11- وأن الله سبحانه هو الذي يحفظكم ، فكل واحد من الناس له ملائكة تحفظه بأمر الله وتتناوب علي حفظه من أمامه ومن خلفه ، وأن الله سبحانه لا يغير حال قوم من شدة إلي رخاء ، ومن قوة إلي ضعف ، حتى يغيروا ما بأنفسهم بما يتناسب مع الحال التي يصيرون إليها ، وإذا أراد الله أن ينزل بقوم ما يسوؤهم فليس لهم ناصر يحميهم من أمره ، ولا من يتولي أمورهم فيدفع عنهم ما ينزل بهم .
{ 11 } { لَه } أي : للإنسان { مُعَقِّبَاتٌ } من الملائكة يتعاقبون في الليل والنهار .
{ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } أي : يحفظون بدنه وروحه من كل من يريده بسوء ، ويحفظون عليه أعماله ، وهم ملازمون له دائما ، فكما أن علم الله محيط به ، فالله قد أرسل هؤلاء الحفظة على العباد ، بحيث لا تخفى أحوالهم ولا أعمالهم ، ولا ينسى منها شيء ، { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } من النعمة والإحسان ورغد العيش { حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية ، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها فيسلبهم الله عند ذلك إياها .
وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية ، فانتقلوا إلى طاعة الله ، غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة ، { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا } أي : عذابا وشدة وأمرا يكرهونه ، فإن إرادته لا بد أن تنفذ فيهم .
فإنه { لَا مَرَدَّ لَهُ } ولا أحد يمنعهم منه ، { وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } يتولى أمورهم فيجلب لهم المحبوب ، ويدفع عنهم المكروه ، فليحذروا من الإقامة على ما يكره الله خشية أن يحل بهم من العقاب ما لا يرد عن القوم المجرمين .
{ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله }
جملة { له معقبات } إلى آخرها ، يجوز أن تكون متصلة ب { من } الموصولة من قوله : { من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار } [ الرعد : 10 ] . على أن الجملة خبر ثانٍ عن { من أسر القول } وما عطف عليه .
والضمير في { له } والضمير المنصوب في { يحفظونه } ، وضميرا { من بين يديه ومن خلفه } جاءت مفردة لأن كلا منها عائد إلى أحد أصحاب تلك الصلات حيث إن ذكرهم ذكر أقسام من الذين جعلوا سواء في علم الله تعالى ، أي لكل من أسرّ القول ومنْ جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنّهار معقبات يحفظونه من غوائل تلك الأوقات .
ويجوز أن تتصل الجملة ب { من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار } [ الرعد : 10 ] ، وإفراد الضمير لمراعاة عطف صلة على صلة دون إعادة الموصول . والمعنى كالوجه الأول .
و ( المعقبات ) جمع معَقّبة بفتح العين وتشديد القاف مكسورة اسم فاعل عَقّبه إذا تبعه . وصيغة التفعيل فيه للمبالغة في العقب . يقال : عقبه إذا اتبعه واشتقاته من العقب يقال فكسر وهو اسم لمؤخّر الرجل فهو فَعِل مشتق من الاسم الجامد لأنّ الّذي يتبع غيره كأنّه يطأ على عقبه ، والمراد : ملائكة معقّبات . والواحد معقب .
وإنما جمع جمع مؤنث بتأويل الجماعات .
والحفظ : المراقبة ، ومنه سمي الرقيب حفيظاً . والمعنى : يراقبون كلّ أحد في أحواله من إسرار وإعلان ، وسكون وحركة ، أي في أحوال ذلك ، قال تعالى : { وإن عليكم لحافظين } [ الانفطار : 10 ] .
و { من بين يديه ومن خلفه } مستعمل في معنى الإحاطة من الجهات كلها .
وقوله : { من أمر الله } صفة { معقبات } ، أي جماعات من جند الله وأمره ، كقوله تعالى : { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] وقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] يعني القرآن .
ويجوز أن يكون الحفظ على الوجه الثاني مراداً به الوقاية والصيانة ، أي يحفظون من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ، أي يقونه أضرار الليل من اللصوص وذوات السموم ، وأضرارَ النّهار نحو الزحام والقتال ، فيكون { من أمر الله } جاراً ومجروراً لغواً متعلقاً ب { يحفظونه } ، أي يقُونه من مخلوقات الله . وهذا منّة على العباد بلطف الله بهم وإلا لكان أدنى شيء يضر بهم . قال تعالى : { الله لطيف بعباده } [ سورة الشورى : 19 ] .
