جاءت آيات بعدها توضح موقف الكفار من المعجزات ، وإصرارهم على التكذيب ، وتطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإعراض عنهم وإمهالهم ليوم يخرجون فيه من الأجداث كأنهم جراد منتشر .
وتتابعت الآيات بعد ذلك ، تعرض أطرافا من أحوال الأمم السابقة مع رسلهم ، والعذاب الذي حاق بهم ، وبين كل قصة وأخرى تنبه الأذهان إلى أن القرآن الكريم ميسر لمن يطلب العظة والاعتبار .
منتهية إلى بيان أن كفار مكة ليسوا أقوى ولا أشد من الأمم السابقة ، وأنه ليس لهم أمان من العذاب ، ثم ختمت السورة بتهديد المكذبين المعاندين بمصائرهم يوم يسبحون في النار على وجوههم ، ويقال لهم : ذوقوا مس جهنم التي كنتم بها تكذبون ، وتطمئن المتقين إلى منازلهم في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
{ 1-5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ }
يخبر تعالى أن الساعة وهي القيامة اقتربت وآن أوانها ، وحان وقت مجيئها ، ومع ذلك ، فهؤلاء المكذبون لم يزالوا مكذبين بها ، غير مستعدين لنزولها ، ويريهم الله من الآيات العظيمة الدالة على وقوعها ما يؤمن على مثله البشر ، فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على [ صحة ما جاء به و ] صدقه ، أشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر بإذن الله تعالى ، فانشق فلقتين ، فلقة على جبل أبي قبيس ، وفلقة على جبل قعيقعان ، والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية الكبرى{[921]} الكائنة في العالم العلوي ، التي لا يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل .
تفسير سورة القمر {[1]}
قد تقدم في حديث أبي واقد{[2]} : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف ، واقتربت الساعة ، في الأضحى والفِطْر ، وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار ، لاشتمالهما على ذكر الوعد والوعيد وبدء الخلق وإعادته ، والتوحيد وإثبات النبوات ، وغير ذلك من المقاصد العظيمة .
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها . كما قال تعالى : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [ سُبْحَانَهُ ] } [ النحل : 1 ] ، {[27731]} وقال : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] وقد وردت الأحاديث بذلك ، قال الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا محمد بن المثنى وعمرو بن علي قالا حدثنا خلف بن موسى ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ أصحابه ذات يوم ، وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا شِفٌّ {[27732]} يسير ، فقال : " والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه ، وما نرى من الشمس إلا يسيرا " {[27733]} .
قلت : هذا حديث مداره على خلف بن موسى بن خلف العَمِّيّ ، عن أبيه . وقد ذكره ابن حِبَّان في الثقات ، وقال : ربما أخطأ .
حديث آخر يعضد الذي قبله ويفسره ، قال الإمام أحمد : حدثنا الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا شريك ، حدثنا سلمة بن كُهَيْل ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قُعَيْقِعان بعد العصر ، فقال : " ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى " {[27734]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا محمد بن مُطَرِّف ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بُعِثتُ والساعة {[27735]} هكذا " . وأشار بإصبعيه : السبابة والوسطى .
أخرجاه من حديث أبي حازم سلمة بن دينار {[27736]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عُبَيد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي خالد ، عن وهب السَّوَائي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقها{[27737]} " وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى{[27738]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا إسماعيل بن عبيد{[27739]} الله ، قال : قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله : ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر به الساعة ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أنتم والساعة كهاتين " .
تفرد به أحمد ، رحمه الله{[27740]} . وشاهد ذلك أيضا في الصحيح في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه الحاشر الذي يُحْشَرُ الناس على قدميه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا بَهْزُ بن أسد ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد بن هلال ، عن خالد بن عمير قال : خطب عتبة بن غَزْوَان - قال بهز : وقال قبل هذه المرة - خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد ، فإن الدنيا قد آذنت بصَرْمٍ وولت حذاء ، ولم يبق منها إلا صُبَابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها ، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها ، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم ، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يُلقَى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما {[27741]} ما يدرك لها قعرًا ، والله لتملؤنه ، أفعجبتم ! والله لقد ذكر لنا أن ما بين مِصْرَاعَي الجنة مسيرة أربعين عاما ، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ الزحام " وذكر تمام الحديث ، انفرد به مسلم {[27742]} .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب ، حدثني ابن عُلَيَّةَ ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي قال : نزلنا المدائن فكنا منها على فَرْسَخ ، فجاءت{[27743]} الجمعة ، فحضر أبي وحضرت معه فخطبنا حذيفة فقال : ألا إن الله يقول : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } ، ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشق ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار ، وغدا السباق ، فقلت لأبي : أيستبق الناس غدا ؟ فقال : يا بني إنك لجاهل ، إنما هو السباق بالأعمال .
