( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ) . .
والمحاريب من أماكن العبادة ، والتماثيل الصور من نحاس وخشب وغيره . والجوابي جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء . وقد كانت الجن تصنع لسليمان جفاناً كبيرة للطعام تشبه الجوابي ، وتصنع له قدوراً ضخمة للطبخ راسية لضخامتها . . وهذه كلها نماذج مما سخر الله الجن لسليمان لتقوم له به حيث شاء بإذن الله . وكلها أمور خارقة لا سبيل إلى تصورها أو تعليلها إلا بأنها خارقة من صنع الله . وهذا هو تفسيرها الواضح الوحيد .
ويختم هذا بتوجيه الخطاب إلى آل داود :
سخرنا لكم هذا وذلك في شخص داود وشخص سليمان - عليهما السلام - فاعملوا يا آل داود شكراً لله . لا للتباهي والتعالي بما سخره الله . والعمل الصالح شكر لله كبير .
تعقيب تقريري وتوجيهي من تعقيبات القرآن على القصص . يكشف من جانب عن عظمة فضل الله ونعمته حتى ليقل القادرون على شكرها . ويكشف من جانب آخر عن تقصير البشر في شكر نعمة الله وفضله . وهم مهما بالغوا في الشكر قاصرون عن الوفاء . فكيف إذا قصروا وغفلوا عن الشكر من الأساس ? !
وماذا يملك المخلوق الإنساني المحدود الطاقة من الشكر على آلاء الله وهي غير محدودة ? . . وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . . وهذه النعم تغمر الإنسان من فوقه ومن تحت قدميه ، وعن أيمانه وعن شمائله ، وتكمن فيه هو ذاته وتفيض منه . وهو ذاته إحدى هذه الآلاء الضخام !
كنا نجلس جماعة نتحدث وتتجاوب أفكارنا وتتجاذب ، وتنطلق ألسنتنا بكل ما يخطر لنا على بال . ذلك حينما جاء قطنا الصغير " سوسو " يدور هنا وهناك من حولنا ، يبحث عن شيء ؛ وكأنما يريد أن يطلب إلينا شيئاً ، ولكنه لا يملك أن يقول ؛ ولا نملك نحن أن ندرك . حتى ألهمنا الله أنه يطلب الماء وكان هذا . وكان في شدة العطش . وهو لا يملك أن يقول ولا أن يشير . . وأدركنا في هذه اللحظة شيئاً من نعمة الله علينا بالنطق واللسان ، والإدراك والتدبير . وفاضت نفوسنا بالشكر لحظة . . وأين الشكر من ذلك الفيض الجزيل .
وكنا فترة طويلة محرومين من رؤية الشمس . وكان شعاع منها لا يتجاوز حجمه حجم القرش ينفذ إلينا أحياناً . وإن أحدنا ليقف أمام هذا الشعاع يمرره على وجهه ويديه وصدره وظهره وبطنه وقدميه ما استطاع . ثم يخلي مكانه لأخيه ينال من هذه النعمة ما نال ! ولست أنسى أول يوم بعد ذلك وجدنا فيه الشمس . لست أنسى الفرحة الغامرة والنشوة الظاهرة على وجه أحدنا ، وفي جوارحه كلها ، وهو يقول في نغمة عميقة مديدة . . الله ! هذه هي الشمس . شمس ربنا وما تزال تطلع . . الحمد لله !
فكم نبعثر في كل يوم من هذه الأشعة المحيية ، ونحن نستحم في الضوء والدفء . ونسبح ونغرق في نعمة الله ? وكم نشكر هذا الفيض الغامر المتاح المباح من غير ثمن ولا كد ولا معاناة ? !
وحين نمضي نستعرض آلاء الله على هذا النحو فإننا ننفق العمر كله ، ونبذل الجهد كله ، ولا نبلغ من هذا شيئاً . فنكتفي إذن بهذه الإشارة الموحية ، على طريقة القرآن في الإشارة والإيماء ، ليتدبرها كل قلب ، ويمضي على إثرها ، قدر ما يوفقه الله لنعمة الشكر ، وهي إحدى آلاء الله ، يوفق إليها من يستحقها بالتوجه والتجرد والإخلاص . .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ اعْمَلُوَاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ الشّكُورُ } .
