34- الرجال لهم حق الرعاية للنساء ، والقيام بشؤونهن بما أعطاهم الله من صفات تهيئهم للقيام بهذا الحق ، وبسبب أنهم هم الذين يكدِّون ويكدحون لكسب المال الذي ينفقونه على الأسرة ، فالصالحات مطيعات لله ولأزواجهن ، حافظات لكل ما يغيب عن أزواجهن بسبب أمر الله بهذا الحفظ وتوفيقه لهن . والزوجات اللاتي تظهر منهن بوادر العصيان ، فانصحوهن بالقول المؤثِّر ، واعتزلوهن في الفراش ، وعاقبوهن بضرب خفيف غير مبرح ولا مُهين عند التمرد ، فإن رجعن إلى طاعتكم في أي سبيل من هذه السبل الثلاث ، فلا تتطلبوا السبيل التي هي أشد منها بغياً عليهن ، إن الله فوقكم وينتقم منكم إذا آذيتموهن أو بغيتم عليهن .
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا }
يخبر تعالى أن الرِّجَال { قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } أي : قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى ، من المحافظة على فرائضه وكفهن عن المفاسد ، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك ، وقوامون عليهن أيضا بالإنفاق عليهن ، والكسوة والمسكن ، ثم ذكر السبب الموجب لقيام الرجال على النساء فقال : { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } أي : بسبب فضل الرجال على النساء وإفضالهم عليهن ، فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة : من كون الولايات مختصة بالرجال ، والنبوة ، والرسالة ، واختصاصهم بكثير من العبادات كالجهاد والأعياد والجمع . وبما خصهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجلد الذي ليس للنساء مثله . وكذلك خصهم بالنفقات على الزوجات بل وكثير من النفقات يختص بها الرجال ويتميزون عن النساء .
ولعل هذا سر قوله : { وَبِمَا أَنْفَقُوا } وحذف المفعول ليدل على عموم النفقة . فعلم من هذا كله أن الرجل كالوالي والسيد لامرأته ، وهي عنده عانية أسيرة خادمة ، فوظيفته أن يقوم بما استرعاه الله به .
ووظيفتها : القيام بطاعة ربها وطاعة زوجها فلهذا قال : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ } أي : مطيعات لله تعالى { حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ } أي : مطيعات لأزواجهن حتى في الغيب تحفظ بعلها بنفسها وماله ، وذلك بحفظ الله لهن وتوفيقه لهن ، لا من أنفسهن ، فإن النفس أمارة بالسوء ، ولكن من توكل على الله كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه .
ثم قال : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } أي : ارتفاعهن عن طاعة أزواجهن بأن تعصيه بالقول أو الفعل فإنه يؤدبها بالأسهل فالأسهل ، { فَعِظُوهُنَّ } أي : ببيان حكم الله في طاعة الزوج ومعصيته والترغيب في الطاعة ، والترهيب من معصيته ، فإن انتهت فذلك المطلوب ، وإلا فيهجرها الزوج في المضجع ، بأن لا يضاجعها ، ولا يجامعها بمقدار ما يحصل به المقصود ، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح ، فإن حصل المقصود بواحد من هذه الأمور وأطعنكم { فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } أي : فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية ، والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها ويحدث بسببه الشر .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } أي : له العلو المطلق بجميع الوجوه والاعتبارات ، علو الذات وعلو القدر وعلو القهر الكبير الذي لا أكبر منه ولا أجل ولا أعظم ، كبير الذات والصفات .
{ الرجال قوامون على النساء } يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية ، وعلل ذلك بأمرين وهبي وكسبي فقال : { بما فضل الله بعضهم على بعض } بسبب تفضيله تعالى الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات ، ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر ، والشهادة في مجامع القضايا ، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها ، والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق . { وبما أنفقوا من أموالهم } في نكاحهن كالمهر والنفقة . روي ( أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصاري نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لتقتص منه ، فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام : " أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير " . { فالصالحات قانتات } مطيعات لله قائمات بحقوق الأزواج . { حافظات للغيب } لمواجب الغيب أي يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال ، وعنه عليه الصلاة والسلام : " خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك ، وإن أمرتها أطاعتك ، وإن غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها " . وتلا الآية . وقيل لأسرارهم . { بما حفظ الله } بحفظ الله إياهن بالأمر على حفظ الغيب والحث عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له ، أو بالذي حفظه الله لهن عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن . وقرئ { بما حفظ الله } بالنصب على أن ما موصولة فإنها لو كانت مصدرية لم يكن لحفظ فاعل ، والمعنى بالأمر الذي حفظ حق الله وطاعته وهو التعفف والشفقة على الرجال . { واللاتي تخافون نشوزهن } عصيانهن وترفعهن عن مطاوعة الأزواج من النشز . { فعظوهن واهجروهن في المضاجع } في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ، أو لا تباشروهن فيكون كناية عن الجماع . وقيل المضاجع المبايت أي لا تباينوهن { واضربوهن } يعني ضربا غير مبرح ولا شائن ، والأمور الثلاثة مرتبة ينبغي أن يتدرج فيها . { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } بالتوبيخ والإيذاء ، والمعنى فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له { إن الله كان عليا كبيرا } فاحذروه فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم ، أو أنه على علو شأنه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم ، أو أنه يتعالى ويتكبر أن يظلم أحدا أو ينقص حقه .
وقوله تعالى : { الرجال قوامون } الآية ، قوام فعال : بناء مبالغة ، وهو من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد ، فقيام الرجل على النساء هو على هذا الحد{[3995]} ، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء وملكاً ما{[3996]} ، قال ابن عباس : الرجال أمراء على النساء ، وعلى هذا قال أهل التأويل و «ما » في قوله : { بما فضل الله } مصدرية ، ولذلك استغنت عن العائد ، وكذلك { بما أنفقوا } والفضلة : هي الغزو وكمال الدين والعقل وما أشبهه{[3997]} ، والإنفاق : هو المهر والنفقة المستمرة على الزوجات ، وقيل : سبب هذه الآية أن سعد بن الربيع{[3998]} لطم زوجه حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، فجاءت مع أبيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر أن تلطمه كما لطمها ، فنزلت الآية مبيحة للرجال تأديب نسائهم ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض الحكم الأول وقال : أردت شيئاً وما أراد الله خير{[3999]} ، وفي طريق آخر أردت شيئاً وأراد الله غيره ، وقيل : إن في هذا الحكم المردود نزلت { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه }{[4000]} وقيل سببها قول أم سلمة المتقدم ، أي : لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة{[4001]} .
والصلاح في قوله { فالصالحات } هو الصلاح في الدين ، و«و القانتات » معناه : مطيعات ، والقنوت الطاعة ، ومعناه لأزواجهن ، أو لله في أزواجهن ، وغير ذلك ، وقال الزجّاج : إنها الصلاة ، وهذا هنا بعيد و { للغيب } معناه : كل ما غاب عن علم زوجها مما استرعته ، وذلك يعم حال غيب الزوج وحال حضوره ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «خير النساء امرأة اذا نظرتَ إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية{[4002]} ، وفي مصحف ابن مسعود «فالصوالح قوانت حوافظ » وهذا بناء يختص بالمؤنث ، وقال ابن جني : والتكسير أشبه لفظاً بالمعنى ، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هنا ، و { بما حفظ الله } الجمهور على رفع اسم الله بإسناد الفعل إليه ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «اللهَ » بالنصب على إعمال { حفظ } فأما قراءة الرفع «فما » مصدرية تقديره : يحفظ الله ، ويصح أن تكون بمعنى «الذي » ويكون العائد الذي في { الذي } وفي { حفظ } ضمير مرفوع ، وأما قراءة ابن القعقاع بما حفظ الله ، فالأولى أن تكون «ما » بمعنى «الذي » وفي { حفظ } ضمير مرفوع ، والمعنى حافظات للغيب بطاعة وخوف وبر ودين حفظن الله في أوامره حين امتثلنها ، وقيل : يصح أن تكون «ما » مصدرية ، على أن تقدير الكلام بما حفظن الله وينحذف الضمير ، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر ، كما قال [ الأعشى ] : [ المتقارب ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَإنَّ الحوادِثَ أَوْدَى بِها{[4003]}
يريد أَوْدَين ، والمعنى : يحفظن الله في أمره حين امتثلنه ، وقال ابن جني : الكلام على حذف مضاف تقديره : بما حفظ دين الله وأمر الله ، وفي مصحف ابن مسعود «بما حفظ الله فأصلحوا إليهن » .
{ واللاتي } في موضع رفع بالابتداء والخبر { فعظوهن } ، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مضمر تقديره : وعظوا اللاتي تخافون نشوزهن ، كقوله : { والسارق والسارقة }{[4004]} على قراءة من قرأها بالنصب ، قال سيبويه : النصب القياس ، إلا أن الرفع أكثر في كلامهم ، وحكي عن سيبويه : أن تقدير الآية عنده : وفيما يتلى عليكم اللاتي ، قالت فرقة معنى { تخافون } تعلمون وتتيقنون ، وذهبوا في ذلك إلى أن وقوع النشوز هو الذي يوجب الوعظ ، واحتجوا في جواز وقوع الخوف بمعنى اليقين بقول أبي محجن :
ولا تَدْفُنَّنِيِ بالفلاةِ فإنَّني . . . أخافُ إذا ما مِتُّ أنْ لا أذوقُها{[4005]}
وقالت فرقة : الخوف هاهنا على بابه في التوقع ، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف{[4006]} ، «والنشوز » : أن تتعوج{[4007]} المرأة وترتفع في خلقها ، وتستعلي على زوجها ، وهو من نشز الأرض ، يقال ناشز وناشص ومنه بيت الأعشى : [ الطويل ]
تَجَلَّلَها شَيْخٌ عِشَاءً فأصْبَحَتْ . . . قَضَاعِيّةً تأتي الكواهِن ناشصا{[4008]}
و { عظوهن } معناه : ذكروهن أمر الله ، واستدعوهن إلى ما يجب عليهن بكتاب الله وسنة نبيه{[4009]} ، وقرأ إبراهيم النخعي «في المضجع » ، وهو واحد يدل على الجمع ، واختلف المتأولون في قوله : { اهجروهن } فقالت فرقة معناه جنبوا جماعهن ، وجعلوا { في } للوعاء على بابها دون حذف قال ابن عباس : يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها وقال مجاهد : جنبوا مضاجعتهن فيتقدر على هذا القول حذف تقديره : واهجروهن برفض المضاجع أو بترك المضاجع وقال سعيد بن جبير : هي هجرة الكلام أي لا تكلموهن وأعرضوا عنهن فيقدر حذف تقديره : واهجروهن في سبب المضاجع حتى يراجعنها ، وقال ابن عباس أيضاً : معناه وقولوا لهن هجراً من القول أي إغلاظاً حتى يراجعن المضاجع وهذا لا يصح تصريفه إلا على من حكى هجر وأهجر بمعنى واحد ، وقال الطبري : معناه اربطوهن بالهجار ، كما يربط البعير به ، وهو حبل يشد به البعير ، فهي في معنى اضربوهن ونحوها ، ورجح الطبري منزعه هذا وقدح في سائر الأقوال ، وفي كلامه في هذا الموضع نظر ، والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح ، وهو الذي لا يكسر عظماً ولا يشين جارحة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
«اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضرباً غير مبرح » وقال عطاء : قلت لابن عباس : ما الضرب غير المبرح ؟ قال بالشراك ونحوه ، وروي عن ابن شهاب أنه قال : لا قصاص بين الرجل وامرأته إلا في النفس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تجاوز ، قال غيره : إلا في النفس والجراح ، وهذه العظة والهجر والضرب مراتب ، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها . و { تبغوا } معناه تطلبوا ، و { سبيلاً } عليهن والتمكين من أدبهن ، وحسن معه الاتصاف بالعلو والكبر ، أي قدره فوق كل قدر ويده بالقدرة فوق كل يد ، فلا يستعمل أحد على امرأته ، فالله بالمرصاد ، وينظر هذا إلى حديث أبي مسعود فصرفت وجهي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد »{[4010]} .
استئناف ابتدائي لذكر تشريع في حقوق الرجال وحقوق النساء والمجتمع العائلي . وقد ذُكر عقب ما قبلَه لمناسبة الأحكام الراجعة إلى نظام العائلة ، لا سيما أحكام النساء ، فقوله : { الرجال قوامون على النساء } أصل تشريعي كُلِّيّ تتفرّع عنه الأحكام التي في الآيات بعده ، فهو كالمقدّمة .
وقوله : { فالصالحات } تفريع عنه مع مناسبته لما ذكر من سبب نزول { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] فيما تقدّم .
والحكم الذي في هذه الآية حكم عامّ جيء به لتعليل شرع خاصّ .
فلذلك فالتعريف في { الرجال } و{ النساء } للاستغراق ، وهو استغراق عرفي مبني على النظر إلى الحقيقة ، كالتعريف في قول الناس « الرجل خير من المرأة » ، يؤول إلى الاستغراق العرفي ، لأنّ الأحكام المستقراة للحقائق أحكام أغلبية ، فإذا بني عليها استغراق فهو استغراق عرفي . والكلام خبر مستعمل في الأمر كشأن الكثير من الأخبار الشرعية .
