{ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي : وإذا جاءك المؤمنون ، فحَيِّهم ورحِّب بهم ولَقِّهم منك تحية وسلاما ، وبشرهم بما ينشط عزائمهم وهممهم ، من رحمة الله ، وسَعة جوده وإحسانه ، وحثهم على كل سبب وطريق ، يوصل لذلك .
ورَهِّبْهم من الإقامة على الذنوب ، وأْمُرْهم بالتوبة من المعاصي ، لينالوا مغفرة ربهم وجوده ، ولهذا قال : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } أي : فلا بد مع ترك الذنوب والإقلاع ، والندم عليها ، من إصلاح العمل ، وأداء ما أوجب الله ، وإصلاح ما فسد من الأعمال الظاهرة والباطنة .
فإذا وجد ذلك كله { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : صب عليهم من مغفرته ورحمته ، بحسب ما قاموا به ، مما أمرهم به .
{ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة } الذين يؤمنون هم الذين يدعون ربهم وصفهم بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة ، وأمره بأن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله بعد النهي عن طردهم ، إيذانا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل ، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرب ولا يطرد ، ويعز ولا يذل ، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة . وقيل إن قوم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما فلم يرد عليهم شيئا فانصرفوا فنزلت . { أنه من عمل منكم سوءا } استئناف بتفسير الرحمة . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالفتح على البدل منها . { بجهالة } في موضع الحال أي ملتبسا بفعل الجهالة فإن ارتكاب ما يؤدي إلى الضرر من أفعال أهل السفه والجهل . { ثم تاب من بعده } بعد العمل أو السوء . { وأصلح } بالتدارك والعزم على أن لا يعود إليه { فأنه غفور رحيم } فتحه من فتح الأول غير نافع على إضمار مبتدأ أو خبر أي فأمره أو فله غفرانه .
قال جمهور المفسرين : { الذين } يراد بهم القوم الذين كان ُعرض طردهم فنهى الله عز وجل عن طردهم ، وشفع ذلك بأن أمر بأن يسلم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ويؤنسهم ، وقال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد { الذين } يراد بهم القوم من المؤمنين الذين صوبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة فأمر الله نبيه أن يسلم عليهم ويعلمهم أن الله يغفر لهم مع توبتهم من ذلك السوء وغيره ، وأسند الطبري عن ماهان أنه قال نزلت الآية في قوم من المؤمنين استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب سلفت منهم فنزلت الآية بسببهم .
قال القاضي أبو محمد : وهي على هذا تعم جميع المؤمنين دون أن تشير إلى فرقة ، وقال الفضيل بن عياض : قال قوم للنبي صلى الله عليه وسلم إنَّا قد أصبنا ذنوباً فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الآية ، وقوله { بآياتنا } يعم آيات القرآن وأيضاً علامات النبوة كلها ، و { سلام عليكم } ابتداء والتقدير : سلام ثابت أو واجب عليكم ، والمعنى : أمنة لكم من عذاب الله في الدنيا والآخرة ، وقيل المعنى أن الله يسلم عليكم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا معنى لا يقتضيه لفظ الآية حكاه المهدوي ، ولفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء ، وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت ، و { كتب } بمعنى أوجب ، والله تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً إلا إذا أعلمنا أنه قد حتم بشيء ما فذلك الشيء واجب ، وفي : أين هذا الكتاب اختلاف ؟ قيل في اللوح المحفوظ ، وقيل في كتاب غيره لقوله عليه السلام في صحيح البخاري : إن الله تعالى كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي{[4933]} .
وقرأ عاصم وابن عامر : «أنه » بفتح الهمزة في الأولى والثانية ، ف «أنه » الأولى بدل من الرحمة و «أنه » الثانية خبر ابتداء مضمر تقديره : فأمره أنه غفور رحيم ، هذا مذهب سيبويه وقال أبو حاتم «فإنه » ابتداء ولا يجوز هذا عند سيبويه ، وقال النحاس : هي عطف على الأولى وتكرير لها لطول الكلام ، قال أبو علي . ذلك لا يجوز لأن { من } لا يخلو أن تكون موصولة بمعنى الذي فتحتاج إلى خبر أو تكون شرطية فتحتاج إلى جواب ، وإذا جعلنا «فأنه » تكريراً للأولى عطفاً عليها بقي المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جواب ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «إنه » بكسر الهمزة في الأولى والثانية ، وهذا على جهة التفسير للرحمة في الأولى والقطع فيها ، وفي الثانية إما في موضع الخبر أو موضع جواب الشرط وحكم ما بعد الفاء إنما هو الابتداء ، وقرأ نافع بفتح الأولى وكسر الثانية ، وهذا على أن أبدل من الرحمة واستأنف بعد الفاء ، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاه الزهراوي عن الأعرج وأظنه وهماً ، لأن سيبويه حكاه عن الأعرج مثل قراءة نافع ، وقال أبو عمرو الداني : قراءة الأعرج ضد قراءة نافع ، و «الجهالة » في هذا الموضع تعم التي تضاد العلم والتي ُتَشَّبه بها ، وذلك أن المتعمد لفعل الشيء الذي قد نهي عنه تشمل معصيته تلك جهالة ، إذ قد فعل ما يفعله الذي لم يتقدم له علم ، قال مجاهد : من الجهالة أن لا يعلم حلالاً من حرام ومن جهالته أن يركب الأمر ، ومن هذا الذي لا يضاد العلم قول النبي عليه السلام في استعاذته «أو أجهل أو يجهل عليّ »{[4934]} ، ومنه قول الشاعر [ عمرو بن كثلوم ] : [ الوافر ]
ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أحَدُ عَلَيْنَا . . . فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا{[4935]}
والجهالة المشبهة ليست بعذر في الشرع جملة والجهالة الحقيقية يعذر بها في بعض ما يخف من الذنوب ولا يعذر بها في كبيرة ، و «التوبة » الرجوع ، وصحتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في الشيء الذي تيب منه .