{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } .
جملة معترضة بين الجمل المتقدمة المسوقة للاستدلال على عظيم قدرة الله تعالى وعلمه بمصنوعاته وبين التذكير بقوة قدرته وبين جملة { هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً } [ سورة الرعد : 12 ] . والمقصود تحذيرهم من الإصرار على الشّرك بتحذيرهم من حلول العقاب في الدنيا في مقابلة استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة ، ذلك أنهم كانوا في نعمة من العيش فبطروا النعمة وقابلوا دعوة الرسول بالهزء وعاملوا المؤمنين بالتّحقير { وقالوا لو نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا } [ المزمل : 11 ] .
فذكرهم الله بنعمته عليهم ونبههم إلى أنّ زوالها لا يكون إلاّ بسبب أعمالهم السيّئة بعد ما أنذرهم ودعاهم .
والتغيير : التبديل بالمُغاير ، فلا جرم أنه تديد لأولي النعمة من المشركين بأنهم قد تعرضوا لتغييرها . فما صدقُ ما الموصولة حالة ، والباء للملابسة ، أي حالة ملابسة لقوم ، أي حالة نعمة لأنها محل التحذير من التغيير ، وأما غيرها فتغييره مطلوب . وأطلق التغيير في قوله : { حتى يغيروا } على التسبب فيه على طريقة المجاز العقلي .
وجملة { وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له } تصريح بمفهوم الغاية المسْتفاد من { حتى يغيروا ما بأنفسهم } تأكيداً للتحذير . لأن المقام لكونه مقام خوف ووجل يقتضي التصريح دون التعريض ولا ما يقرب منه ، أي إذا أراد الله أن يغيّر ما بقوم حين يغيرون ما بأنفهسم لا يَردّ إرادته شيء . وذلك تحذير من الغرور أن يقولوا : سنسترسل على ما نحن فيه فإذا رأينا العذاب آمنا . وهذا كقوله : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس } [ سورة يونس : 98 ] الآية .
وجملة وما لهم من دونه من وال } زيادة في التحذير من الغرور لئلا يحسبوا أن أصنامهم شفعاؤهم عند الله .
والوالي : الذي يلي أمر أحد ، أي يشتغل بأمره اشتغال تدبير ونفع ، مشتق من ولي إذا قَرب ، وهو قرب ملابسة ومعالجة .
وقرأ الجمهور { من وال } بتنوين { وال } دون ياء في الوصل والوقف . وقرأه ابن كثير بياء بعد اللام وقفا فقط دون الوصل كما علمته في قوله تعالى { ومن يضلل الله فما له من هاد } في هذه السورة الرعد ( 33 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال لهذا الإنسان المستخفي بالليل السارب بالنهار مع علمه بعمله {له معقبات} من الملائكة، {من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}، يعني: بأمر الله من الإنس والجن مما لم يقدر أن يصيبه حتى تسلمه المقادير، فإذا أراد الله أن يغير ما به لم تغن عنه المعقبات شيئا.
ثم قال: {إن الله لا يغير ما بقوم} من النعمة، {حتى يغيروا ما بأنفسهم}، يعني كفار مكة... والنعمة أنه بعث فيهم رسولا من أنفسهم، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف فغيروا هذه النعمة فغير الله ما بهم، فذلك قوله: {وإذا أراد الله بقوم سوءا}، يعني بالسوء العذاب، {فلا مرد له وما لهم من دونه من وال}، يعني: ولي يرد عنهم العذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: لله تعالى ذكره "مُعَقبّات"، قالوا: الهاء في قوله «له» من ذكر اسم الله، والمعقّبات التي تتعقّب على العبد وذلك أن ملائكة الليل إذا صَعِدت بالنهار أعقبتها ملائكة النهار، فإذا انقضى النهار صعدت ملائكة النهار ثم أعقبتها ملائكة الليل، وقالوا: قيل معقبّات...