والقَوَّام : الذي يقوم على شأن شيءٍ ويليه ويصلحه ، يقال : قَوَّام وقَيَّام وقَيُّوم وقَيِّم ، وكلّها مشتقّة من القيام المجازي الذي هو مجاز مرسل أو استعارة تمثيلية ، لأنّ شأن الذي يهتمّ بالأمر ويعتني به أن يقف ليدير أمره ، فأطلق على الاهتمام القيامُ بعلاقة اللزوم . أو شُبِّه المهتم بالقائم للأمر على طريقة التمثيل . فالمراد من الرجال من كان من أفراد حقيقة الرجل ، أي الصنف المعروف من النوع الإنساني ، وهو صنف الذكور ، وكذلك المراد من النساء صنف الإناث من النوع الإنساني ، وليس المراد الرجال جمعَ الرجل بمعنى رَجُل المرأة ، أي زوجها ؛ لعدم استعماله في هذا المعنى ، بخلاف قولهم : امرأةُ فلان ، ولا المراد من النساء الجمعُ الذي يطلق على الأزواج الإناث وإن كان ذلك قد استعمل في بعض المواضع مثل قوله تعالى : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ، بل المراد ما يدلّ عليه اللفظ بأصل الوضع كما في قوله تعالى : { وللنساء نصيب مما اكتسبن } [ النساء : 32 ] ، وقول النابغة :
ولا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرا *** يريد أزواجه وبناته وولاياه .
فموقع { الرجال قوامون على النساء } موقُع المقدّمة للحكم بتقديم دليله للاهتمام بالدليل ، إذ قد يقع فيه سوء تأويل ، أو قد وقع بالفعل ، فقد روي أنّ سبب نزول الآية قول النساء « ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشَرَكْناهم في الغزو » .
وقيام الرجال على النساء هو قيام الحفظ والدفاع ، وقيام الاكتساب والإنتاج المالي ، ولذلك قال : { بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } أي : بتفضيل الله بعْضهم على بعض وبإنفاقهم من أموالهم ، إن كانت ( ما ) في الجملتين مصدرية ، أو بالذي فضّل الله به بعضهم ، وبالذي أنفقوه من أموالهم ، إن كانت ( ما ) فيهما موصولة ، فالعائدان من الصلتين محذوفان : أمّا المجرور فلأنّ اسم الموصول مجرور بحرف مثل الذي جُرَّ به الضمير المحذوف ، وأمّا العائد المنصوب من صلة { وبما أنفقوا } فلأنَّ العائد المنصوب يكثر حذفه من الصلة .
والمراد بالبعض في قوله تعالى : { فضل الله بعضهم } هو فريق الرجال كما هو ظاهر من العطف في قوله : { وبما أنفقوا من أموالهم } فإنّ الضميرين للرجال .
فالتفضيل هو المزايا الجبلية التي تقتضي حاجة المرأة إلى الرجل في الذبّ عنها وحراستها لبقاء ذاتها ، كما قال عَمرو بن كلثوم :
يَقُتْنَ جيادَنا ويقُلْن لستم *** بُعُولتنا إذا لَمْ تمنعونا
فهذا التفضيل ظهرت آثاره على مرّ العصور والأجيال ، فصار حقّا مكتسبا للرجال ، وهذه حجّة بُرهانية على كون الرجال قوّامين على النساء فإنّ حاجة النساء إلى الرجال من هذه الناحية مستمرّة وإن كانت تقوى وتضعف .
وقوله : { وبما أنفقوا } جيء بصيغة الماضي للإيماء إلى أنّ ذلك أمر قد تقرّر في المجتمعات الإنسانية منذ القدم ، فالرجال هم العائلون لنساء العائلة من أزواج وبنات . وأضيفت الأموال إلى ضمير الرجال لأنّ الاكتساب من شأن الرجال ، فقد كان في عصور البداوة بالصيد وبالغارة وبالغنائم والحرث ، وذلك من عمل الرجال ، وزاد اكتساب الرجال في عصور الحضارة بالغرس والتجارة والإجارَة والأبنية ، ونحو ذلك ، وهذه حجّة خَطابية لأنّها ترجع إلى مصطلَح غالب البشر ، لا سيما العرب . ويَنْدُر أن تتولّى النساء مساعي من الاكتساب ، لكن ذلك نادر بالنسبة إلى عمل الرجل مثل استئجار الظئر نفسَها وتنمية المرأة مالاً ورثتْه من قرابتها .
ومن بديع الإعجاز صوغ قوله : { بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } في قالب صالح للمصدرية وللموصولية ، فالمصدرية مشعرة بأنّ القيامية سببها تفضيل من الله وإنفاق ، والموصولية مشعرة بأنّ سببها ما يعلمه الناس من فضل الرجال ومن إنفاقهم ليصلح الخطاب للفريقين : عالمهم وجاهلهم ، كقول السموأل أو الحارثي :
سَلِي إن جَهِلْتِ الناس عنّا وعنهم **** فليس سواء عالم وجهـول
ولأنّ في الإتيان ب ( بما ) مع الفعل على تقدير احتمال المصدرية جَزَالةً لا توجد في قولنا : بتفضيل الله وبالإنفاقِ ، لأنّ العرب يرجّحون الأفعال على الأسماء في طرق التعْبير .
وقد روي في سبب نزول الآية : أنّها قول النساء ، ومنهن أمّ سلمة أمّ المؤمنين : « أتغزو الرجال ولا نغزو وإنّما لنا نصف الميراث » فنزل قوله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] إلى هذه الآية ، فتكون هذه الآية إكمالا لما يرتبط بذلك التمنّي . وقيل : نزلت هذه الآية بسبب سعد بن الربيع الأنصاري : نشزت منه زوجه حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فشكاه أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تلطمه كما لطمها ، فنزلت الآية في فور ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أردتُ شيئاً وأراد الله غيره ، ونقض حكمه الأول ، وليس في هذا السبب الثاني حديث صحيح ولا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنّه ممّا رُوي عن الحسن ، والسدّي ، وقتادة .
والفاء في قوله : { فالصالحات } للفصيحة ، أي إذا كان الرجال قوّامين على النساء فمن المهمّ تفصيل أحوال الأزواج منهنّ ومعاشرتهنّ أزواجهنّ وهو المقصود ، فوصف الله الصالحات منهن وصفا يفيد رضاه تعالى ، فهو في معنى التشريع ، أي ليَكُنَّ صالحات . والقانتات : المطيعات لله . والقنوت : عبادة الله ، وقدّمه هنا وإن لم يكن من سياق الكلام للدلالة على تلازم خوفهنّ الله وحفظ حقّ أزواجهنّ ، ولذلك قال : { حافظات للغيب } ، أي حافظات أزواجهنّ عند غيبتهم . وعلّق الغيب بالحفظ على سبيل المجاز العقلي لأنّه وقته . والغيب مصدر غاب ضدّ حضر . والمقصود غيبة أزواجهنّ ، واللام للتعدية لضعف العامل ، إذ هو غير فِعل ، فالغيب في معنى المفعول ، وقد جعل مفعولا للحفظ على التوسّع لأنّه في الحقيقة ظرف للحفظ ، فأقيم مقام المفعول ليشمل كلّ ما هو مظنّة تخلّف الحفظ في مدّته : من كلّ ما شأنه أن يحرسه الزوج الحاضر من أحوال امرأته في عرضه وماله ، فإنّه إذا حضر يكون من حضوره وازعان : يزعها بنفسه ويَزعها أيضاً اشتغالها بزوجها ، أمّا حال الغيبة فهو حال نسيان واستخفاف ، فيمكن أن يبدو فيه من المرأة ما لا يرضي زوجها إن كانت غير صالحة أو سفيهة الرأي ، فحصل بإنابة الظرف عن المفعول إيجاز بديع ، وقد تبعه بشّار إذ قال :
* ويصُون غَيْبَكُم وإن نَزَحا *
والباء في { بما حفظ الله } للملابسة ، أي حفظا ملابساً لما حفظ الله ، و ( ما ) مصدرية أي بحفظِ اللَّهِ ، وحفظُ اللَّه هو أمره بالحفظ ، فالمراد الحفظ التكليفي ، ومعنى الملابسة أنهنّ يحفظن أزواجهنّ حفظاً مطابقاً لأمر الله تعالى ، وأمرُ الله يرجع إلى ما فيه حقّ للأزواج وحدهم أو مع حقّ الله ، فشمل ما يكرهه الزوج إذا لم يكن فيه حرج على المرأة ، ويخرج عن ذلك ما أذن الله للنساء فيه ، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم هندا بنت عتبة : أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدَها بالمعروف . لذلك قال مالك : إنّ للمرأة أن تُدْخِل الشهود إلى بيت زوجها في غيبته وتشهدهم بما تريد وكما أذن لهن النبي أن يخرجن إلى المساجد ودعوة المسلمين .
وقوله : { والتي تخافون نشوزهن } هذه بعض الأحوال المضادّة للصلاح وهو النشوز ، أي الكراهية للزوج ، فقد يكون ذلك لسوء خلق المرأة ، وقد يكون لأنّ لها رغبة في التزوّج بآخر ، وقد يكون لقسوة في خُلق الزوج ، وذلك كثير . والنشوز في اللغة الترفّع والنهوض ، وما يرجع إلى معنى الاضطراب والتباعد ، ومنه نَشَزُ الأرض ، وهو المرتفع منها .
قال جمهور الفقهاء : النشوز عصيان المرأة زوجها والترفّع عليه وإظهار كراهيته ، أي إظهار كراهية لم تكن معتادة منها ، أي بعد أن عاشرته ، كقوله : « وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا » . وجعلوا الإذن بالموعظة والهجر والضرب مرتّبا على هذا العصيان ، واحتجّوا بما ورد في بعض الآثار من الإذن للزوج في ضرب زوجته الناشز ، وما ورد من الأخبار عن بعض الصحابة أنّهم فعلوا ذلك في غير ظهور الفاحشة .
وعندي أنّ تلك الآثار والأخبار مَحْمَل الأباحة فيها أنّها قد روعي فيها عرف بعض الطبقات من الناس ، أو بعض القبائل ، فإنّ الناس متفاوتون في ذلك ، وأهل البدو منهم لا يعُدّون ضرب المرأة اعتداء ، ولا تعدّه النساء أيضاً اعتداء ، قال عامر بن الحارث النمري الملقّب بجِرَاننِ العَوْد .
عَمِدْتُ لِعَوْدٍ فَالْتَحَيْتُ جِرَانَهُ *** ولَلْكَيْسُ أمضى في الأمور وأنجح
خُذا حَذراً يا خُلَّتيَّ فإنّنــي *** رأيـتُ جران العَوْد قد كاد يصلح
والتحيْت : قشرّت ، أي قددت ، بمعنى : أنّه أخذ جلداً من باطن عنق بعير وعمله سوطا ليضرب به امرأتيه ، يهدّدهما بأنّ السوط قد جَفّ وصلح لأن يضرب به .
وقد ثبت في « الصحيح » أنّ عمر بن الخطاب قال : ( كنا معشر المهاجرين قوما نغلب نساءنا فإذا الأنصار قوم تغلبهم نساؤهم فأخذ نساؤنا يتأدّبن بأدب نساء الأنصار ) . فإذا كان الضرب مأذونا فيه للأزواج دون وُلاة الأمور ، وكان سببه مجرّد العصيان والكراهِية دون الفاحشة ، فلا جرم أنّه أذن فيه لقوم لا يعُدّون صدوره من الأزواج إضراراً ولا عارا ولا بدعا من المعاملة في العائلة ، ولا تشعر نساؤهم بمقدار غضبهم إلاّ بشيء من ذلك .
وقوله : { فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } مقصود منه الترتيب كما يقتضيه ترتيب ذكرها مع ظهور أنّه لا يراد الجمع بين الثلاثة ، والترتيب هو الأصل والمتبادر في العطف بالواو ، قال سعيد بن جبير : يعظها ، فإن قبلت ، وإلاّ هجرها ، فإن هي قبلت ، وإلاّ ضربها ، ونُقل مثله عن علي .
واعلم أنّ الواو هنا مراد بها التقسيم باعتبار أقسام النساء في النشوز .
وقوله : { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً } احتمال ضمير الخطاب فيه يجري على نحوما تقدّم في ضمائر { تخافون } وما بعده ، والمراد الطاعة بعد النشوز ، أي إن رجعن عن النشوز إلى الطاعة المعروفة . ومعنى : { فلا تبغوا عليهن سبيلاً } فلا تطلبوا طريقاً لإجراء تلك الزواجر عليهنّ ، والخطاب صالح لكلّ من جعل له سبيل على الزوجات في حالة النشوز على ما تقدّم .
والسبيل حقيقتُه الطريق ، وأطلق هنا مجازاً على التوسّل والتسبّب والتذرّع إلى أخذ الحقّ ، وسيجيء عند قوله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } في سورة براءة ( 91 ) ، وانظر قوله الآتي { وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } .
و { عليهنّ } متعلّق ب ( سبيلا ) لأنّه ضمّن معنى الحكم والسلطان ، كقوله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } [ التوبة : 91 ] .
وقوله : { إن الله كان علياً كبيراً } تذييل للتهديد ، أي إنّ الله عليٌّ عليكم ، حاكم فيكم ، فهو يعدل بينكم ، وهو كبير ، أي قويّ قادر ، فبوصف العلوّ يتعيّن امتثال أمره ونهيه ، وبوصف القدرة يُحذر بطشه عند عصيان أمره ونهيه .
ومعنى { تخافون نشوزهن } تخافون عواقبه السيّئة . فالمعنى أنّه قد حصل النشوز مع مخائل قصد العصيان والتصميم عليه لا مطلق المغاضبة أو عدم الامتثال ، فإنّ ذلك قلّما يخلو عنه حال الزوجين ، لأنّ المغاضبة والتعاصي يعرضان للنساء والرجال ، ويزولان ، وبذلك يبقى معنى الخوف على حقيقته من توقّع حصول ما يضرّ ، ويكون الأمر بالوعظ والهجر والضرب مراتبَ بمقدار الخوف من هذا النشوز والتباسه بالعدوان وسوء النية .