ثم جاءت الجمعة الأخرى فحضرنا فخطب حذيفة ، فقال : ألا إن الله ، عز وجل يقول : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق ، ألا وإن الغاية النار ، والسابق من سبق إلى الجنة {[27744]} .
وقوله : { وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } : قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة . وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : " خمس قد مضين : الروم ، والدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر " {[27745]} . وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أي انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية ، فانشق القمر بمكة مرتين ، فقال : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } .
ورواه مسلم ، عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق {[27746]} .
وقال البخاري : حدثني عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شِقَّين ، حتى رأوا حِرَاء بينهما {[27747]} .
وأخرجاه أيضا من حديث يونس بن محمد المؤدّب ، عن شيبان ، عن قتادة {[27748]} . ورواه مسلم أيضا من حديث أبي داود الطيالسي ، ويحيى القطان ، وغيرهما ، عن شعبة ، عن قتادة ، به {[27749]} .
رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سليمان بن كثير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين : فرقة على هذا الجبل ، وفرقة على هذا الجبل ، فقالوا : سحرنا محمد . فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم .
تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه ، وأسنده البيهقي في " الدلائل " من طريق محمد بن كثير ، عن أخيه سليمان بن كثير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، [ به ]{[27750]} {[27751]} . وهكذا رواه ابن جرير {[27752]} من حديث محمد بن فضيل وغيره ، عن حصين ، به {[27753]} . ورواه البيهقي أيضا من طريق إبراهيم بن طَهْمَان وهُشَيْم ، كلاهما عن حُصَين عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن جده فذكره {[27754]} .
رواية عبد الله بن عباس [ رضي الله عنهما ] {[27755]}
قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا بكر ، عن جعفر ، عن عِرَاك بن مالك ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : انشق القمر في زمان رسول{[27756]} الله صلى الله عليه وسلم {[27757]} .
ورواه البخاري أيضا ومسلم ، من حديث بكر بن مضر ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عِرَاك [ بن مالك ] {[27758]} ، به مثله {[27759]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن مثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } قال : قد مضى ذلك ، كان قبل الهجرة ، انشق القمر حتى رأوا شقيه .
وروى العَوْفي ، عن ابن عباس نحو هذا .
وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو البزار ، حدثنا محمد بن يحيى القُطَعِي ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كُسِفَ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سُحِر القمر . فنزلت : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } إلى قوله : { مستمر } .
قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا العباس بن محمد الدّوري ، حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } قال : وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فِلْقَتَين : فِلْقَة من دون الجبل ، وفلقة من خلف الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم اشهد " .
وهكذا رواه مسلم ، والترمذي ، من طرق عن شعبة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، به{[27760]} . قال مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود . وقال الترمذي : حسن صحيح .
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن أبي مَعْمَر ، عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقين حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشهدوا " .
وهكذا رواه البخاري ومسلم ، من حديث سفيان بن عيينة ، به{[27761]} . وأخرجاه من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر عبد الله بن سَخْبَرَة ، عن ابن مسعود ، به{[27762]} .
وقال ابن جرير : حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، حدثنا عمي يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن رجل ، عن عبد الله ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر ، فأخذت فرقة خلف الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اشهدوا ، اشهدوا " {[27763]} .
قال البخاري : وقال أبو الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله : بمكة{[27764]} .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة . قال : فقالوا : انظروا ما يأتيكم به السّفَّار ، فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم . قال : فجاء السّفَّار فقالوا : ذلك {[27765]} .
وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا العباس بن محمد الدَّوْري ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا هُشَيْم ، حدثنا مغيرة ، عن أبى الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين ، فقال كفار قريش أهل مكة : هذا سحر سحركم به ابن أبي كَبْشَة ، انظروا السفار ، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق ، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سِحْرٌ سحركم به . قال : فسئل السفار ، قال : وقدموا من كل وجهة ، فقالوا : رأيناه .
رواه ابن جرير من حديث المغيرة ، به {[27766]} . وزاد : فأنزل الله عز وجل : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } . ثم قال ابن جرير :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، أخبرنا أيوب ، عن محمد - هو ابن سيرين - قال : نبئت أن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، كان يقول : لقد انشق القمر{[27767]} .
وقال ابن جرير أيضا : حدثني محمد بن عمارة ، حدثنا عمرو بن حماد ، حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عبد الله قال : لقد رأيت الجبل من فَرْج القمر حين انشق .