وقوله: "مِنْ بينَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ "يعني بقوله: "مِنْ بينَ يَدَيْهِ": من قدّام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار، "وَمَنْ خَلْفِهِ": من وراء ظهره... وقال آخرون: بل عني بالمعقّبات في هذا الموضع: الحرس الذي يتعاقب على الأمير... وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، قول من قال: الهاء في قوله: "لَهُ مُعَقّباتٌ" من ذكر «من» التي في قوله: "وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ" وأن المعقبات من بين يديه ومن خلفه، هي حَرَسه وجَلاَوِزته كما قال ذلك مَن ذكرنا قوله.
وإنما قلنا: ذلك أولى التأويلين بالصواب لأن قوله: "لَهُ مُعَقّباتٌ" أقرب إلى قوله: "وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ" منه إلى عالم الغيب، فهي لقربها منه أولى بأن تكون من ذكره، وأن يكون المعنىّ بذلك هذا، مع دلالة قول الله: "وَإذَا أرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلا مَرَدّ لَهُ" على أنهم المعِنيّون بذلك. وذلك أنه جلّ ثناؤه ذكر قوما أهل معصية له وأهل ريبة، يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار، ويمتنعون عند أنفسهم بحرس يحرسهم، ومَنَعَة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية الله، ثم أخبر أن الله تعالى ذكره إذا أراد بهم سوءا لم ينفعهم حرسهم، ولا يدفع عنهم حفظهم.
وقوله: "يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ"؛ اختلف أهل التأويل في تأويل هذا الحرف على نحو اختلافهم في تأويل قوله: "لَهُ مُعَقّباتٌ" فمن قال: المعقبات هي الملائكة، قال: الذين يحفظونه من أمر الله هم أيضا الملائكة، ومن قال: المعقبات هي الحرس والجلاوزة من بني آدم، قال: الذين يحفظونه من أمر الله هم أولئك الحرس.
واختلفوا أيضا في معنى قوله: "مِنْ أمْرِ اللّهِ"؛
فقال بعضهم: حِفْظهم إياه من أمره. وقال بعضهم: يحفظونه من أمر الله: بأمر الله... وقال آخرون: معنى ذلك: يحفظونه عليه من الله... عن ابن جريج: "يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْر الله" قال: يحفظون عليه من الله... يعني ابن جريج بقوله: يحفظون عليه: الملائكة الموكّلة بابن آدم، بحفظ حسناته وسيئاته، وهي المعّقبات عندنا، تحفظ على ابن آدم حسناته وسيئاته من أمر الله. وعلى هذا القول يجب أن يكون معنى قوله: "مِنْ أمْر الله" أن الحفظة من أمر الله، أو تحفظ بأمر الله، ويجب أن تكون الهاء التي في قوله: "يَحْفَظُونَهُ" وحدت وذكرت، وهي مراد بها الحسنات والسيئات، لأنها كناية عن ذكر من الذي هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، وأن يكون المستخفي بالليل أقيم ذكره مقام الخبر عن سيئاته وحسناته، كما قيل: "وَاسْأل القَرْيَة التي كُنّا فِيها والعِيرَ التي أقْبَلْنا فِيها"...
وقوله: "إنّ اللّهَ لا يُغَيّرُ ما بِقَوْمٍ حتى يُغَيّرُوا ما بأنْفُسِهِمْ" يقول تعالى ذكره: إن الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا واعتداء بعضهم على بعض، فتحلّ بهم حينئذٍ عقوبته وتغييره.
وقوله: "وَإذَا أرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلا مَرَدّ لَهُ" يقول: وإذا أراد الله بهؤلاء الذين يستخفون بالليل ويسربون بالنهار، لهم جند ومنعة من بين أيديهم ومن خلفهم، يحفظونهم من أمر الله هلاكا وخزيا في عاجل الدنيا "فلا مَرَدّ لَهُ" يقول: فلا يقدر على ردّ ذلك عنهم أحد غير الله.