يعني تعالى ذكره : يعمل الجنّ لسليمان ما يشاء من محاريب ، وهي جمع محراب ، والمحراب : مقدّم كل مسجد وبيت ومصلّى ومنه قول عديّ بن زيد :
كَدُمَى العاجِ فِي المَحارِيبِ أوْ كالْ *** بَيضِ في الرّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ قال : بنيان دون القصور .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وقصور ومساجد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ قال : المحاريب : المساكن . وقرأ قول الله : فَنادَتْهُ المَلائكَةُ وَهُوَ قائمٌ يُصَلّي فِي المحْرابِ .
حدثني عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك : يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ قال : المحاريب : المساجد .
وقوله : وتَماثِيلَ يعني أنهم يعملون له تماثيل من نحاس وزجاج ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وتَماثِيلَ قال : من نحاس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وتَماثِيلَ قال : من زجاج وشَبَه .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك في قول الله وتَماثِيلَ قال : الصور .
وقوله : وَجِفانٍ كالجَوَابِ يقول : وينحتون له ما يشاء من جفان كالجواب وهي جمع جابية ، والجابية : الحوض الذي يُجْبَي فيه الماء ، كما قال الأعشى ميمون بن قَيس :
تَرُوحُ على نادِي المُحَلّقِ جَفْنَةٌ *** كَجابِيَةِ الشّيْخِ العِرَاقِيّ تَفْهَقُ
فَصَبّحْتُ جابِيَةً صُهارِجا *** كأنّها جِلْدُ السّماءِ خارِجا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَجِفانٍ كالجَوَابِ يقول : كالجوبة من الأرض .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَجِفانٍ كالجَوَابِ يعني بالجواب : الحياض .
وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن وَجِفانٍ كالجَوَابِ قال : كالحياض .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَجِفانٍ كالجَوَابِ قال : حياض الإبل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجِفانٍ كالجَوَابِ قال : جفان كجوبة الأرض من العظم ، والجوبة من الأرض : يستنقع فيها الماء .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَجِفانٍ كالجَوَابِ كالحياض .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك : وَجِفانٍ كالجَوَابِ قال : كحياض الإبل من العظم .
وقوله : وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ يقول : وقدور ثابتات لا يحركن عن أماكنهنّ ، ولا تحوّل لعظمهنّ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال : عظام .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال : عِظام ثابتات الأرض لا يزُلن عن أمكنتهن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال : مثال الجبال من عِظمها ، يعمل فيها الطعام من الكبر والعظم ، لا تحرّك ، ولا تنقل ، كما قال للجبال : راسيات .
وقوله : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا يقول تعالى ذكره : وقلنا لهم اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكرا له على ما أنعم عليكم من النعم التي خَصّكم بها عن سائر خلقه مع الشكر له على سائر نعمه التي عمكم بها مع سائر خلقه وتُرِك ذكر : وقلنا لهم ، اكتفاء بدلالة الكلام على ما ترك منه ، وأخرج قوله شُكْرا مصدرا من قوله اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ لأن معنى قوله اعْمَلُوا اشكروا ربكم بطاعتكم إياه ، وأن العمل بالذي رضي الله ، لله شكر . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا موسى بن عبادة ، عن محمد بن كعب ، قوله : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا قال : الشكر : تقوى الله ، والعمل بطاعته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أخبرني حَيْوَة ، عن زُهْرة بن معبد ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا وأفضل الشكر : الحمد .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا قال : أعطاكم وعلمكم وسخر لكم ما لم يسخر لغيركم ، وعلّمكم منطق الطير ، اشكروا له يا آل داود ، قال : الحمد طرف من الشكر .
وقوله : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشّكُورُ يقول تعالى ذكره : وقليل من عبادي المخلصو توحيدي ، والمفردو طاعتي وشكري على نعمتي عليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشّكُورُ يقول : قليل من عبادي الموحّدون توحيدهم .
{ يعملون له ما يشاء من محاريب } قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بها لأنها يذب عنها ويحارب عليها . { وتماثيل } وصورا هي تماثيل للملائكة والأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وحرمة التصاوير شرع مجدد . روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما . { وجفان } وصحاف . { كالجواب } كالحياض الكبار جمع جابية من الجباية وهي من الصفات الغالبة كالدابة . { وقدور راسبات } ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها . { اعملوا آل داود شكرا } حكاية عما قيل لهم { وشكرا } نصب على العلة أي : اعلموا له واعبدوه شكرا ، أو المصدر لأن العمل له شكرا أو الوصف له أو الحال أو المفعول به . { وقليل من عبادي الشكور } المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ومع ذلك لا يوفي حقه ، لأن توفيقه الشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهايته ، ولذلك قيل الشكور من يرعى عجزه عن الشكر .