والمخاطب بضمير { تخافون } إمَّا الأزواج ، فتكون تعْدية ( خاف ) إليه على أصل تعدية الفعل إلى مفعوله ، نحو { فلا تخافوهم وخافون } [ آل عمران : 175 ] ويكون إسناد { فعظوهن واهجروهن واضربوهن } على حقيقته .
ويجوز أن يكون المخاطب مجموع من يصلح لهذا العمل من وُلاَة الأمور والأزواج ؛ فيتولّى كلّ فريق ما هو من شأنه ، وذلك نظير قوله تعالى في سورة البقرة ( 229 ) { ولا يَحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله } إلخ . فخطاب ( لكم ) للأزواج ، وخطاب { فإن خفتم } [ البقرة : 229 ] لولاة الأمور ، كما في « الكشّاف » . قال : ومثل ذلك غير عزيز في القرآن وغيره . يريد أنّه من قبيل قوله تعالى في سورة الصفّ ( 11 ، 13 ) : { تؤمنون بالله ورسوله } إلى قوله : { وبشر المؤمنين } فإنّه جعل ( وبشّر ) عطفاً على ( تؤمنون ) أي فهو خطاب للجميع لكنّه لمّا كان لا يتأتّى إلاّ من الرسول خصّ به . وبهذا التأويل أخذ عطاء إذ قال : لا يضرب الزوج امرأته ولكن يغضب عليها . قال ابن العربي : هذا من فقه عطاء وفهمه الشريعة ووقوفه على مظانّ الاجتهاد علم أنّ الأمر بالضرب هنا أمر إباحة ، ووقف على الكراهية من طريق أخرى كقول النبي " ولن يضرب خياركم " . وأنا أرى لعطاء نظرا أوسع ممّا رآه له ابن العربي : وهو أنّه وضع هاته الأشياء مواضعها بحسب القرائن ، ووافقه على ذلك جمع من العلماء ، قال ابن الفرس : وأنكروا الأحاديث المرويَّة بالضرب . وأقول : أو تأوّلوها . والظاهر أنّ الإذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة بين الزوجين فأذن للزوج بضرب امرأته ضرب إصلاح لقصد إقامة المعاشرة بينهما ؛ فإن تجاوز ما تقتضيه حالة نشوزها كان معتديا .
ولذلك يكون المعنى { واللاتي تخافون نشوزهن } أي تخافون سوء مغبّة نشوزهنّ ، ويقتضي ذلك بالنسبة لولاة الأمور أنّ النشوز رفع إليهم بشكاية الأزواج ، وأنّ إسناد { فعظوهن } على حقيقته ، وأمّا إسناد { واهجروهن في المضاجع } فعلى معنى إذن الأزواج بهجرانهنّ ، وإسناد { واضربوهن } كما علمت .
وضمير المخاطب في قوله : { فإن أطعنكم } يجري على التوزيع ، وكذلك ضمير { فلا تبغوا عليهن سبيلاً } .
والحاصل أنّه لا يجوز الهجر والضرب بمجرّد توقّع النشوز قبل حصوله اتّفاقاً ، وإذا كان المخاطب الأزواج كان إذنا لهم بمعاملة أزواجهم النواشز بواحدة من هذه الخصال الثلاث ، وكان الأزواج مؤتمنين على توخّي مواقع هذه الخصال بحسب قوّة النشوز وقدره في الفساد ، فأمّا الوعظ فلا حدّ له ، وأمّا الهجر فشرطه أن لا يخرج إلى حدّ الإضرار بما تجده المرأة من الكمد ، وقد قدّر بعضهم أقصاه بشهر .
وأمّا الضرب فهو خطير وتحديده عسير ، ولكنّه أذن فيه في حالة ظهور الفساد ؛ لأنّ المرأة اعتدَتْ حينئذ ، ولكن يجب تعيين حدّ في ذلك ، يبيّن في الفقه ، لأنّه لو أطلق للأزواج أن يتولّوه ، وهم حينئذ يشْفُون غضبهم ، لكان ذلك مظنّة تجاوز الحدّ ، إذ قلّ من يعاقب على قدر الذنب ، على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لولا الضرورة . بيد أنّ الجمهور قيّدوا ذلك بالسلامة من الإضرار ، وبصدوره ممّن لا يعدّ الضرب بينهم إهانة وإضراراً . فنقول : يجوز لولاة الأمور إذا علموا أنّ الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعَها ، ولا الوقوفَ عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة ، ويعلنوا لهم أنّ من ضرب امرأته عوقب ، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج ، لا سيما عند ضعف الوازع .
قال الله تبارك وتعالى: {اِلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اَللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله: {سَبِيلاً} أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تضربوا إماء الله» قال: فأتاه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ذئر النساء على أزواجهم فأذن في ضربهن. فأطاف بآل محمد نساء كثير كلهن يشتكين أزواجهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لقد أطاف الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشتكين أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم»...
في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرب النساء، ثم إذنه في ضربهن وقوله: « لن يضرب خياركم» يشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم نهى عنه على اختيار النهي، وأذن فيه بأن مباحا لهم الضرب في الحق، واختار لهم أن لا يضربوا لقوله: « لن يضرب خياركم».
ويحتمل أن يكون قبل نزول الآية بضربهن، ثم أذن لهم بعد نزولها بضربهن...
وفي قوله: « لن يضرب خياركم» دلالة على أن ضربهن مباح لا فرض أن يضربن، ونختار له من ذلك ما اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحب للرجل أن لا يضرب امرأته في انبساط لسانها عليه، وما أشبه ذلك...
وأشبه ما سمعت، والله أعلم، في قوله: {وَالَّلاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} أن لخوف النشوز دلائل، فإذا كانت {فَعِظُوهُنَّ} لأن العظة مباحة، فإن لججن فأظهرن نشوزا بقول أو فعل {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي اِلْمَضَاجِعِ} فإن أقمن بذلك على ذلك {وَاضْرِبُوهُنَّ}، وذلك بين أنه لا يجوز هجرة في المضجع، ولا ضرب إلا بقول أو فعل أو هما...
ويحتمل في {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} إذا نشزن فأبن النشوز فكن عاصيات به أن تجمعوا عليهن العظة والهجرة والضرب.
ولا يبلغ في الضرب حدا، ولا يكون مبرحا ولا مدميا، ويتوقى فيه الوجه.
ويهجرها في المضجع حتى ترجع عن النشوز، ولا يجاوز بها في هجرة الكلام ثلاثا، لأن الله عز وجل إنما أباح الهجرة في المضجع. والهجرة في المضجع تكون بغير هجرة كلام، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجاوز بالهجرة في الكلام ثلاثا...
ولا يجوز لأحد أن يضرب ولا يهجر مضجعا بغير بيان نشوزها.
وأصل ما ذهبنا إليه من أن لا قسم للممتنعة من زوجها ولا نفقة ما كانت ممتنعة، لأن الله تبارك وتعالى أباح هجرة مضجعها وضربها في النشوز، والامتناع نشوز.
ومتى تركت النشوز لم تحل هجرتها ولا ضربها، وصارت على حقها كما كانت قبل النشوز. (الأم: 5/193-194. ون الأم: 5/112. و أحكام الشافعي: 1/257-260. ومختصر المزني ص: 186.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساء}: الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن والأخذ على أيديهن، فيما يجب عليهنّ لله ولأنفسهم¹، {بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}: بما فضل الله به الرجال على أزواجهم من سوقهم إليهنّ مهورهنّ، وإنفاقهم عليهنّ أموالهم، وكفايتهم إياهن مؤنهن. وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهن، ولذلك صاروا قوّاما عليهنّ، نافذي الأمر عليهنّ فيما جعل الله إليهم من أمورهنّ.
عن ابن عباس، قوله: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ} يعني: أمراء عليها أن تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله وفضله عليها بنفقته وسعيه.
{وبِمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ}: وبما ساقوا إليهنّ من صداق، وأنفقوا عليهن من نفقة... فتأويل الكلام إذًا: الرجال قوّامون على نسائهم بتفضيل الله إياهم عليهنّ وبإنفاقهم عليهنّ من أموالهم.
{فالصّالِحاتُ}: المستقيمات الدين، العاملات بالخير.
{قانِتاتٌ}: مطيعات لله ولأزواجهن. {حافِظاتٌ للغَيْب}: حافظات لأنفسهنّ عند غيبة أزواجهنّ عنهنّ في فروجهن وأموالهم، وللواجب عليهنّ من حقّ الله في ذلك وغيره... حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا أبو معشر، قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النّساءِ امْرأةٌ إذَا نَظَرْتَ إلَيْها سَرّتْكَ، وإذَا أمَرْتَها أطاعَتْكَ، وَإذَا غِبْتَ عَنْها حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِها وَمالِكَ» قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ...}.
وهذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلّ على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأن معناه: صالحات في أديانهنّ، مطيعات لأزواجهنّ، حافظات لهم في أنفسهنّ وأموالهم.
{بِمَا حَفظَ اللّهُ}: بحفظ الله إياهنّ إذ صيرهن كذلك... وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من الكلام عليه من ذكره ومعناه: {فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للغَيْب بِمَا حَفِظَ اللّهُ} فأحسنوا إليهنّ وأصلحوا، وكذلك هو فيما ذكر في قراءة ابن مسعود.
{واللاّتِي تخافُونَ نُشُوزَهُنّ فعظُوهُنّ}؛
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: {واللاّتِي تخافُونَ نُشُوزَهُنّ}؛ فقال بعضهم: معناه: واللاتي تعلمون نشوزهنّ. ووجه صرف الخوف في هذا الموضع إلى العلم في قول هؤلاء نظير صرف الظنّ إلى العلم لتقارب معنييهما، إذ كان الظنّ شكا، وكان الخوف مقرونا برجاء، وكانا جميعا من فعل المرء بقلبه.
وقال جماعة من أهل التأويل: معنى الخوف في هذا الموضع: الخوف الذي هو خلاف الرجاء. قالوا: معنى ذلك: إذا رأيتم منهن ما تخافون أن ينشزن عليكم من نظر إلى ما لا ينبغي لهن أن ينظرن إليه، ويدخلن ويخرجن، واستربتم بأمرهنّ، فعظوهنّ واهجروهنّ.
{نُشُوزَهُنّ}: استعلاءهنّ على أزواجهنّ، وارتفاعهنّ عن فرشهم بالمعصية منهنّ، والخلاف عليهم فيما لزمهنّ طاعتهم فيه، بغضا منهنّ وإعراضا عنهم. وأصل النشوز الارتفاع، ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض نَشْز ونَشَاز.
{فَعِظُوهُنّ}: ذكروهنّ الله، وخوفوهنّ وعيده في ركوبها ما حرّم الله عليها من معصية زوجها فيما أوجب عليها طاعته فيه... عظوهن باللسان.
{واهْجُروهُنّ فِي المَضَاجِع}؛ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: فعظوهن في نشوزهن عليكم أيها الأزواج، فإن أبين مراجعة الحق في ذلك والواجب عليهن لكم، فاهجروهن بترك جماعهن في مضاجعتكم إياهن... وقال آخرون: معنى قوله: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ}: قولوا لهنّ من القول هُجْرا في تركهنّ مضاجعتكم... عن ابن عباس، في قوله: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ} قال: يهجرها بلسانه، ويغلظ لها بالقول، ولا يدع جماعها.
عن الحسن، قال: لا يهجرها إلا في المبيت في المضجع، ليس له أن يهجر في كلام ولا شيء إلا في الفراش.
حدثني عباس بن أبي طالب، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن شبل، قال: سمعت أبا قزعة يحدث عن عمرو بن دينار، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه: أنه جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما حقّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: «يُطْعِمُها وَيَكْسُوها، وَلا يَضْرِبِ الوَجْهَ وَلا يُقْبّحْ وَلا يَهْجُرْ إلاّ فِي البيت».
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا يزيد، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي قزعة، عن حكيم بن معاوية عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحوه.
حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا بهز بن حكيم، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، نساؤنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: «حَرْثُكَ فَأْتِ حَرْثَكَ أنّى شِئْتَ، غيرَ أنْ لا تَضْرِبَ الوَجْهَ وَلا تُقَبّحْ وَلا تَهْجُرْ إلاّ فِي البيت وأطْعِمْ إذَا طَعِمْتَ واكْسُ إذَا اكْتَسَيْتَ¹ كَيْفَ وَقَدْ أفْضَى بَعْضُكُمْ إلا بَعْض إلاّ بِمَا حَلّ عَلَيْها؟».
عن الحسن، قال: إذا نشزت المرأة على زوجها، فليعظها بلسانه، فإن قبلت فذاك وإلا ضربها ضربا غير مبرّح، فإن رجعت فذاك، وإلا فقد حلّ له أن يأخذ منها ويخليها...
{واضْرِبُوهُنّ}: فعظوهنّ أيها الرجال في نشزوهنّ، فإن أبين الإياب إلى ما يلزمهنّ لكم فشدّوهنّ وثاقا في منازلهنّ، واضربوهنّ ليؤبن إلى الواجب عليهنّ من طاعة الله في اللازم لهنّ من حقوقكم. قول أهل التأويل: صفة الضرب التي أباح الله لزوج الناشز أن يضربها: الضرب غير المبرّح... عن عطاء، قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرّج؟ قال: بالسواك ونحوه.
{فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً}: فإن أطعنكم أيها الناس نساؤكم اللاتي تخافون نشوزهنّ عند وعظكم إياهنّ فلا تهجروهنّ في المضاجع، فإن لم يطعنكم فاهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ، فإن راجعن طاعتكم عند ذلك وفئن إلى الواجب عليهنّ، فلا تطلبوا طريقا إلى أذاهنّ ومكروههنّ، ولا تلتمسوا سبيلاً إلى ما لا يحلّ لكم من أبدانهنّ وأموالهنّ بالعلل، وذلك أن يقول أحدكم لإحداهن وهي له مطيعة: إنك لست تحبيني وأنت لي مبغضة، فيضربها على ذلك أو يؤذيها، فقال الله تعالى للرجال: {فإنْ أطَعْنَكُمْ}: أي على بغضهن لكم فلا تجنوا عليهنّ، ولا تكلفوهنّ محبتكم، فإن ذلك ليس بأيديهنّ فتضربوهنّ أو تؤذوهنّ عليه. {فَلا تَبْغوا}: لا تلتمسوا ولا تطلبوا، من قول القائل: بغيت الضالة: إذا التمستها. {إنّ اللّهَ كانَ عَليّا كَبِيرا}: إن الله ذو علوّ على كلّ شيء، فلا تبغوا أيها الناس على أزواجكم إذا أطعنكم فيما ألزمهنّ الله لكم من حقّ سبيلاً لعلوّ أيديكم على أيديهنّ، فإن الله أعلى منكم ومن كلّ شيء، وأعلى منكم عليهن، وأكبر منكم ومن كل شيء، وأنتم في يده وقبضته، فاتقوا الله أن تظلموهنّ وتبغوا عليهنّ سبيلاً وهن لكم مطيعات، فينتصر لهنّ منكم ربكم الذي هو أعلى منكم ومن كل شيء، وأكبر منكم ومن كلّ شيء.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
القوّامون: البالغون في القيام عليهن بتعليمهنّ وتأديبهنّ وإصلاح أمرهنّ. {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} قيل: بزيادة العقل، وقيل: بزيادة الدّين واليقين، وقيل: بقوة العبادة، وقيل: بالشهادة،...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَوَّامُونَ عَلَى النساء} يقومون عليهن آمرين ناهين، كما يقوم الولاة على الرعايا. وسموا قوّاماً لذلك. والضمير في {بَعْضَهُمْ} للرجال والنساء جميعاً، يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم وهم الرجال، على بعض وهم النساء. وفيه دليل على أنّ الولاية إنما تستحق بالفضل، لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وقد ذكروا في فضل الرجال: العقل، والحزم، والعزم، والقوّة، والكتابة في الغالب، والفروسية، والرمي، وأنّ منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والاعتكاف، وتكبيرات التشريق عند أبي حنيفة، والشهادة في الحدود، والقصاص، وزيادة السهم، والتعصيب في الميراث، والحمالة، والقسامة، والولاية في النكاح والطلاق والرجعة، وعدد الأزواج، وإليهم الانتساب، وهم أصحاب اللحى والعمائم... {وَبِمَا أَنفَقُواْ}: وبسبب ما أخرجوا في نكاحهنّ من أموالهم في المهور والنفقات... {قانتات} مطيعات قائمات بما عليهنّ للأزواج {حافظات لّلْغَيْبِ} الغيب خلاف الشهادة. أي حافظات لمواجب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهنّ حفظهن ما يجب عليهنّ حفظه في حال الغيبة. من الفروج والبيوت والأموال... وقيل: {للغيب}: لأسرارهم، {بِمَا حَفِظَ الله} بما حفظهنّ الله حين أوصى بهنّ الأزواج في كتابه وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام فقال:"استوصوا بالنساء خيراً"، أو بما حفظهنّ الله وعصمهنّ ووفقهنّ لحفظ الغيب، أو بما حفظهنّ حين وعدهنّ الثواب العظيم على حفظ الغيب، وأوعدهنّ بالعذاب الشديد على الخيانة... نشوزها ونشوصها: أن تعصي زوجها، ولا تطمئن إليه. وأصله الانزعاج. {فِى المضاجع}: في المراقد... هي كناية عن الجماع. وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع وقيل: في المضاجع: في بيوتهن التي يبتن فيها. أي لا تبايتوهن... وذلك لتعرّف أحوالهن وتحقق أمرهن في النشوز أمر بوعظهن أوّلاً، ثم هجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران. وقيل: معناه أكرهوهن على الجماع واربطوهن، من هجر البعير إذا شدّه بالهجار، وهذا من تفسير الثقلاء. وقالوا: يجب أن يكون ضرباً غير مبرِّح لا يجرحها ولا يكسر لها عظماً ويجتنب الوجه... {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}: فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ والتجني، وتوبوا عليهن واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن بعد رجوعهن إلى الطاعة والانقياد وترك النشوز.
{إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} فاحذروه واعلموا أنّ قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم... أو إن الله كان علياً كبيراً وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه، ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجني عليكم إذا رجع.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {قَوَّامُونَ}: يُقَالُ قَوَّامٌ وَقَيِّمٌ، وَهُوَ فَعَّالٌ وَفَيْعَلٌ مِنْ قَامَ، الْمَعْنَى هُوَ أَمِينٌ عَلَيْهَا يَتَوَلَّى أَمْرَهَا، وَيُصْلِحُهَا فِي حَالِهَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَيْهَا لَهُ الطَّاعَةُ وَهِيَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الزَّوْجَانِ مُشْتَرَكَانِ فِي الْحُقُوقِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} بِفَضْلِ الْقَوَّامِيَّةِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْذُلَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، وَيُحْسِنَ الْعِشْرَةَ وَيَحْجُبَهَا، وَيَأْمُرَهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَيُنْهِيَ إلَيْهَا شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ إذَا وَجَبَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهَا الْحِفْظُ لِمَالِهِ، وَالْإِحْسَانُ إلَى أَهْلِهِ، وَالِالْتِزَامُ لِأَمْرِهِ فِي الْحَجَبَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ، وَقَبُولِ قَوْلِهِ فِي الطَّاعَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}:
الْأَوَّلُ: يُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ فِي فِرَاشِهِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: لَا يُكَلِّمُهَا، وَإِنْ وَطِئَهَا؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَأَبُو الضُّحَى.
الثَّالِثُ: لَا يَجْمَعُهَا وَإِيَّاهُ فِرَاشٌ وَلَا وَطْءٌ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الَّذِي يُرِيدُ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ. الرَّابِعُ: يُكَلِّمُهَا وَيُجَامِعُهَا، وَلَكِنْ بِقَوْلٍ فِيهِ غِلَظٌ وَشِدَّةٌ إذَا قَالَ لَهَا تَعَالِي؛ قَالَهُ سُفْيَانُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}:
ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا؛ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَلَّا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ انْتَهَيْنَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ».
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاشِزَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ، وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ هِيَ الْبَذَاءُ لَيْسَ الزِّنَا كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ، فَفَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّرْبَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُبَرِّحًا، أَيْ لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ عَلَى الْبَدَنِ يَعْنِي مِنْ جُرْحٍ أَوْ كَسْرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مِنْ أَحْسَنِ مَا سَمِعْت فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ قَالَ: يَعِظُهَا فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا، فَإِنْ هِيَ قَبِلَتْ وَإِلَّا بَعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، فَيَنْظُرَانِ مِمَّن الضَّرَرُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْخُلْعُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عَطَاءٌ: لَا يَضْرِبُهَا وَإِنْ أَمَرَهَا وَنَهَاهَا فَلَمْ تُطِعْهُ، وَلَكِنْ يَغْضَبُ عَلَيْهَا.
هَذَا مِنْ فِقْهِ عَطَاءٍ، فَإِنَّهُ مِنْ فَهْمِهِ بِالشَّرِيعَةِ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالضَّرْبِ هَاهُنَا أَمْرُ إبَاحَةٍ، وَوَقَفَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ: «إنِّي لَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ يَضْرِبُ أَمَتَهُ عِنْدَ غَضَبِهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يُضَاجِعَهَا مِنْ يَوْمِهِ».
وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُسْتُؤْذِنَ فِي ضَرْبِ النِّسَاءِ، فَقَالَ: اضْرِبُوا، وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ».
فَأَبَاحَ وَنَدَبَ إلَى التَّرْكِ. وَإِنَّ فِي الْهَجْرِ لَغَايَةَ الْأَدَبِ.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لَا يَسْتَوُونَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُقْرَعُ بِالْعَصَا وَالْحُرَّ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ؛ وَمِنْ النِّسَاءِ، بَلْ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ لَا يُقِيمُهُ إلَّا الْأَدَبُ، فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَ، وَإِنْ تَرَكَ فَهُوَ أَفْضَلُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ -وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَا أَسْوَأُ أَدَبِ وَلَدِكِ فَقَالَ: مَا أُحِبُّ اسْتِقَامَةَ وَلَدِي فِي فَسَادِ دِينِي.
وَيُقَالُ: مِنْ حُسْنِ خُلُقِ السَّيِّدِ سُوءُ أَدَبِ عَبْدِهِ.
وَإِذَا لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلرَّجُلِ زَوْجَةً صَالِحَةً وَعَبْدًا مُسْتَقِيمًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُهُ مَعَهُمَا إلَّا بِذَهَابِ جُزْءٍ مِنْ دِينِهِ، وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ.
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بَعْدَ الْهَجْرِ وَالْأَدَبِ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما نهى الله تعالى كلا من الرجال والنساء عن تمني ما فضل به بعضهم على بعض، وأرشدهم إلى الاعتماد في أمر الرزق على كسبهم، وأمرهم أن يؤتوا الوارث نصيبهم، ولما كان من جملة أسباب هذا البيان ذكر تفضيل الرجال على النساء في الميراث والجهاد، كان لسائل هنا أن يسأل عن سبب هذا الاختصاص، وكان جواب سؤاله قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم}: أي إن من شأنهم المعروف المعهود القيام على النساء بالحماية والرعاية والولاية والكفاية ومن لوازم ذلك أن يفرض عليهم الجهاد دونهن فإنه يتضمن الحماية لهن، وأن يكون حظهم من الميراث أكثر من حظهن لأن عليهم من النفقة ما ليس عليهن، وسبب ذلك أن الله تعالى فضل الرجال على النساء في أصل الخلقة، وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة، فكان التفاوت في التكاليف والأحكام، أثر التفاوت في الفطرة والاستعداد.
وثم سبب آخر كسبي، يدعم السبب الفطري، وهو ما أنفق الرجال على النساء من أموالهم، فإن في المهور تعويضا للنساء ومكافأة على دخولهن بعد الزوجية تحت رياسة الرجال، فالشريعة كرمت المرأة إذ فرضت لها مكافأة عن أمر تقتضيه الفطرة ونظام المعيشة وهو أن يكون زوجها قيما عليها فجعل هذا الأمر من قبيل الأمور العرفية التي يتواضع الناس عليها بالعقود لأجل المصلحة كأن المرأة تنازلت باختيارها عن المساواة التامة وسمحت بأن يكون للرجل عليها درجة واحدة هي درجة القيامة والرياسة، ورضيت بعوض مالي عنها، فقد قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} [البقرة:227] فالآية أوجبت لهم هذه الدرجة التي تقتضيها الفطرة لذلك كان من تكريم المرأة إعطاؤها عوضا ومكافأة في مقابلة هذه الدرجة وجعلها بذلك من قبيل الأمور العرفية لتكون طيبة النفس مثلجة الصدر قريرة العين ولا يقال إن الفطرة لا تجبر المرأة على قبول عقد يجعلها مرؤوسة للرجل بغير عوض فإنا نرى النساء في بعض الأمم يعطين الرجال المهور ليكن تحت رياستهم فهل هذا بدافع الفطرة الذي لا يستطيع عصيانه إلا بعض الأفراد. وقد سبق لنا في بيان حكمة تسمية المهور أجورا من عهد قريب نحو مما تقدم هنا وهو ظاهر جلي وإن لم يهتد إليه من عرفت من المفسرين وجعل بعضهم إنفاق الأموال هنا شاملا للمهر ولما يجب من النفقة على المرأة بعد الزواج.
المراد بالقيام هنا هو الرياسة التي يتصرف فيها المرؤوس بإرادته واختياره وليس معناها أن يكون المرؤوس مقهورا مسلوب الإرادة لا يعمل عملا إلا ما يوجهه إليه رئيسه، فإن كون الشخص قيما على آخر هو عبارة عن إرشاده والمراقبة عليه في تنفيذ ما يرشده إليه ملاحظته في أعماله وتربيته، ومنها حفظ المنزل وعدم مفارقته ولو لنحو زيارة أولي القربى إلا في الأوقات والأحوال التي يأذن بها الرجل ويرضى، أقول ومنها مسألة النفقة فإن الأمر فيها للرجل فهو يقدر للمرأة تقدير إجماليا يوما يوما أو شهرا شهرا أو سنة سنة وهي تنفذ ما يقدره على الوجه الذي ترى أنه يرضيه ويناسب حاله من السعة والضيق.
قال: والمراد بتفضيل بعضهم على بعض تفضيل الرجال على النساء، ولو قال "بما فضلهم عليهن "أو قال "بتفضيلهم عليهن" لكان أخصر وأظهر فيما قلنا إنه المراد، وإنما الحكمة في هذا التعبير هي عين الحكمة في قوله {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} وهي إفادة أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من بدن الشخص الواحد فالرجل بمنزلة الرأس والمرأة بمنزلة البدن.