يقول تعالى ذكره: "وَما لَهُمْ مِنْ دُونِه مِنْ وَالٍ" يقول: وما لهؤلاء القوم، والهاء والميم في «لهم» من ذكر القوم الذين في قوله: "وَإذَا أرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءا"، "مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَالٍ" يعني: من وال يليهم ويلي أمرهم وعقوبتهم. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: السوء: الهلكة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" يشبه أن تكون هذه النعمة نعمة الدين من رسول الله أو القرآن أو ما كان في أمر الدين، لا يغير ذلك عليهم إلا بتغيير يكون منهم كقوله: (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم) [التوبة: 127] وكقوله: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) [الصف: 5]. ويحتمل أن يكون ذلك من النعمة الدنياوية من الصحة والسلامة والمال، لا يغير ذلك عليهم إلا بتغيير ذلك من أنفسهم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وما لهم مِن دونه من وال} فيه وجهان: أحدهما: من ملجأ، الثاني: يعني من ناصر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{معقبات} جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته، والأصل: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، كقوله {وَجَاء المعذرون} [التوبة: 90] بمعنى المعتذرون... أو هو مفعلات من عقبه إذا جاء على عقبه، كما يقال: قفاه، لأنّ بعضهم يعقب بعضاً أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه. {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} هما صفتان جميعاً وليس {مِنْ أَمْرِ الله} بصلة للحفظ، كأنه قيل: له معقبات من أمر الله. أو يحفظونه من أجل أمر الله أي من أجل أنّ الله أمرهم بحفظه. والدليل عليه قراءة علي رضي الله عنه وابن عباس وزيد بن علي وجعفر بن محمد وعكرمة: «يحفظونه بأمر الله». أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب، بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب، كقوله: {قُلْ مَن يَكْلَأكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن} [الأنبياء: 42] وقيل: المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان، يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله أي من قضاياه ونوازله، أو على التهكم به... {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ} من العافية والنعمة {حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من الحال الجميلة بكثرة المعاصي {مِن وَالٍ} ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{له} أي لذلك المستخفي أو السارب -كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما {معقبات} أي أعوان وأنصار يتناوبون في أمره بأن يخلف كل واحد منهم صاحبه ويكون بدلاً منه. ولما كان حفظ جهتي القدام والخلف يستلزم حفظ اليمين والشمال وكان ملأ كل من الجهتين من الحفظة على المخلوق متعذراً، قال آتياً بالجار: {من بين يديه} أي من قدامه {ومن خلفه} واستأنف بيان فائدة المعقبات فقال: {يحفظونه} أي في زعمه من كل شيء يخشاه {من أمر الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة. ولما دل هذا على غاية القدرة، وجرت عادة المتمكنين من ملوك الأرض بالتعدي على جيرانهم واستلاب ممالكهم والعسف في شأنهم، زيادة في المكنة وتوسعاً في الملك، ولا سيما إذا كان ذلك الجار ظاناً مع ضعفه وعجزه أن يحفظه مانع من أخذه، أخبر تعالى من كأنه سأل عن ذلك أنه على غير هذا لغناه عنه، فقال: {إن الله} أي الذي له الإحاطة و الكمال كله {لا يغير ما بقوم} أي خيراً كان أوشراً {حتى يغيروا ما} أي الذي {بأنفسهم} مما كانوا يزينونها به من التحلي بالأعمال الصالحة والتخلي من أخلاق المفسدين، فإذا غيروا ذلك غير ما بهم إذا أراد وإن كانوا في غاية القوة. ولما كان ملوك الدنيا لا يتمكنون غالباً من جميع مراداتهم لكثرة المعارضين من الأمثال الصالحين للملك، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره: فإذا غيروا ما بأنفسهم أنزل بهم السوء: {وإذا أراد الله} أي الذي له صفات الكمال {بقوم} أي وإن كانوا في غاية القوة {سوءاً فلا مرد له} من أحد سواه، وقد تقدم لهذه الآية في الأنفال مزيد بيان. ولما كان كل أحد دونه في الرتبة لا إمكان له أن يقوم مقامه بوجه، قال: {وما لهم} وبين سفول الرتب كلها عن رتبته فقال: {من دون} وأعرق في النفي فقال: {من} ولما كان السياق ظاهراً في أنه لا منفذ لهم مما أراده، أتى بصيغة فاعل منقوص إشارة إلى نفي أدنى وجوه الولاية فكيف بما فوقها فقال: {وال} أي من ملجأ يعيذهم، بأن الفعل معهم من الإنجاء والنصرة ما يفعل القريب مع وليه الأقرب إليه...