ورواه الإمام أحمد عن مُؤَمَّل ، عن إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عبد الله ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر{[27768]} .
وقال ليث عن مجاهد : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " اشهد يا أبا بكر " . فقال المشركون : سُحِر القمر حتى انشق {[27769]} .
اسمها بين السلف { سورة اقتربت الساعة } . ففي حديث أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الفطر والأضحى ، وبهذا الاسم عنون لها البخاري في كتاب التفسير .
وتسمى { سورة القمر } وبذلك ترجمها الترمذي . وتسمى { سورة اقتربت } حكاية لأول كلمة فيها .
وهي مكية كلها عند الجمهور ، وعن مقاتل : أنه استثنى منها قوله تعالى { أم يقولون نحن جميع منتصر } إلى قوله { وأمر } قال : نزل يوم بدر ولعل ذلك من أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية يوم بدر .
وهي السورة السابعة والثلاثون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة الطارق وقبل سورة ص .
وعدد آيها خمس وخمسون باتفاق أهل العدد .
وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك قال سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة فنزلت { اقتربت الساعة وانشق القمر } إلى قوله { سحر مستمر } .
وفي أسباب النزول للواحدي بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال : انشق القمر على عهد محمد صلى الله عليه وسلم فقالت قريش هذا سحر ابن أبي كبشة سحركم ، فسألوا السفار ، فقالوا نعم قد رأينا ، فأنزل الله عز وجل { اقتربت الساعة وانشق القمر } الآيات .
وكان نزولها في حدود سنة خمس قبل الهجرة ففي الصحيح أن عائشة قالت : أنزل على محمد بمكة وإني لجارية ألعب { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } .
وكانت عقد عليها في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين ، أي في أواخر سنة أربع قبل الهجرة بمكة ، وعائشة يومئذ بنت ست سنين ، وذكر بعض المفسرين أن انشقاق القمر كان سنة خمس قبل الهجرة وعن ابن عباس كان بين نزول آية { سيهزم الجمع ويلون الدبر } وبين بدر سبع سنين .
تسجيل مكابرة المشركين في الآيات المبينة ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن مكابرتهم .
وإنذارهم باقتراب القيامة وبما يلقونه حين البعث من الشدائد .
وتذكيرهم بما لقيته الأمم أمثالهم من عذاب الدنيا لتكذيبهم رسل الله وأنهم سيلقون مثل ما لقي أولئك إذ ليسوا خيرا من كفار الأمم الماضية .
وإنذارهم بقتال يهزمون به ، ثم لهم عذاب الآخرة وهو أشد .
وإعلامهم بإحاطة الله علما بأفعالهم وأنه مجازيهم شر الجزاء ومجاز المتقين خير الجزاء . وإثبات البعث ، ووصف بعض أحواله .
من عادة القرآن أن ينتهز الفرصة لإِعادة الموعظة والتذكير حين يتضاءل تعلق النفوس بالدنيا ، وتُفكّر فيما بعد الموت وتُعير آذانها لداعي الهدى . فتتهيأ لقبول الحق في مظانّ ذلك على تفاوت في استعدادها وكم كان مثل هذا الانتهاز سبباً في إيمان قلوب قاسية ، فإذا أظهر الله الآيات على يد رسوله صلى الله عليه وسلم لتأييد صدقه شفع ذلك بإعادة التذكير كما قال تعالى : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً } [ الإسراء : 59 ] .
وجمهورُ المفسرين على أن هذه الآية نزلت شاهدة على المشركين بظهور آية كبرى ومعجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وهي معجزة انشقاق القمر . ففي « صحيح البخاري » و « جامع الترمذي » عن أنس بن مالك قال : « سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر » . زاد الترمذي عنه « فانشق القمر بمكة فِرقتين ، فنزلت : { اقتربت الساعة وانشق القمر } إلى قوله : { سحر مستمر } [ القمر : 2 ] .
وفي رواية الترمذي عن ابن مسعود قال : « بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنَى فانشق القمر .
وظاهره أن ذلك في موسم الحج . وفي « سيرة الحلبي » كان ذلك ليلة أربع عشرة ( أي في آخر ليالي منى ليلة النفْر ) . وفيها « اجتمع المشركون بمنى وفيهم الوليد بن المغيرة ، وأبو جهل ، والعاصي بن وائل ، والعاصي بن هشام ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن عبد المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والنضر بن الحارث فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم إن كنتَ صادقاً فشُقّ لنا القمر فرقتين فانشق القمر » .