أقول: يعني أنه لا ينبغي للرجل أن يبغي بفضل قوته على المرأة ولا للمرأة أن تستثقل فضله وتعده خافضا لقدرها فإنه لا عار على الشخص إن كان رأسه أفضل من يده، وقلبه أشرف من معدته مثلا، فإن تفضيل بعض أعضاء البدن على بعض بجعل بعضها رئيسا دون بعض إنما هو لمصلحة البدن كله لا ضرر في ذلك على عضو ما وإنما تتحقق وتثبت منفعة جميع الأعضاء بذلك. كذلك مضت الحكمة في فضل الرجل على المرأة في القوة والقدرة على الكسب والحماية، ذلك هو الذي يتيسر لها به القيام بوظيفتها الفطرية وهي الحمل والولادة وتربية الأطفال وهي آمنة في سربها، مكيفة ما يهمها من أمر رزقها، وفي التعبير حكمة أخرى وهي الإشارة إلى هذا التفضيل إنما هو للجنس على الجنس لا لجميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم والعمل بل في قوة البنية والقدرة على الكسب، ولم ينبه الأستاذ إلى هذا المعنى على ظهوره من العبارة وتصديق الواقع له وإن ادعى بعضهم ضعفه وبهذين المعنيين اللذين أفادتهما العبارة ظهر أنها في نهاية الإيجاز الذي يصل إلى حد الإعجاز لأنها أفادت هذه المعاني كلها. وقد قلنا في تفسير {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} أن التعبير يشمل ما يفضل به كل من الجنس الآخر وما يفضل به أفراد كل منهما أفراد جنسه وأفراد الجنس الآخر، ولا تأتي تلك الصور كلها هنا وإن اتحدت العبارة لأن السياق هناك غيره هنا، على أننا أشرنا ثمة إلى ضعف صورة فضل النساء على الرجال بما هو خاص بهن من الحمل والولادة والرجال لا يتمنون ذلك. ونعود إلى كلام الأستاذ.
قال: وما به الفضل قسمان: فطري وكسبي، فالفطري هو أن مزاج الرجل أقوى وأكمل، وأتم وأجمل، وإنكم لتجدون من الغرابة أن أقول إن الرجل أجمل من المرأة وإنما الجمال تابع لتمام الخلقة وكمالها... ويتبع قوة المزاج وكمال الخلقة قوة العقل وصحة النظر في مبادي الأمور وغاياتها ومن أمثال الأطباء والعلماء: العقل السليم في الجسم السليم. ويتبع ذلك الكمال في الأعمال الكسبية فالرجال أقدر على الكسب والاختراع والتصرف في الأمور أي فلأجل هذا كانوا هم المكلفين أن ينفقوا على النساء وأن يحموهن ويقوموا بأمر الرياسة العامة في مجتمع العشيرة التي يضمها المنزل إذ لابد في كل مجتمع من رئيس يرجع إليه في توحيد المصلحة العامة اه بزيادة وإيضاح.
أقول: ويتبع هذه الرياسة جعل عقدة النكاح في أيدي الرجال هم الذين يبرمونها برضا النساء، وهم الذين يحلونها بالطلاق، وأول ما يذكره جمهور المفسرين المعروفين في هذا التفضيل النبوة والإمامة الكبرى والصغرى وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة في الجمعة وغيرها، ولا شك أن هذه المزايا تابعة لكمال استعداد الرجال، وعدم الشاغل لهم عن هذه الأعمال، على ما في النبوة من الاصطفاء والاختصاص، ولكن ليست هي أسباب قيام الرجال على شؤون النساء وإنما السبب هو ما أشير إليه بباء السببية لأن النبوة اختصاص لا يبنى عليها مثل هذا الحكم كما أنه لا يبنى عليها أن كل رجل أفضل من كل امرأة لأن الأنبياء كانوا رجالا، وأما الإمامة والخطبة وما في معناهما مما ذكروه إنما كان للرجال بالوضع الشرعي فلا يقتضى أن يميزوا بكل حكم ولو جعل الشرع للنساء أن يخطبن في الجمعة والحج ويؤذن ويقمن الصلاة لما كان ذلك مانعا أن يكون من مقتضى الفطرة أن يكون الرجال قوامين عليهن، ولكن أكثر المفسرين يغفلون عن الرجوع إلى سنن الفطرة في تعليل حكمة أحكام دين الفطرة، ويلتمسون ذلك كله من أحكام أخرى.
قال تعالى: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} هذا تفصيل لحال النساء في هذه الحياة المنزلية التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل، ذكر أنهن فيها قسمان صالحات وغير صالحات وأن من صفة الصالحات القنوت وهو السكون والطاعة لله تعالى وكذا لأزواجهن بالمعروف، وحفظ الغيب.
الغيب هنا هو ما يستحي من إظهاره أي حافظات لكل ما هو خاص بأمور الزوجية الخاصة بالزوجين فلا يطلع أحد منهم على شيء مما هو خاص بالزوج.
أقول: ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان كل ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة ولا سيما حديث الرفث فما بالك بحفظ العرض. وعندي أن هذه العبارة هي أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة، تقرأها خرائد العذارى جهرا. ويفهمن ما تومئ إليه مما يكون سرا، وهن على بعد من خطرات الخجل أن تمس وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها، فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات، التي تدفع الدم إلى الوجنات، ناهيك بوصل حفظ الغيب {بما حفظ الله} فالانتقال السريع من ذلك الغيب الخفي، إلى ذكر الله الجلي، يصرف النفس عن التمادي في التفكر فيما يكون وراء الأستار، من تلك الخفايا والأسرار، وتشغلها بمراقبته عز وجل. وفسروا قوله تعالى: {بما حفظ الله} بما حفظه لهن في مهورهن وإيجاب النفقة لهن، يريدون أنهن يحفظن حق الرجال في غيبتهم جزاء على المهر ووجوب النفقة المحفوظين لهن في حكم الله تعالى، وما أراك إلا ذاهبا معي إلى وهن هذا القول وهزاله، وتكريم أولئك الصالحات بشهادة الله تعالى أن يكون حفظهن لذلك الغيب من يد تلمس، أو عين تبصر، أو أذن تسترق السمع، معللا بدراهم قبضن، ولقيمات يرتقبن، ولعلك بعد أن تمج هذا القول يقبل ذوقك ما قبله ذوقي وهو أن الباء في قوله {بما حفظ الله} هي صنو باء "لا حول ولا قوة إلا بالله" وأن المعنى حافظات للغيب بحفظ الله أي بالحفظ الذي يؤتيهن الله إياه بصلاحهن فإن الصالحة يكون لها من مراقبة الله تعالى وتقواه ما يجعلها محفوظة من الخيانة، قوية على حفظ الأمانة، أو حافظات له بسبب أمر الله بحفظه، فهن يطعنه ويعصين الهوى، فعسى أن يصل معنى هذه الآية إلى نساء عصرنا اللواتي يتفكهن بإفشاء أسرار الزوجية ولا يحفظن الغيب فيها!.
إن هذا القسم من النساء ليس للرجال عليهن شيء من سلطان التأديب وإنما سلطانهم على القسم الثاني الذي بينه وبين حكمه بقوله عز وجل: {والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} النشوز في الأصل بمعنى الارتفاع فالمرأة التي تخرج عن حقوق الرجل قد ترفعت عليه وحاولت أن تكون فوق رئيسها، بل ترفعت أيضا عن طبيعتها وما يقتضيه نظام الفطرة في التعامل فتكون كالناشز من الأرض الذي خرج عن الاستواء. وقد فسر بعضهم خوف النشوز بتوقعه فقط، وبعضهم بالعلم به، ولكن يقال لم ترك لفظ العلم واستبدل به لفظ الخوف، أو لم يقل واللاتي ينشزن؟ لا جرم أن في تعبير القرآن حكمة لطيفة وهي: أن الله تعالى لما كان يحب أن تكون المعيشة بين الزوجين معيشة محبة ومودة وتراض والتئام لم يشأ أن يسند النشوز على النساء إسنادا يدل على أن من شأنه أن يقع منهن فعلا بل عبر عن ذلك بعبارة تومئ إلى أن من شأنه أن لا يقع لأنه خروج عن الأصل الذي يقوم به نظام الفطرة، وتطيب به المعيشة، ففي هذا التعبير تنبيه لطيف إلى مكانة المرأة وما هو الأولى في شأنها، وإلى ما يجب على الرجل من السياسة لها وحسن التلطف في معاملتها، حتى إذا آنس منها ما يخشى أن يؤول إلى الترفع وعدم القيام بحقوق الزوجية فعليه أولا أن يبدأ بالوعظ الذي يرى أنه يؤثر في نفسها والوعظ يختلف باختلاف حال المرأة فمنهن من يؤثر في نفسها التخويف من الله عز وجل وعقابه على النشوز، ومنهن من يؤثر في نفسها التهديد والتحذير من سوء العاقبة في الدنيا كشماتة الأعداء والمنع من بعض الرغائب كالثياب الحسنة والحلي، والرجل العاقل لا يخفى عليه الوعظ الذي يؤثر في قلب امرأته.
وأما الهجر فهو ضرب من ضروب التأديب لمن تحب زوجها ويشق عليها هجره إياها وذهب بعض المفسرين ومنهم ابن جرير الطبري أن المرأة التي تنشز لا تبالي بهجر زوجها بمعنى إعراضه عنها وقالوا أن معنى {واهجروهن} قيدوهن من هجر البعير إذا شده بالهجار وهو القيد به. وليس هذا الذي قالوه بشيء وما هم بالواقفين على أخلاق النساء وطباعهن فإن منهن من تحب زوجها ويزين لها الطيش والرعونة النشوز عليه، ومنهن من تنشز امتحانا لزوجها ليظهر لها أو للناس مقدار شغفه بها وحرصه على رضاها، وأقول ومنهن من تنشز لتحمل زوجها على إرضائها بما تطلب من الحلي والحلل أو غير ذلك، ومنهن من يغريها أهلها بالنشوز لمآرب لهم.
ولم يتكلم الأستاذ الإمام عن الهجر في المضاجع لأنه بديهي وكم تخبط المفسرون في تفسير البديهيات التي يفهمها الأميون فإنك إذا قلت لأي عامي إن فلانا يهجر امرأته في المضجع أو في محل الاضطجاع أو في المرقد أو محل النوم فإنه يفهم المراد من قولك، ولكن المفسرين رأوا العبارة محلا لاختلاف أفهامهم فمنهم من صرح بما يراد من الكناية، وأخل بما قصد في الكتاب من النزاهة، ومنهم من قال المعنى اهجروا حجرهن التي هي محل مبيتهن ومنهم من قال المراد اهجروهن بسبب المضاجع أي بسبب عصيانهن إياكم فيها. وهذا يدخل في معنى النشوز فما معنى جعله هو المراد بالعقاب؟ وقال بعض من فسر الهجر بالتقيد بالهجار: قيدوهن لأجل الإكراه على ما تمنعن عنه، وسمى الزمخشري هذا التفسير بتفسير الثقلاء.
والمعنى الصحيح هو ما تبادر إلى فهمك أيها القارئ وما يتبادر إلى فهم كل من يعرف هذه الكلمات من اللغة. ولك أن تقول العبارة تدل بمفهومها على منع ما جعله بعضهم معنى بها فهو يقول {واهجروهن في المضاجع} ولا يتحقق هذا بهجر المضجع نفسه وهو الفراش ولا بهجر الحجرة التي يكون فيها الاضطجاع وإنما يتحقق بهجر في الفراش نفسه وتعمد هجر الفراش أو الحجرة زيادة في العقوبة لم يأذن بها الله تعالى وربما يكون سببا لزيادة الجفوة وفي الهجر في المضجع نفسه معنى لا يتحقق بهجر المضجع أو البيت الذي هو فيه لأن الاجتماع في المضجع هو الذي يهيج شعور الزوجية فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر ويزول اضطرابهما الذي أثارته الحوادث قبل ذلك فإذا هجر الرجل المرأة وأعرض عنها في هذه الحالة رجي أن يدعوها ذلك الشعور والسكون النفسي إلى سؤاله عن السبب ويهبط بها من نشز المخالفة، إلى صفصف الموافقة، وكأني بالقارئ وقد جزم بأن هذا هو المراد، وإن كان مثلي لم يره لأحد من الأموات ولا الأحياء.
وأما الضرب فاشترطوا فيه أن يكون غير مبرح وروى ذلك ابن جرير مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والتبريح الإيذاء الشديد وروي عن ابن عباس (رضي الله عنه) تفسيره بالضرب بالسواك ونحوه. أي كالضرب باليد أو بقصبة صغيرة، وقد روي عن مقاتل في سبب نزول الآية في سعد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال أفرشته كريمتي فلطمها، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) (لتقتص من زوجها) فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) (ارجعوا، هذا جبرائيل أتاني، وأنزل الله هذه الآية فتلاها (صلى الله عليه وسلم) وقال أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراده الله تعالى خير) وقال الكلبي نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن سلمة، وذكر القصة، وقيل نزلت في غير من ذكر.