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر إحاطة علمه بالعباد وأن لهم معقبات يحفظونهم من أمره جل شأنه نبه على لزوم الطاعة ووبال المعصية فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمة والعافية {حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} ما اتصفت به ذواتهم من الأحوال الجميلة لا ما أضمروه ونووه فقط، والمراد بتغيير ذلك تبديله بخلافه لا مجرد تركه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(له معقبات من بين يديه ومن خلفه -يحفظونه- من أمر الله).. والحفظة التي تتعقب كل إنسان، وتحفظ كل شاردة وكل واردة وكل خاطرة وكل خالجة، والتي هي من أمر الله، لا يتعرض لها السياق هنا بوصف ولا تعريف أكثر من أنها (من أمر الله).. فلا نتعرض نحن لها: ما هي؟ وما صفاتها؟ وكيف تتعقب؟ وأين تكون؟ ولا نذهب بجو الخفاء والرهبة والتعقب الذي يسبغه السياق، فذلك هو المقصود هنا؛ وقد جاء التعبير بقدره؛ ولم يجئ هكذا جزافا؛ وكل من له ذوق بأجواء التعبير يشفق من أن يشوه هذا الجو الغامض بالكشف والتفصيل! (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).. فهو يتعقبهم بالحفظة من أمره لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم فيرتب عليه الله تصرفه بهم. فإنه لا يغير نعمة أو بؤسى، ولا يغير عزا أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة... إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم. وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون. ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم، ويجيء لاحقا له في الزمان بالقياس إليهم. وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة؛ فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر؛ وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم. والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل. وهو يحمل كذلك -إلى جانب التبعة- دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه. وبعد تقرير المبدأ يبرز السياق حالة تغيير الله ما بقوم إلى السوء؛ لأنهم -حسب المفهوم من الآية- غيروا ما بأنفسهم إلى أسوء فأراد لهم الله السوء: (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال).. يبرز السياق هذا الجانب هنا دون الجانب الآخر لأنه في معرض الذين يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة. وقد قدم لهم هناك المغفرة على العذاب ليبرز غفلتهم، وهو هنا يبرز العاقبة السوأى وحدها لإنذارهم حيث لا يرد عذاب الله عنهم -إذا استحقوه بما في أنفسهم- ولا يعصمهم منه وال يناصرهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}
جملة {له معقبات} إلى آخرها، يجوز أن تكون متصلة ب {من} الموصولة من قوله: {من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار} [الرعد: 10]. على أن الجملة خبر ثانٍ عن {من أسر القول} وما عطف عليه.
والضمير في {له} والضمير المنصوب في {يحفظونه}، وضميرا {من بين يديه ومن خلفه} جاءت مفردة لأن كلا منها عائد إلى أحد أصحاب تلك الصلات حيث إن ذكرهم ذكر أقسام من الذين جعلوا سواء في علم الله تعالى، أي لكل من أسرّ القول ومنْ جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنّهار معقبات يحفظونه من غوائل تلك الأوقات.
ويجوز أن تتصل الجملة ب {من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار} [الرعد: 10]، وإفراد الضمير لمراعاة عطف صلة على صلة دون إعادة الموصول. والمعنى كالوجه الأول.
و (المعقبات) جمع معَقّبة بفتح العين وتشديد القاف مكسورة اسم فاعل عَقّبه إذا تبعه. وصيغة التفعيل فيه للمبالغة في العقب. يقال: عقبه إذا اتبعه واشتقاقه من العقب يقال فكسر وهو اسم لمؤخّر الرجل فهو فَعِل مشتق من الاسم الجامد لأنّ الّذي يتبع غيره كأنّه يطأ على عقبه، والمراد: ملائكة معقّبات. والواحد معقب.
وإنما جمِع جمْع مؤنث بتأويل الجماعات.
والحفظ: المراقبة، ومنه سمي الرقيب حفيظاً. والمعنى: يراقبون كلّ أحد في أحواله من إسرار وإعلان، وسكون وحركة، أي في أحوال ذلك، قال تعالى: {وإن عليكم لحافظين} [الانفطار: 10].
و {من بين يديه ومن خلفه} مستعمل في معنى الإحاطة من الجهات كلها.
وقوله: {من أمر الله} صفة {معقبات}، أي جماعات من جند الله وأمره، كقوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] وقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] يعني القرآن.