والعمدة في هذا التأويل على حديث عبد الله بن مسعود في « الصحيح » قال : " انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بِمنى فانشق فرقتين فرقةً فوق الجَبل وفرقة دونه فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا اشهَدوا " . زاد في رواية الترمذي عنه « يعني { اقتربت الساعة وانشق القمر } . قلت : وعن ابن عباس نصفٌ على أبي قُبيس ونصفٌ على قُعَيْقِعَان .
وروي مثله عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وحذيفةَ بن اليمان وأنس بن مالك وجبير بن مطعم ، وهؤلاء لم يشهدوا انشقاق القمر لأن من عدا علياً وابن عباس وابنَ عمر لم يكونوا بمكة ولم يسلموا إلا بعد الهجرة ولكنهم ما تكلموا إلا عن يقين .
وكثرة رواة هذا الخبر تدل على أنه كان خبراً مستفيضاً . وقال في « شرح المواقف » : هو متواتر . وفي عبارته تسامح لعدم توفر شرط التواتر . ومراده : أنه مستفيض .
وظاهر بعض الروايات لحديث ابن مسعود عند الترمذي أن الآية نزلت قبل حصول انشقاق القمر الواقع بمكة لمّا سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم آية أو سألوه انشقاق القمر فأراهم انشقاق القمر وإنما هو انشقاق يحصل عند حلول الساعة .
وروي هذا عن الحسن وعطاء وهو المعبر عنه بالخسوف في سورة القيامة ( 7 ، 8 ) { فإذا برق البصر وخسف القمر } الآية .
وهذا لا ينافي وقوع انشقاق القمر الذي سأله المشركون ولكنه غير المراد في هذه الآية لكنه مؤوّل بما في روايته عند غير الترمذي .
ولحديث أنس بن مالك أن الآية نزلت بعد انشقاق القمر .
وعلى جميع تلك الروايات فانشقاق القمر الذي هو معجزة حصل في الدنيا . وفي البخاري عن ابن مسعود أنه قال : « خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقَمر والدخان . وعن الحسن وعطاء أن انشقاق القمر يكون عند القيامة واختاره القشيري ، وروي عن البلخي . وقال الماوردي : هو قول الجمهور ، ولا يعرف ذلك للجمهور .
وخبر انشقاق القمر معدود في مباحث المعجزات من كتب « السيرة » و« دلائل النبوة » .
وليس لفظ هذه الآية صريحاً في وقوعه ولكن ظاهر الآية يقتضيه كما في « الشفاء » .
فإن كان نزول هذه الآية واقعاً بعد حصول الانشقاق كما اقتضاه حديث ابن مسعود في « جامع الترمذي » فتصدير السورة ب { اقتربت الساعة } للاهتمام بالموعظة كما قدمناه آنفاً إذ قد تقرر المقصود من تصديق المعجزة .
فجعلت تلك المعجزة وسيلة للتذكير باقتراب الساعة على طريقة الإِدماج بمناسبة أن القمر كائن من الكائنات السماوية ذات النظام المساير لنظام الجو الأرضي فلما حدث تغير في نظامه لم يكن مألوفاً ناسب تنبيه الناس للاعتبار بإمكان اضمحلال هذا العالم ، وكان فعل الماضي مستعملاً في حقيقته . وروي أن حذيفة بن اليمان قرأ { وقد انشق القمر } .
وإن كان نزولها قبل حصول الانشقاق كما اقتضاه حديث أنس بن مالك فهو إنذار باقتراب الساعة وانشقاق القمر الذي هو من أشراط الساعة ومع الإِيماء إلى أن الانشقاق سيكون معجزة لما يسأله المشركون . ويرجح هذا المحمل قوله تعالى عقبه : { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } [ القمر : 2 ] كما سيأتي هنالك .
وإذ قد حمل معظم السلف من المفسرين ومن خلفهم هذه الآية على أن انشقاق القمر حصل قبل نزولها أو بقرب نزولها فبنا أن نبين إمكان حصول هذا الانشقاق مسايرين للاحتمالات الناشئة عن روايات الخبر عن الانشقاق إبطالاً لجحد الملحدين ، وتقريباً لفهم المصدقين .
فيجوز أن يكون قد حدث خسف عظيم في كرة القمر أحدث في وجهه هوة لاحت للناظرين في صورة شقه إلى نصفين بينهما سواد حتى يخيل أنه منشق إلى قمرين ، فالتعبير عنه بالانشقاق مطابق للواقع لأن الهوة انشقاق وموافق لمرأى الناس لأنهم رأوه كأنه مشقوق .