يستكبر بعض مقلدة الإفرنج في آدابهم منا مشروعية ضرب المرأة الناشز ولا يستكبرون أن تنشز وتترفع عليه فتجعله وهو رئيس البيت مرؤوسا بل محتقرا، وتصر على نشوزها حتى لا تلين لوعظه ونصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره، ولا أدري بم يعالجون النواشز وبم يشيرون على أزواجهن أن يعاملوهن به، لعلهم يتخيلون امرأة ضعيفة نحيفة، مهذبة أديبة، يبغي عليها رجل فظ غليظ، فيطعم سوطه من لحمها الغريض، ويسقيه من دمها العبيط، ويزعم أن الله تعالى أباح له مثل هذا الضرب من الضرب، وإن تجرَّم وتجنى عليها ولا ذنب، كما يقع كثيرا من غلاظ الأكباد، متحجري الطباع، وحاش لله أن يأذن بمثل هذا الظلم أو يرضى به، إن من الرجال الجعظري الجوّاظ الذي يظلم المرأة بمحض العدوان، قد ورد في وصية أمثالهم بالنساء كثير من الأحاديث، ويأتي في حقهم ما جاءت به الآية من التحكيم، وأن من النساء الفوارك المناشيص المفسّلات اللواتي يمقتن أزواجهن، ويكفرن أيديهم عليهن، وينشزن عليهم صلفا وعنادا، ويكلفنهم ما لا طاقة لهم به، فأي فساد يقع في الأرض إذا أبيح للرجل التقي الفاضل أن يخفض من صلف إحداهن ويدهورها من نشز غرورها بسواك يضرب به يدها، أو كف يهوي بها على رقبتها، إن كان يثقل على طباعهم إباحة هذا فليعلموا أن طباعهم رقت حتى انقطعت وأن كثيرا من أئمتهم الإفرنج يضربون نساءهم العالمات المهذبات، الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، فعل هذا حكماؤهم وعلماؤهم، وملوكهم وأمراؤهم، فهو ضرورة لا يستغني عنها الغالون في تكريم أولئك النساء المتعلمات، فكيف تستنكر إباحته للضرورة في دين عام للبدو والحضر، من جميع أصناف البشر.
إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو الفطرة فيحتاج إلى التأويل فهو أمر يحتاج إليه في حال فساد البيئة وغلبة الأخلاق الفاسدة وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه، وإذا صلحت البيئة وصار النساء يعقلن النصيحة ويستجبن للوعظ، أو يزدجرن بالهجر، فيجب الاستغناء عن الضرب، فلكل حال حكم يناسبها في الشرع، ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن، وإمساكهن بمعروف، أو تسريحهن بإحسان، والأحاديث في الوصية بالنساء كثيرة جدا.
أقول: ومن هذه الأحاديث ما هو في تقبيح الضرب والتنفير عنه ومنها حديث عبد الله بن زمعة في الصحيحين قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم)؟ وفي رواية عن عائشة عند عبد الرزاق (أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره) يذكر الرجل بأنه إذا كان يعلم من نفسه أنه لابد له من ذلك الاجتماع والاتصال الخاص بامرأته وهو أقوى وأحكم اجتماع يكون بين اثنين من البشر يتحد أحدهما بالآخر اتحادا تاما فيشعر كل منهما بأن صلته بالآخر أقوى من صلة بعض أعضائه ببعض إذا كان لابد له من هذه الصلة والوحدة التي تقتضيها الفطرة، فكيف يليق به أن يجعل امرأته وهي كنفسه، مهينة كمهانة عبده، بحيث يضربها بسوطه أو يده؟ حقا إن الرجل الحييّ الكريم ليتجافى به طبعه عن مثل هذا الجفاء، ويأبى عليه أن يطلب منتهى الاتحاد بمن أنزلها منزلة الإماء، فالحديث أبلغ ما يمكن أن يقال في تشنيع ضرب النساء، وأذكر أنني هديت إلى معناه العالي قبل أن أطلع على لفظه الشريف، فكنت كلما سمعت أن رجلا ضرب امرأته أقول يا لله العجب كيف يستطيع الإنسان أن يعيش عيشة الأزواج مع امرأة تضرب، تارة يسطو عليها بالضرب، فتكون منه كالشاة من الذئب، وتارة يذل لها كالعبد، طالبا منتهى القرب!! ولكن لا ننكر أن الناس متفاوتون فمنهم من لا تطيب له هذه الحياة فإذا لم تقدر امرأته بسوء تربيتها تكريمه إياها حق قدره ولم ترجع عن نشوزها بالوعظ والهجران، فارقها بمعروف وسرحها بإحسان، إلا أن يرجو صلاحها بالتحكيم الذي أرشدت إليه الآية، ولا يضرب فإن الأخيار لا يضربون النساء وإن أبيح لهم ذلك للضرورة فقد روى البيهقي من حديث أم كلثوم بنت الصديق (رضي الله عنه) قالت كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ثم شكوهن إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فخلى بينهم وبين ضربهن ثم قال (ولن يضرب خياركم) فما أشبه هذه الرخصة بالحظر، وجملة القول أن الضرب علاج مر، قد يستغني عنه الخير الحر، ولكنه لا يزول من البيوت بكل حال، أو يعم التهذيب النساء والرجال.
هذا وإن أكثر الفقهاء قد خصوا النشوز الشرعي الذي يبيح الضرب إن احتيج إليه لإزالته بخصال قليلة كعصيان الرجل في الفراش والخروج من الدار بدون عذر وجعل بعضهم تركها الزينة وهو يطلبها نشوزا وقالوا؛ له أن يضربها أيضا على ترك الفرائض الدينية كالغسل والصلاة، والظاهر أن النشوز أعم فيشمل كل عصيان سببه الترفع والإباء ويفيد هذا قوله: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا}. قال الأستاذ الإمام أي إن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية فلا تبغوا بتجاوزها إلى غيرها فابدءوا بما بدأ الله به من الوعظ فإن لم يفد فليهجر فإن لم يفد فليضرب، فإذا لم يفد هذا أيضا يلجأ إلى التحكيم، ويفهم من هذا أن القانتات لا سبيل عليهن حتى في الوعظ والنصح فضلا عن الهجر والضرب.
وأقول: صرح كثير من المفسرين بوجوب هذا الترتيب في التأديب، وإن كان العطف بالواو لا يفيد الترتيب، قال بعضهم دل على ذلك السياق والقرينة العقلية إذ لو عكس كان استغناء بالأشد عن الأضعف فلا يكون لهذا فائدة، وقال بعضهم الترتيب مستفاد من دخول الواو على أجزائه مختلفة في الشدة والضعف مرتبة على أمر مدرج فإنما النص هو الدال على الترتيب. ومعنى لا تبغوا عليهن سبيلا لا تطلبوا طريقا للوصول إلى إيذائهن بالقول أو الفعل، فالبغي بمعنى الطلب ويجوز أن يكون بمعنى تجاوز الحد في الاعتداء أي فلا تظلموهن بطريق ما، فمتى استقام لكم الظاهر، فلا تبحثوا عن مطاوي السرائر:
{إن الله كان عليا كبيرا} فإن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم فإذا بغيتم عليهن عاقبكم، وإذا تجاوزتم عن هفواتهن كرما وشمما تجاوز عنكم، قال الأستاذ: أتى بهذا بعد النهي عن البغي لأن الرجل إنما يبغي على المرأة بما يحسه في نفسه من الاستعلاء عليها وكونه أكبر منها وأقدر فذكره تعالى بعلوه وكبريائه وقدرته عليه ليتعظ ويخشع ويتقي الله فيها. واعلموا أن الرجال الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة في بيوتهم إنما يلدون عبيدا لغيرهم، يعني أن أولادهم يتربون على ذل الظلم فيكونون كالعبيد الأذلاء لمن يحتاجون إلى المعيشة معهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الموضوع الأخير في هذا الدرس، هو تنظيم مؤسسة الأسرة؛ وضبط الأمور فيها؛ وتوزيع الاختصاصات، وتحديد الواجبات؛ وبيان الإجراءات التي تتخذ لضبط أمور هذه المؤسسة؛ والمحافظة عليها من زعازع الأهواء والخلافات؛ واتقاء عناصر التهديم فيها والتدمير، جهد المستطاع:
الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات، حافظات للغيب بما حفظ الله. واللاتي تخافون نشوزهن، فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. إن الله كان عليًا كبيرًا. وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما. إن الله كان عليمًا خبيرًا..
ولا بد -قبل الدخول في تفسير هذه النصوص القرآنية، وبيان أهدافها النفسية والاجتماعية- من بيان مجمل لنظرة الإسلام إلى مؤسسة الأسرة، ومنهجه في بنائها والمحافظة عليها، وأهدافه منها.. بيان مجمل بقدر الإمكان، إذ أن التفصيل فيه يحتاج إلى بحث مطول خاص:
إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته "الزوجية "شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجود: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)..
ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها)..
وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة -بعد ذلك- فيما أراد، أن يكون هذا اللقاء سكنًا للنفس، وهدوءًا للعصب، وطمأنينة للروح، وراحة للجسد.. ثم سترًا وإحصانًا وصينانة.. ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة، مع ترقيها المستمر، في رعاية المحضن الساكن الهادى ء المطمئن المستور المصون:
(من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)..
(هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)..
(نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، وقدموا لأنفسكم، واتقوا الله)..
(أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة)..
(والذين آمنوا، واتبعتهم ذريتهم بإيمان، ألحقنا بهم ذريتهم، وما ألتناهم من عملهم من شيء)..
ومن تساوي شطري النفس الواحدة في موقفهما من الله، ومن تكريمه للإنسان، كان ذلك التكريم للمرأة، وتلك المساواة في حقوق الأجر والثواب عند الله، وفي حقوق التملك والإرث، وفي استقلال الشخصية المدنية.. التي تحدثنا عنها في الصفحات السابقة من هذا الدرس.
ومن أهمية التقاء شطري النفس الواحدة، لإنشاء مؤسسة الأسرة. ومن ضخامة تبعة هذه المؤسسة أولًا: في توفير السكن والطمأنينة والستر والإحصان للنفس بشطريها، وثانيًا: في إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي... كانت تلك التنظيمات الدقيقة المحكمة التي تتناول كل جزئية من شئون المؤسسة.. وقد احتوت هذه السورة جانبًا من هذه التنظيمات هو الذي استعرضناه في الصفحات السابقة من أول هذا الجزء؛ تكملة لما استعرضناه منها في الجزء الرابع.. واحتوت سورة البقرة جانبًا آخر، هو الذي استعرضناه في الجزء الثاني. واحتوت سور أخرى من القرآن، وعلى الأخص سورة النور في الجزء الثامن عشر وسورة الأحزاب في الجزءين الحادي والعشرين والثاني والعشرين وسورة الطلاق وسورة التحريم في الجزء الثامن والعشرين.. ومواضع أخرى متفرقة في السور، جوانب أخرى تؤلف دستورًا كاملًا شاملًا دقيقًا لنظام هذه المؤسسة الإنسانية؛ وتدل بكثرتها وتنوعها ودقتها وشمولها، على مدى الأهمية التي يعقدها المنهج الإسلامي للحياة الإنسانية على مؤسسة الأسرة الخطيرة!
ونرجو أن يكون قارى ء هذه الصفحة على ذكر مما سبق في صفحات هذا الجزء نفسه؛ عن طفولة الطفل الإنساني، وطولها، وحاجته في خلالها إلى بيئة تحميه أولًا حتى يستطيع أن يكسب رزقه للمعاش؛ وأهم من هذا أن تؤهله، بالتربية، إلى وظيفته الاجتماعية؛ والنهوض بنصيبه في ترقية المجتمع الإنساني، وتركه خيرًا مما تسلمه، حين جاء إليه! فهذا الكلام ذو أهمية خاصة في بيان قيمة مؤسسة الأسرة؛ ونظرة المنهج الإسلامي إلى وظائفها، والغاية منها؛ واهتمامه بصيانتها، وحياطتها من كل عوامل التدمير من قريب ومن بعيد..
وفي ظل هذه الإشارات المجملة إلى طبيعة نظرة الإسلام للأسرة وأهميتها؛ ومدى حرصه على توفير ضمانات البقاء والاستقرار والهدوء في جوها.. إلى جانب ما أوردناه من تكريم هذا المنهج للمرأة؛ ومنحها استقلال الشخصية واحترامها؛ والحقوق التي أنشأها لها إنشاء -لا محاباة لذاتها ولكن لتحقيق أهدافه الكبرى من تكريم الإنسان كله ورفع الحياة الإنسانية- نستطيع أن نتحدث عن النص الأخير في هذا الدرس، الذي قدمنا للحديث عنه بهذا الإيضاح:
إن هذا النص -في سبيل تنظيم المؤسسة الزوجية وتوضيح الاختصاصات التنظيمية فيها لمنع الاحتكاك فيها بين أفرادها، بردهم جميعًا إلى حكم الله لا حكم الهوى والانفعالات والشخصيات- يحدد أن القوامة في هذه المؤسسة للرجل؛ ويذكر من أسباب هذه القوامة: تفضيل الله للرجل بمقومات القوامة، وما تتطلبه من خصائص ودربة، و.. تكليف الرجل الإنفاق على المؤسسة. وبناء على إعطاء القوامة للرجل، يحدد كذلك اختصاصات هذه القوامة في صيانة المؤسسة من التفسخ؛ وحمايتها من النزوات العارضة؛ وطريقة علاج هذه النزوات -حين تعرض- في حدود مرسومة -وأخيرًا يبين الإجراءات- الخارجية -التي تتخذ عندما تفشل الاجراءات الداخلية، ويلوح شبح الخطر على المؤسسة، التي لا تضم شطري النفس الواحدة فحسب، ولكن تضم الفراخ الخضر، الناشئة في المحضن. المعرضة للبوار والدمار. فلننظر فيما وراء كل إجراء من هذه الإجراءات من ضرورة، ومن حكمة، بقدر ما نستطيع:
(الرجال قوامون على النساء. بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)
إن الأسرة- كما قلنا -هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية. الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق. والأولى من ناحية الأهمية لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون، في التصور الإسلامي.
وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأنًا، والأرخص سعرًا: كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية.. وما إليها.. لا يوكل أمرها- عادة -إلا لأكفأ المرشحين لها؛ ممن تخصصوا في هذا الفرع علميًا، ودربوا عليه عمليًا، فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة..
إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأنًا والأرخص سعرًا.. فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة، التي تنشئ أثمن عناصر الكون.. العنصر الإنساني..
والمنهج الرباني يراعي هذا. ويراعي به الفطرة، والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه الاستعدادات، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها، المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزة المتفردة..
والمسلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله. وأن الله- سبحانه -لا يريد أن يظلم أحدًا من خلقه، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة!
وقد خلق الله الناس ذكرًا وأنثى.. زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون.. وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل.. وهي وظائف ضخمة أولًا وخطيرة ثانيًا. وليست هينة ولا يسيرة، بحيث تؤدى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى! فكان عدلًا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني- الرجل -توفير الحاجات الضرورية. وتوفير الحماية كذلك للأنثى؛ كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة؛ ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل.. ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد! وكان عدلًا كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه. وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك.
وكان هذا فعلا.. ولا يظلم ربك أحدًا..
ومن ثم زودت المرأة- فيما زودت به من الخصائص -بالرقة والعطف، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة- بغير وعي ولا سابق تفكير -لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها- حتى في الفرد الواحد -لم تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية! لتسهل تلبيتها فورًا وفيما يشبه أن يكون قسرًا. ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج؛ ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك، لتكوين الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من جهة أخرى- مهما يكن فيها من المشقة والتضحية! صنع الله الذي أتقن كل شيء.
وهذه الخصائص ليست سطحية. بل هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة.. بل يقول كبار العلماء المختصين: إنها غائرة في تكوين كل خلية. لأنها عميقة في تكوين الخلية الأولى، التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين، بكل خصائصه الأساسية!
وكذلك زود الرجل -فيما زود به من الخصائص- بالخشونة والصلابة، وبطء الانفعال والاستجابة؛ واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة. لأن وظائفه كلها من أول الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة إلى القتال الذي يمارسه دائمًا لحماية الزوج والأطفال. إلى تدبير المعاش.. إلى سائر تكاليفه في الحياة.. لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام؛ وإعمال الفكر، والبطء في الاستجابة بوجه عام!.. وكلها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها..
وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة، وأفضل في مجالها.. كما أن تكليفه بالإنفاق -وهو فرع من توزيع الاختصاصات- يجعله بدوره أولى بالقوامة، لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة؛ والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة وظيفته فيها..
وهذان هما العنصران اللذان أبرزهما النص القرآني، وهو يقرر قوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي. قوامة لها أسبابها من التكوين والاستعداد. ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات. ولها أسبابها من العدالة في التوزيع من ناحية؛ وتكليف كل شطر -في هذا التوزيع- بالجانب الميسر له، والذي هو معان عليه من الفطرة.
وأفضليته في مكانها.. في الاستعداد للقوامة والدربة عليها.. والنهوض بها بأسبابها.. لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة -كسائر المؤسسات الأقل شأنًا والأرخص سعرًا- ولأن أحد شطري النفس البشرية مهيأ لها، معان عليها، مكلف تكاليفها. وأحد الشطرين غير مهيأ لها، ولا معان عليها.. ومن الظلم أن يحملها ويحمل تكاليفها إلى جانب أعبائه الأخرى.. وإذا هو هيء لها بالاستعدادات الكامنة، ودرب عليها بالتدريب العلمي والعملي، فسد استعداده للقيام بالوظيفة الأخرى.. وظيفة الأمومة.. لأن لها هي الأخرى مقتضياتها واستعداداتها. وفي مقدمتها سرعة الانفعال، وقرب الاستجابة. فوق الاستعدادات الغائرة في التكوين العضوي والعصبي؛ وآثارها في السلوك والاستجابة!
إنها مسائل خطيرة.. أخطر من أن تتحكم فيها أهواء البشر.. وأخطر من أن تترك لهم يخبطون فيها خبط عشواء.. وحين تركت لهم ولأهوائهم في الجاهليات القديمة والجاهليات الحديثة، هددت البشرية تهديدًا خطيرًا في وجودها ذاته؛ وفي بقاء الخصائص الإنسانية، التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميز.
ولعل من الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها؛ ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها.
لعل من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشرية من تخبط وفساد، ومن تدهور وانهيار؛ ومن تهديد بالدمار والبوار، في كل مرة خولفت فيها هذه القاعدة. فاهتزت سلطة القوامة في الأسرة. أو اختلطت معالمها. أو شذت عن قاعدتها الفطرية الأصلية!
لعل من هذه الدلائل توقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الأسرة. وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلة السعادة؛ عندما تعيش مع رجل، لا يزاول مهام القوامة؛ وتنقصه صفاتها اللازمة؛ فيكل إليها هي القوامة! وهي حقيقة ملحوظة تسلم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام!
ولعل من هذه الدلائل أن الأطفال -الذين ينشؤون في مؤسسة عائلية القوامة فيها ليست للأب. إما لأنه ضعيف الشخصية، بحيث تبرز عليه شخصية الأم وتسيطر. وإما لأنه مفقود: لوفاته- أو لعدم وجود أب شرعي! -قلما ينشؤون أسوياء. وقل ألا ينحرفوا إلى شذوذ ما، في تكوينهم العصبي والنفسي، وفي سلوكهم العملي والخلقي.
فهذه كلها بعض الدلائل، التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها، ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها!
ولا نستطيع أن نستطرد أكثر من هذا- في سياق الظلال -عن قوامة الرجال ومقوماتها ومبرراتها، وضرورياتها وفطريتها كذلك.. ولكن ينبغي أن نقول: إن هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني؛ ولا إلغاء وضعها "المدني"- كما بينا ذلك من قبل -وإنما هي وظيفة- داخل كيان الأسرة لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها: ووجود القيم في مؤسسة ما، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها. فقد حدد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية، وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله.
وبعد بيان واجب الرجل وحقه والتزاماته وتكاليفه في القوامة، يجيء بيان طبيعة المرأة المؤمنة الصالحة وسلوكها وتصرفها الإيماني في محيط الأسرة:
(فالصالحات قانتات، حافظات للغيب بما حفظ الله)..
فمن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها، أن تكون.. قانتة.. مطيعة. والقنوت: الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومعاظلة! ومن ثم قال: قانتات. ولم يقل طائعات. لأن مدلول اللفظ الأول نفسي، وظلاله رخية ندية.. وهذا هو الذي يليق بالسكن والمودة والستر والصيانة بين شطري النفس الواحدة. في المحضن الذي يرعى الناشئة، ويطبعهم بجوه وأنفاسه وظلاله وإيقاعاته!
ومن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها كذلك، أن تكون حافظة لحرمة الرباط المقدس بينها وبين زوجها في غيبته -وبالأولى في حضوره- فلا تبيح من نفسها في نظرة أو نبرة -بله العرض والحرمة- مالا يباح إلا له هو -بحكم أنه الشطر الآخر للنفس الواحدة.
وما لا يباح، لا تقرره هي، ولا يقرره هو: إنما يقرره الله سبحانه: (بما حفظ الله)..
فليس الأمر أمر رضاء الزوج عن أن تبيح زوجته من نفسها- في غيبته أو في حضوره -ما لا يغضب هو له أو ما يمليه عليه وعليها المجتمع! إذا انحرف المجتمع عن منهج الله..
إن هنالك حكمًا واحدًا في حدود هذا الحفظ؛ فعليها أن تحفظ نفسها (بما حفظ الله).. والتعبير القرآني لا يقول هذا بصيغة الأمر. بل بما هو أعمق وأشد توكيدًا من الأمر. إنه يقول: إن هذا الحفظ بما حفظ الله، هو من طبيعة الصالحات، ومن مقتضى صلاحهن!
وعندئذ تتهاوى كل أعذار المهزومين والمهزومات من المسلمين والمسلمات. أمام ضغط المجتمع المنحرف. وتبرز حدود ما تحفظه الصالحات بالغيب: (بما حفظ الله) مع القنوت الطائع الراضي الودود..
فأما غير الصالحات.. فهن الناشزات. [من الوقوف على النشز وهو المرتفع البارز من الأرض] وهي صورة حسية للتعبير عن حالة نفسية. فالناشز تبرز وتستعلي بالعصيان والتمرد..
والمنهج الإسلامي لا ينتظر حتى يقع النشوز بالفعل، وتعلن راية العصيان؛ وتسقط مهابة القوامة؛ وتنقسم المؤسسة إلى معسكرين.. فالعلاج حين ينتهي الأمر إلى هذا الوضع قلما يجدي. ولا بد من المبادرة في علاج مبادى ء النشوز قبل استفحاله. لأن مآله إلى فساد في هذه المنظمة الخطيرة، لا يستقر معه سكن ولا طمأنينة، ولا تصلح معه تربية ولا إعداد للناشئين في المحضن الخطير. ومآله بعد ذلك إلى تصدع وانهيار ودمار للمؤسسة كلها؛ وتشرد للناشئين فيها؛ أو تربيتهم بين عوامل هدامة مفضية إلى الأمراض النفسية والعصبية والبدنية.. وإلى الشذوذ..
فالأمر إذن خطير. ولا بد من المبادرة باتخاذ الإجراءات المتدرجة في علاج علامات النشوز منذ أن تلوح من بعيد.. وفي سبيل صيانة المؤسسة من الفساد، أو من الدمار، أبيح للمسئول الأول عنها أن يزاول بعض أنواع التأديب المصلحة في حالات كثيرة.. لا للانتقام، ولا للإهانة، ولا للتعذيب.. ولكن للإصلاح ورأب الصدع في هذه المرحلة المبكرة من النشوز:
واللاتي تخافون نشوزهن، فعظوهن. واهجروهن في المضاجع. واضربوهن. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. إن الله كان عليًا كبيرًا..
واستحضار ما سبق لنا بيانه من تكريم الله للإنسان بشطريه. ومن حقوق للمرأة نابعة من صفتها الإنسانية.. ومن احتفاظ للمرأة المسلمة بشخصيتها المدنية بكامل حقوقها.. بالإضافة إلى أن قوامة الرجل عليها لا تفقدها حقها في اختيار شريك حياتها؛ والتصرف في أمر نفسها والتصرف في أمر مالها.. إلى آخر هذه المقومات البارزة في المنهج الإسلامي..
استحضار هذا الذي سبق كله؛ واستحضار ما قيل عن أهمية مؤسسة الأسرة كذلك.. يجعلنا نفهم بوضوح- حين لا تنحرف القلوب بالهوى والرؤوس بالكبر! -لماذا شرعت هذه الإجراءات التأديبية أولًا. والصورة التي يجب أن تؤدي بها ثانيًا..
إنها شرعت كإجراء وقائي- عند خوف النشوز -للمبادرة بإصلاح النفوس والاوضاع، لا لزيادة إفساد القلوب، وملئها بالبغض والحنق، أو بالمذلة والرضوخ الكظيم!
إنها.. أبدًا.. ليست معركة بين الرجل والمرأة. يراد لها بهذه الإجراءات تحطيم رأس المرأة حين تهم بالنشوز؛ وردها إلى السلسلة كالكلب المسجور!
إن هذا قطعًا.. ليس هو الإسلام.. إنما هو تقاليد بيئية في بعض الأزمان. نشأت مع هو ان "الإنسان" كله. لا هون شطر منه بعينه.. فأما حين يكون هو الإسلام، فالأمر مختلف جدًا في الشكل والصورة. وفي الهدف والغاية..
(واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن)..
هذا هو الإجراء الأول.. الموعظة.. وهذا هو أول واجبات القيم ورب الأسرة. عمل تهذيبي. مطلوب منه في كل حالة: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا، وقودها الناس والحجارة).. ولكنه في هذه الحالة بالذات، يتجه اتجاهًا معينًا لهدف معين. هو علاج أعراض النشوز قبل أن تستفحل وتستعلن.
ولكن العظة قد لا تنفع. لأن هناك هوى غالبًا، أو انفعالًا جامحًا، أو استعلاء بجمال. أو بمال. أو بمركز عائلي.. أو بأي قيمة من القيم. تنسي الزوجة أنها شريكة في مؤسسة، وليست ندًا في صراع أو مجال افتخار!.. هنا يجيء الإجراء الثاني.. حركة استعلاء نفسية من الرجل على كل ما تدل به المرأة من جمال وجاذبية أو قيم أخرى، ترفع بها ذاتها عن ذاته، أو عن مكان الشريك في مؤسسة عليها قوامة.
والمضجع موضع الإغراء والجاذبية، التي تبلغ فيها المرأة الناشز المتعالية قمة سلطانها. فإذا استطاع الرجل أن يقهر دوافعه تجاه هذا الإغراء، فقد أسقط من يد المرأة الناشز أمضى أسلحتها التي تعتز بها. وكانت- في الغالب -أميل إلى التراجع والملاينة، أمام هذا الصمود من رجلها، وأمام بروز خاصية قوة الإرادة والشخصية فيه، في أحراج مواضعها!.. على أن هناك أدبًا معينًا في هذا الإجراء.. إجراء الهجر في المضاجع.. وهو ألا يكون هجرًا ظاهرًا في غير مكان خلوة الزوجين.. لا يكون هجرًا أمام الأطفال، يورث نفوسهم شرًا وفسادًا.. ولا هجرًا أمام الغرباء يذل الزوجة أو يستثير كرامتها، فتزداد نشوزًا. فالمقصود علاج النشوز لا إذلال الزوجة، ولا إفساد الأطفال!.. وكلا الهدفين يبدو أنه مقصود من هذا الإجراء..