ويجوز أن يكون الحفظ على الوجه الثاني مراداً به الوقاية والصيانة، أي يحفظون من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، أي يقونه أضرار الليل من اللصوص وذوات السموم، وأضرارَ النّهار نحو الزحام والقتال، فيكون {من أمر الله} جاراً ومجروراً لغواً متعلقاً ب {يحفظونه}، أي يقُونه من مخلوقات الله. وهذا منّة على العباد بلطف الله بهم وإلا لكان أدنى شيء يضر بهم. قال تعالى: {الله لطيف بعباده} [سورة الشورى: 19].
{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال}.
جملة معترضة بين الجمل المتقدمة المسوقة للاستدلال على عظيم قدرة الله تعالى وعلمه بمصنوعاته وبين التذكير بقوة قدرته وبين جملة {هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً} [سورة الرعد: 12]. والمقصود تحذيرهم من الإصرار على الشّرك بتحذيرهم من حلول العقاب في الدنيا في مقابلة استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة، ذلك أنهم كانوا في نعمة من العيش فبطروا النعمة وقابلوا دعوة الرسول بالهزء وعاملوا المؤمنين بالتّحقير {وقالوا لو نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا} [المزمل: 11].
فذكرهم الله بنعمته عليهم ونبههم إلى أنّ زوالها لا يكون إلاّ بسبب أعمالهم السيّئة بعد ما أنذرهم ودعاهم.
والتغيير: التبديل بالمُغاير، فلا جرم أنه تديد لأولي النعمة من المشركين بأنهم قد تعرضوا لتغييرها. فما صدقُ ما الموصولة حالة، والباء للملابسة، أي حالة ملابسة لقوم، أي حالة نعمة لأنها محل التحذير من التغيير، وأما غيرها فتغييره مطلوب. وأطلق التغيير في قوله: {حتى يغيروا} على التسبب فيه على طريقة المجاز العقلي.
وجملة {وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له} تصريح بمفهوم الغاية المسْتفاد من {حتى يغيروا ما بأنفسهم} تأكيداً للتحذير. لأن المقام لكونه مقام خوف ووجل يقتضي التصريح دون التعريض ولا ما يقرب منه، أي إذا أراد الله أن يغيّر ما بقوم حين يغيرون ما بأنفهسم لا يَردّ إرادته شيء. وذلك تحذير من الغرور أن يقولوا: سنسترسل على ما نحن فيه فإذا رأينا العذاب آمنا. وهذا كقوله: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس} [سورة يونس: 98] الآية.
وجملة وما لهم من دونه من وال} زيادة في التحذير من الغرور لئلا يحسبوا أن أصنامهم شفعاؤهم عند الله.
والوالي: الذي يلي أمر أحد، أي يشتغل بأمره اشتغال تدبير ونفع، مشتق من ولي إذا قَرب، وهو قرب ملابسة ومعالجة.
وقرأ الجمهور {من وال} بتنوين {وال} دون ياء في الوصل والوقف. وقرأه ابن كثير بياء بعد اللام وقفا فقط دون الوصل كما علمته في قوله تعالى {ومن يضلل الله فما له من هاد} في هذه السورة الرعد (33).
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
(السوء) ما يسوء الأمم من الهلاك أو الهزيمة، أو الخسران، أو الحرمان، أو الفساد والدمار، إذا أراد الله تعالى ذلك وأشباهه، مما تضيع به الأمم وتذهب قوتها من أعمالها، بأن ارتكبوا الشر واستعذبوا فعله، إذا أراد الله ذلك بسبب ما في نفوسهم وما يرتكبون فإنه نتيجة حتمية لعملهم، وأراده الله تعالى فيهم بسبب سوء ما يصنعون...