال : فكره الله عزّ وجلّ ذلك ، وقدم فيه .

وقال : الحسن : أناس من المسلمين ذبحوا قبل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ، فأمرهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحا آخر .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : إن أُناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا ، لو أنزل في كذا ، وقال الحسن : هم قوم نحروا قبل أن يصلي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الذبح .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ يعني بذلك في القتال ، وكان من أمورهم لا يصلح أن يُقْضَى إلا بأمره ما كان من شرائع دينهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله جلّ ثناؤه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : لا تقطعوا الأمر دون الله ورسوله .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : لا تقضوا أمرا دون رسول الله ، وبضم التاء من قوله : لا تُقَدّمُوا قرأ قرّاء الأمصار ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وقد حكي عن العرب قدّمت في كذا ، وتقدّمت في كذا ، فعلى هذه اللغة لو كان قيل : «لا تَقَدّمُوا » بفتح التاء كان جائزا .

وقوله : وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول : وخافوا الله أيها الذين آمنوا في قولكم ، أن تقولوا ما لم يأذن لكم به الله ولا رسوله ، وفي غير ذلك من أموركم ، وراقبوه ، إن الله سميع لما تقولون ، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم ، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم ، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

( 49 ) سورة الحجرات مدنية

وآياتها ثماني عشرة

وهي مدنية بإجماع من أهل التأويل{[1]}

كانت عادة العرب وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب ، فمشى بعض الناس ممن لم تتمرن نفسه مع النبي صلى الله عليه وسلم على بعض ذلك ، قال قتادة : فربما قال قوم : لو نزل كذا وكذا في معنى كذا وكذا وينبغي أن يكون كذا ، وأيضاً فإن قوماً ذبحوا ضحاياهم قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، حكاه الحسن بن أبي الحسن ، وقوماً فعلوا في بعض حروبه وغزواته أشياء بآرائهم ، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك ، وحكى الثعلبي عن مسروق أنه قال : دخلت على عائشة في يوم الشك فقالت للجارية : اسقه عسلاً ، فقلت : إني صائم ، فقالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام هذا اليوم ، وفيه نزلت : { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } . وقال ابن زيد : معنى { لا تقدموا } لا تمشوا «بين يدي رسول الله » ، وكذلك بين يدي العلماء فإنهم ورثة الأنبياء . وتقول العرب : تقدمت في كذا وكذا وتقدمت فيه : إذا قلت فيه .

وقرأ الجمهور من القراء : «تُقدِموا » بضم التاء وكسر الدال . وقرأ ابن عباس والضحاك ويعقوب بفتح التاء والدال على معنى : لا تتقدموا ، وعلى هذا يجيء تأويل ابن زيد في المشي . والمعنى على ضم التاء { بين يدي } قول الله ورسوله .

وروي أن سبب هذه الآية هو أن وفد بني تميم لما قدم قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله لو أمرت الأقرع بن حابس . وقال عمر بن الخطاب : لا يا رسول الله ، بل أمر القعقاع بن معبد ، فقال له أبو بكر : ما أردت إلى خلافي ، ويروى إلا خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، وارتفعت أصواتهما فنزلت الآية في ذلك{[10445]} . وذهب بعض قائلي هذه المقالة إلى أن قوله : { لا تقدموا } معناه : { لا تقدموا } ولاة ، فهو من تقديم الأمراء ، وعموم اللفظ أحسن ، أي اجعلوه مبدأً في الأقوال والأفعال . و : { سميع } معناه : لأقوالكم . { عليم } معناه : بأفعالكم ومقتضى أقوالكم .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[10445]:روى ذلك البخاري في صحيحه عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، ورواه أيضا عن أبي مليكة، قال: كاد الخيران أن يهلكا، أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل، قال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله:{يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} الآية، قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، وذكر الواحدي هذا في "أسباب النزول" بسنده دون الجزء الأخير وهو قول ابن الزبير رضي الله عنهما، وأورد السيوطي الحديث في الدر المنثور وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن مردويه، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. وقد ذكر ابن عطية هنا أن أبا بكر أشار بإمارة الأقرع بن حابس، وأن عمر أشار بإمارة القعقاع بن معبد، ولكن الرواية الثابتة في الدر المنثور، وفي أسباب النزول أن العكس هو الصحيح، وأن أبا بكر أشار بالقعقاع، وعمر أشار بالأقرع، وما في الطبري يوافق ما ذكره ابن عطية، ورواية البخاري لم تحدد.