ولكن هذه الخطوة قد لا تفلح كذلك.. فهل تترك المؤسسة تتحطم؟ إن هناك إجراء ولو أنه أعنف- ولكنه أهون وأصغر من تحطيم المؤسسة كلها بالنشوز:
واستصحاب المعاني السابقة كلها، واستصحاب الهدف من هذه الإجراءات كلها يمنع أن يكون هذا الضرب تعذيبًا للانتقام والتشفي. ويمنع أن يكون إهانة للإذلال والتحقير. ويمنع أن يكون أيضًا للقسر والإرغام على معيشة لا ترضاها.. ويحدد أن يكون ضرب تأديب، مصحوب بعاطفة المؤدب المربي، كما يزاوله الأب مع أبنائه وكما يزاوله المربي مع تلميذه..
ومعروف -بالضرورة- أن هذه الإجراءات كلها لا موضع لها في حالة الوفاق بين الشريكين في المؤسسة الخطيرة، وإنما هي لمواجهة خطر الفساد والتصدع. فهي لا تكون إلا وهناك انحراف ما هو الذي تعالجه هذه الإجراءات..
وحين لا تجدي الموعظة، ولا يجدي الهجر في المضاجع.. لا بد أن يكون هذا الانحراف من نوع آخر، ومن مستوى آخر، لا تجدي فيه الوسائل الأخرى.. وقد تجدي فيه هذه الوسيلة!
وشواهد الواقع، والملاحظات النفسية على بعض أنواع الانحراف، تقول: إن هذه الوسيلة تكون أنسب الوسائل لإشباع انحراف نفسي معين، وإصلاح سلوك صاحبه.. وإرضائه.. في الوقت ذاته!
على أنه من غير أن يكون هناك هذا الانحراف المرضي، الذي يعينه علم النفس التحليلي بالاسم؛ إذ نحن لا نأخذ تقريرات علم النفس مسلمات "علمية"، فهو لم يصبح بعد" علمًا "بالمعنى العلمي، كما يقول الدكتور" ألكسيس كاريل"، فربما كان من النساء من لا تحس قوة الرجل الذي تحب نفسها أن تجعله قيمًا وترضي به زوجًا، إلا حين يقهرها عضليًا! وليست هذه طبيعة كل امرأة. ولكن هذا الصنف من النساء موجود. وهو الذي قد يحتاج إلى هذه المرحلة الأخيرة.. ليستقيم. ويبقي على المؤسسة الخطيرة.. في سلم وطمأنينة!
وعلى أية حال، فالذي يقرر هذه الإجراءات، هو الذي خلق. وهو أعلم بمن خلق. وكل جدال بعد قول العليم الخبير مهاترة؛ وكل تمرد على اختيار الخالق وعدم تسليم به، مفض إلى الخروج من مجال الإيمان كله..
وهو -سبحانه- يقررها، في جو وفي ملابسات تحدد صفتها، وتحدد النية المصاحبة لها، وتحدد الغاية من ورائها. بحيث لا يحسب على منهج الله تلك المفهومات الخاطئة للناس في عهود الجاهلية؛ حين يتحول الرجل جلادًا -باسم الدين!- وتتحول المرأة رقيقًا -باسم الدين!- أو حين يتحول الرجل امرأة؛ وتتحول المرأة رجلًا؛ أو يتحول كلاهما إلى صنف ثالث مائع بين الرجل والمرأة -باسم التطور في فهم الدين- فهذه كلها أوضاع لا يصعب تمييزها عن الإسلام الصحيح ومقتضياته في نفوس المؤمنين!
وقد أبيحت هذه الإجراءات لمعالجة أعراض النشوز -قبل استفحالها- وأحيطت بالتحذيرات من سوء استعمالها، فور تقريرها وإباحتها. وتولى الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته العملية في بيته مع أهله، وبتوجيهاته الكلامية علاج الغلو هنا وهناك، وتصحيح المفهومات في أقوال كثيرة:
ورد في السنن والمسند: عن معاوية بن حيدة القشيري، أنه قال: يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت. ولا تضرب الوجه. ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت"..
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه: قال النبي صلى الله عليه وسلم" لا تضربوا إماء الله".. فجاء عمر -رضي الله عنه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرت النساء على أزواجهن! فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهن. فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن.. ليس أولئك بخياركم "!!
وقال صلى الله عليه وسلم" لا يضرب أحدكم امرأته كالبعير يجلدها أول النهار. ثم يضاجعها آخره".
وقال: "خيركم خيركم لأهله. وأنا خيركم لأهلي"..
ومثل هذه النصوص والتوجيهات؛ والملابسات التي أحاطت بها؛ ترسم صورة لصراع الرواسب الجاهلية مع توجيهات المنهج الإسلامي، في المجتمع المسلم في هذا المجال. وهي تشبه صورة الصراع بين هذه الرواسب وهذه التوجيهات في شتى مجالات الحياة ال؟؟خرى. قبل أن تستقر الأوضاع الإسلامية الجديدة، وتعمق جذورها الشعورية في أعماق الضمير المسلم في المجتمع الإسلامي..
وعلى أية حال فقد جعل لهذه الإجراءات حد تقف عنده -متى تحققت الغاية- عند مرحلة من مراحل هذه الإجراءات. فلا تتجاوز إلى ما وراءها:
(فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً)..
فعند تحقق الغاية تقف الوسيلة. مما يدل على أن الغاية -غاية الطاعة- هي المقصودة. وهي طاعة الاستجابة لا طاعة الإرغام. فهذه ليست طاعة تصلح لقيام مؤسسة الأسرة، قاعدة الجماعة.
ويشير النص إلى أن المضي في هذه الإجراءات بعد تحقق الطاعة بغي وتحكم وتجاوز.
ثم يعقب على هذا النهي بالتذكير بالعلي الكبير.. كي تتطامن القلوب، وتعنو الرؤوس، وتتبخر مشاعر البغي والاستعلاء، إن طافت ببعض النفوس: على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
القوامة في النّظام العائلي: قال الله تعالى في مطلع هذه الآية (الرّجال قوّامون على النّساء) ولابدّ لتوضيح هذه العبارة من الالتفات إِلى أنّ العائلة وحدة اجتماعية صغيرة، وهي كالاجتماع الكبير لابدّ لها من قائد وقائم بأمورها، لأن القيادة والقوامة الجماعية التي يشترك فيها الرجل والمرأة معاً، لا معنى لها ولا مفهوم، فلابدّ أن يستقل الرجل أو المرأة بالقوامة، ويكون «رئيساً» للعائلة، بينما يكون الآخر بمثابة «المعاون» له الذي يعمل تحت إِشراف الرئيس. إِنّ القرآن يصرّح هنا بأنّ مقام القوامة والقيادة للعائلة لابدّ أن يعطى للرجل (ويجب أن لا يساء فهم هذا الكلام، فليس المقصود من هذا التعبير هو الاستبداد والإِجحاف والعدوان، بل المقصود هو أن تكون القيادة واحدة ومنظمة تتحمل مسؤولياتها مع أخذ مبدأ الشورى والتشاور بنظر الاعتبار)...
إنّ هذه المسألة تبدو واضحة في هذا العصر أكثر من أي وقت مضى، وهي أن أية هيئة حتى المؤلفة من شخصين مكلفة بالقيام بأمر لابدّ أن يتولى أحدهما زعامة تلك الهيئة فيكون رئيسها، بينما يقوم الآخر بمساعدته فيكون بمثابة (المعاون أو العضو)، وإلاّ سادت الفوضى أعمال تلك الهيئة واختلت نشاطاتها وأخفقت في تحقيق أهدافها المنشودة، وهكذا الحال بالنسبة إِلى العائلة، فلابدّ من إسناد إدارة العائلة إِلى الرجل...
النّساء المقصرات النّاشزات الطّائفة الثّانية:
هنّ النسوة اللاتي يتخلفن عن القيام بوظائفهنّ وواجباتهنّ، وتبدو عليهنّ علائم النشوز واماراته فإِن على الرجال تجاه هذه الطائفة من النساء واجبات لابدّ من القيام بها مرحلة فمرحلة، وعلى كل حال يجب أن يراعوا جانب العدل ولا يخرجوا عن حدوده وإِطاره، وهذه الوظائف هي بالترتيب: 1 المواعظة: إِنّ المرحلة الأُولى التي على الرجال أن يسلكوها تجاه النساء اللاتي تبدو عليهنّ علائم التمرد والنشوز والعداوة، تتمثل في وعظهن كما قال سبحانه في الآية الحاضرة: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن). وعلى هذا فإِن النساء اللاتي يتجاوزن حدود النظام العائلي وحريمه لابدّ قبل أي شيء أن يذكرن من خلال الوعظ والإِرشاد بمسؤولياتهنّ وواجباتهنّ ونتائج العصيان والنشوز. 2 الهجر في المضاجع: وتأتي هذه المرحلة إِذا لم ينفع الوعظ ولم تنجع النصيحة (واهجروهنّ في المضاجع)، وبهذا الموقف والهجر وعدم المبالاة بالزوجة أظهروا عدم الرضا من الزوجة، لعل هذا الموقف الخفيف يؤثر في أنفسهنّ. 3 الضرب: وأمّا إِذا تجاوزن في عصيانهنّ، والتمرد على واجباتهنّ ومسؤولياتهنّ الحدّ، ومضين في طريق العناد واللجاج دون أن يرتدعن بالأساليب السابقة، فلا النصيحة تفيد، ولا العظة تنفع، ولا الهجر ينجح، ولم يبق من سبيل إلاّ استخدام العنف، فحينئذ يأتي دور الضرب (فاضربوهنّ) لدفعهنّ إِلى القيام بواجباتهنّ الزوجية لانحصار الوسيلة في هذه الحالة في استخدام شيء من العنف، ولهذا سمح الإِسلام في مثل هذه الصورة بالضغط عليهنّ ودفعهنّ إِلى القيام بواجباتهنّ من خلال التنبيه الجسدي. إشكال: يمكن أن يعترض معترض في هذا المقام قائلا: كيف سمح الإِسلام للرجال بأن يتوسلوا بأسلوب التنبيه الجسدي المتمثل بالضرب؟ الجواب: إِنّ الجواب على هذا الاعتراض يبدو غير صعب بملاحظة معنى الآية والروايات الواردة لبيان مفادها وما جاء في توضيحها في الكتب الفقهية، وأيضاً بملاحظة ما يعطيه علماء النفس اليوم من توضيحات علمية في هذا المجال، ونلخص بعض هذه الأمور في نقاط: أوّلا: إِنّ الآية تسمح بممارسة التنبيه الجسدي في حق من لا يحترم وظائفه وواجباته، الذي لا تنفع معه أية وسيلة أُخرى، ومن حسن الصدف أن هذا الأسلوب ليس بأمر جديد خاص بالإِسلام في حياة البشر، فجميع القوانين العالمية تتوسل بالأساليب العنيفة في حق من لا تنجح معه الوسائل والطرق السلمية لدفعه إِلى تحمل مسؤولياته والقيام بواجباته، فإِن هذه القوانين ربّما لا تقتصر على وسيلة الضرب، بل تتجاوز ذلك في بعض الموارد الخاصّة إِلى ممارسة عقوبات أشد تبلغ حدّ الإِعدام والقتل. ثانياً: إنّ التّنبيه الجسدي المسموح به هنا يجب أن يكون خفيفاً، وأن يكون الضرب ضرباً غير مبرح، أي لا يبلغ الكسر والجرح، بل ولا الضرب البالغ حد السواد كما هو مقرر في الكتب الفقهية... ومن المسلم أنّ أحد هذه الأساليب لو أثر في المرأة الناشزة ودفعها إِلى الطاعة، وعادت المرأة إِلى القيام بوظائفها الزوجية لم يحق للرجل أن يتعلل على المرأة، ويعمد إِلى إِيذائها، ومضايقتها حتى تعود إِلى جادة الصواب واستقامت في سلوكها ولهذا عقب سبحانه على ذكر المراحل السابقة بقوله: (فإِن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا). ولو قيل: إِن مثل هذا الطغيان والعصيان والتمرد على الواجبات الزوجية والعائلية قد يقع من قبل الرجال أيضاً، فهل تشمل هذه المراحل الرجال أيضاً؟ أي أيمكن ممارسة هذه الأمور ضد الرجل كذلك، أم لا؟ نقول في الإِجابة على ذلك: نعم إِنّ الرجال العصاة يعاقبون حتى بالعقوبة الجسدية أيضاً كما تعاقب النساء العاصيات الناشزات غاية ما هنالك أن هذه العقوبات حيث لا تتيسر للنساء، فإن الحاكم الشرعي مكلف بأن يذكر الرجال المتخلفين بواجباتهم وظائفهم بالطرق المختلفة وحتى بالتعزير (الذي هو نوع من العقوبة الجسدية). وقصّة الرجل الذي أجحف في حق زوجته ورفض الخضوع للحق، فعمد الإِمام علي (عليه السلام) إِلى تهديده بالسيف وحمله على الخضوع، معروفة. ثمّ أنّ الله سبحانه ذكّر الرجال مرّة أُخرى في ختام الآية بأن لا يسيئوا استخدام مكانتهم كقيمين على العائلة فيجحفوا في حق أزواجهم، وأن يفكروا في قدرة الله التي هي فوق كل قدرة (إِنّ الله كان علياً كبيراً)...