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له} والجملة الأولى جديرة بالتنويه لما تحتويه من تقرير لناموس إلهي اجتماعي يتقلب البشر وفقه بين النعم والنقم والصلاح والفساد وبالتالي لما تحتويه من تلقين جليل مستمر المدى؛ حيث قصدت تقرير كون النعم والنقم والخيرات والويلات لا تأتي على الناس عفوا، وإنما هي منوطة بسلوكهم وسيرتهم. فإذا كانوا متمتعين بالقوة والعزة والنجاح والصلاح فإنما يكون ذلك بسبب ما يقوم عليه سلوكهم من أسس الاستقامة والحق فلا تتبدل حالتهم من الحسن إلى السيئ إلا إذا انحرفوا عن الطريق القويم الذي يسيرون فيه. وإذ كانوا ضعافا يقاسون الويل والذل والفقر والفوضى فإنما يكون هذا بسبب ما يقوم عليه سلوكهم من انحراف وإهمال وفساد فلا تتبدل حالتهم من السيئ إلى الحسن إلا إذا عدلوا عما هم فيه وساروا في طريق الصلاح والاستقامة. وفي هذا ما هو ظاهر من الاتساق مع حقائق الأشياء. والإطلاق في الجملة يجعل مداها المشروح شاملا لجميع الناس والبيئات والطبقات والملل والنحل والحالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ ولذلك فإنها تصح أن تعد من أمهات وجائز الحِكم والأمثال والشواهد القرآنية البليغة. وفي سورة الأنفال آية فيها بعض المشابهة لهذه وهي: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. [53] على أن الجملة التي نحن في صددها أشمل بسبب إطلاقها الذي يتناول حالتي النعمة والنقمة معا. وفي الجملة كما هو واضح صراحة بأن الناس يتحملون مسؤولية كسبهم بقابليتهم لتغيير ما في أنفسهم بإرادتهم مما هو متسق مع التقريرات القرآنية التي نبّهنا عليها في المناسبات العديدة السابقة. أما الجملة الثانية فليس فيها ما يفيد أن إرادة الله تعالى بقوم سوءا تكون جزافا وبدون سبب. بل إن الجملة الأولى من الآية تمنع ورود هذا الخاطر. وكل ما أرادت تقريره هو عدم قدرة أحد على منع السوء الذي تشاء حكمته إنزاله بقوم ما. وروح الجملة الأولى قوية الإلهام بأن ذلك إنما يكون حين ينحرف القوم عن الحق والهدى إلى البغي والضلال فيغير الله ما بهم وينزل نقمته عليهم. وهناك آيات فيها توضيح وتفسير ودعم حاسم لذلك. منها آية سورة القصص هذه: {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون 59} وآية سورة هود هذه: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون 117}...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} إشارة إلى عدل الله المطلق وحكمته البالغة، وأنه لا يسلب النعم، ويبتلي بالنقم، إلا من غير طريقته في الشكر والطاعة، فأعرض عن الله، ونأى عنه بجانبه، فإذا انتقل من المعصية إلى الطاعة، ومن الكفر إلى الشكر، ومن الانحراف إلى الاستقامة، أكرمه الله بعفوه ورضاه، وسلك به مسالك النجاة، فردا كان أو أمة...
وكلمة (له) تفيد النفعية، فإذا قلت "لك كذا "فهي عكس أن نقول "عليك كذا". وحين يقول سبحانه: {له معقبات} فكأن المعقبات لصالح الإنسان. و" معقبات "جمع مؤنث، والمفرد" معقبة"، أي: أن للحق سبحانه وتعالى ملائكة يتناوبون على حراسة الإنسان وحفظه ليلاً ونهاراً من الأشياء التي لا يمكن الاحتراز منها...
وهكذا نرى أن الحق سبحانه قد أعد للإنسان الكون قبل أن يخلقه ليستخلفه فيه؛ أعد السماوات وأعد الأرض؛ وسخر الشمس والقمر؛ وأخرج الثمرات؛ وجعل الليل يغشى النهار.
كل ذلك أعده سبحانه للخليفة قبل أن يوجد الخليفة؛ وهو سبحانه قيوم على هذا الخليفة؛ فيصونه أيضاً بعد الخلق، ولا يدعه لمقومات نفسه ليدافع عنها فيما لا يستطيع الدفاع عنها، ويكلف الله الملائكة المعقبات بذلك.
وقد ينصرف معنى المعقبات إلى الملائكة الذين يتعقبون أفعال الإنسان وكتابة حسناته وكتابة سيئاته، ويمكن أن يقوما بالعملين معاً؛ حفظه وكتابة أعماله، فإن كتبوا له الحسنات فهذا لصالحه.
ولقائل أن يقول: ولكنهم سيكتبون السيئات؛ وهذه على الإنسان وليست له. وأقول: لا؛ ويحسن أن نفهم جيداً عن المشرع الأعلى؛ ونعلم أن الإنسان إذا ما عرف أن السيئة ستحسب عليه وتحصى؛ وتكتب؛ يمسك كتابه ليقرأه؛ فلسوف يبتعد عن فعل السيئات...
ولذلك أقول دائماً: إياك أن تكره أن يكون لك أعداء؛ لأن الذي يغر الإنسان في سلوكه هو نفاق أصحابه له، أما عدوك فهو يفتح عينيه عليك طوال الوقت؛ ولذلك فأنت تحذر أن تقع في الخطأ...
إذن: فكتابة الحسنات والسيئات هي مسألة لصالح الإنسان...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{مُعَقِّبَاتٌ}: حفظة يعقبون الإنسان في مسيره إلى الله. {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} وتدخل الآية ضمن حديث الله عن تدبيره لحياة الإنسان عبر قواعد وضوابط وقوانين تحكمها في ثلاث نقاط:
إن الله قد جعل للإنسان في حياته عوامل وعناصر تحيط به من كل جوانبه وتتعاقب على مدار الساعة بحيث يتبع بعضها بعضاً بشكل متواصل، وهذا ما عبّر عنه بالمعقّبات التي تتناوب في حياته، فلا تتركه وحده، {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} بما يمثله ذلك الأمر من أوضاع وأخطار تجرها إليه سنن الله المودعة في الكون، مما قد يهدم حياته، ويهزم استقراره، إذا واجهها وحده، دون ما وفره الله لصونه من عناصر الحماية والدفاع في نفسه وجسده، بحيث لا يشعر الإنسان بالقلق والضياع أمام الكون الكبير المملوء بالأخطار والمهالك، بل يشعر بالثقة الكبيرة، لما ركّبه الله في داخله من أجهزةٍ، وهيّأ له من أسبابٍ، وما أحاطه به من عنايةٍ ورعايةٍ. فحسبه أنه يتحرك في أجواء الحفظ الشامل من قبل الله.
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}: وهي النقطة الثانية في تدبير الله لأمر الإنسان، فهو لم يخضع الإنسان للقوانين الحتمية التي تتحكم به وتصوغه بطريقةٍ جامدة ثابتةٍ لا يملك معها لنفسه أية فرصةٍ للتغيير وللتبديل، بل خلقه خلقاً حيوياً يتحرك بفعل الإرادة المتحركة التي تتنوّع فيها الأفكار والمواقف، ما يجعل مصيره محكوماً لإرادته، فهو الذي يصنع تاريخه بقراره الإرادي الحر، وهو الذي يملك تغيير واقعه بتغيير الأفكار والمفاهيم والمشاعر التي تحكمه وتحرك حياته، فقد أراد الله للإنسان أن يملك حريته، ويتحمل مسؤولية نفسه من موقع هذه الحرية، كما أراد أن يدفعه إلى أن يواجه عملية التغيير في الخارج بواسطة التغيير في الداخل، فهو الذي يستطيع أن يتحكم بالظروف المحيطة به، بقدر علاقتها به، وليس من الضروري أن تتحكم به. فالإنسان هو صانع الظروف، وليست الظروف هي التي تصنعه. وعلى ضوء ذلك، نستطيع اعتبار العامل الأساس في التغيير هو الإنسان بما يحمله من مفاهيم وأفكار حول الحياة الدائرة حوله، ذلك أن المشاريع المتنوعة التي تحكم الواقع، تبدأ كفكرةٍ ثم تتحول إلى مشروع، وهذا ما يؤكد تكريم الله للإنسان في إرجاع أمره إلى نفسه، فهو الذي يغيّر واقعه بتغيير نفسه، وهو الذي يغيّر نفسه بعمق إرادته وامتداد أفقه. 3 {وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ}: فهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في مستقبل الإنسان، في حياته وموته، في قوته وضعفه، وفي صحته ومرضه، وهكذا يملك الله إيقاع السوء بالإنسان، كما يملك دفعه عنه، ولا يملك أحدٌ له شيئاً إذا أراد الله به شيئاً {وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} يلي أمرهم ويدفع عنهم ذلك كله. وهذا ما يؤكّد للإنسان ارتباطه بربّه بالمستوى الذي ينقطع بذاك الارتباط عن غيره، طلباً لحماية نفسه من أيّ شر، الأمر الذي يدفعه للابتعاد عن إقامة أيِّ علاقةٍ مع الآخرين بغرض تأمين الحماية لذاته، فالله هو الذي يجب أن يفكر به من هذه الناحية، بالإضافة إلى النواحي الأخرى التي تفرض على الإنسان أن يعبد الله من موقع حقيقة الألوهية فيه، والعبودية في الإنسان...