ويجوز أن يكون قد حصل في الأفق بين سمت القمر وسمت الشمس مرور جسم سماوي من نحو بعض المذنبات حجب ضوء الشمس عن وجه القمر بمقدار ظل ذلك الجسم على نحو ما يسمى بالخسوف الجُزئيّ ، وليس في لفظ أحاديث أنس بن مالك عند مسلم والترمذي ، وابن مسعود وابن عباس عند البخاري ما يناكد هذا .
ومن الممكن أن يكون هذا الانشقاق حدثاً مركباً من خسوف نصفي في القمر على عادة الخسوف فحجب نصف القمر ، والقمر على سمت أحد الجبلين وقد حصل في الجو ساعتئذٍ سحاب مائي انعكس في بريق مائه صورة القمر مخسُوفاً بحيث يخاله الناظر نصفاً آخر من القمر دون كسوف طالعاً على جهة ذلك الجبل ، وهذا من غرائب حوادث الجوّ . وقد عُرفت حوادث من هذا القبيل بالنسبة لأشعة الشمس ، ويجوز أن يحدث مثلها بالنسبة لضوء القمر على أنه نادر جداً وقد ذكرنا ذلك عند قوله تعالى : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } في سورة الأعراف ( 171 ) .
ويؤيد هذا ما أخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله فقالوا : سحر القمر فنزلت { اقتربت الساعة } الآية فسماه ابن عباس كسوفاً تقريباً لنوعه .
وهذا الوجه لا ينافي كون الانشقاق معجزة لأن حصوله في وقت سؤالهم من النبي صلى الله عليه وسلم آيةً وإلهام الله إياهم أن يسألوا ذلك في حين تقدير الله كاف في كونه آيةً صدق . أو لأن الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتحدّاهم به قبلَ حصوله دليل على أنه مرسل من الله إذ لا قبل للرسول صلى الله عليه وسلم بمعرفة أوقات ظواهر التغيرات للكواكب . وبهذا الوجه يظهر اختصاص ظهور ذلك بمكة دون غيرها من العالم ، وإما على الوجه الأول فإنما لم يَشعُر به غيرُ أهل مكة من أهل الأرض لأنهم لم يكونوا متأهبين إليه إذ كان ذلك ليلاً وهو وقت غفلة أو نوم ولأن القمر ليس ظهوره في حد واحد لأهل الأرض فإن مواقيت طلوعه تختلف باختلاف البلدان في ساعات الليل والنهار وفي مسامتة السماء .
قال ابن كيسان : هو على التقديم والتأخير . وتقديره : انشق القمر واقتربت الساعة ، أي لأن الأصل في ترتيب الأخبار أن يجري على ترتيبها في الوقوع وإن كان العطف بالواو لا يقتضي ترتيباً في الوقوع .
{ وانشق } مطاوع شقه ، والشق : فرج وتفرّق بين أديم جسم مَّا بحيث لا تنفصل قطعة مجموع ذلك الجسم عن البقية ، ويُسمى أيضاً تصدعاً كما يقع في عُود أو جدار .
فإطلاق الانشقاق على حدوث هوة في سطح القمر إطلاق حقيقي وإطلاقه على انطماس بعض ضوئه استعارة ، وإطلاقه على تفرقة نصفين مجاز مرسل .
والاقتراب أصله صيغة مطاوعة ، أي قبول فعل الفاعل ، وهو هنا للمبالغة في القرب فإن حمل على حقيقة القرب فهو قرب اعتباري ، أي قرب حلول الساعة فيما يأتي من الزمان قرباً نسبياً بالنسبة لما مضى من الزمان ابتداء من خلق السماء والأرض على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم .
" بعثت أنا والساعةَ كهاتين " وأشار بسبابته والوسطى فإن تحديد المدة من وقت خلق العالم أو من وقت خلق الإِنسان أمر لا قبل للناس به وما يوجد في كتب اليهود مبنى على الحدس والتوهمات ، قال ابن عطية : « وكل ما يروى من التحديد في عُمر الدنيا فضعيف واهن » اهـ .
وفائدة هذا الاعتبار أن يقبل الناس على نبذ الشرك وعلى الاستكثار من الأعمال الصالحات واجتناب الآثام لقرب يوم الجزاء .
والساعة : علم بالغلبة على وقت فناء هذا العالم . ويجوز أن يراد بالساعة ساعة معهودة أنذروا بها في آيات كثيرة وهي ساعة استئصال المشركين بسيوف المسلمين .
وإن حمل القرب على المجاز ، أي الدلالة على الإمكان ، فالمعنى : اتضح للناس ما كانوا يجدونه محالاً من فناء العالم فإن لحصول المُثُل والنظائر إقناعاً بإمكان أمثالها التي هي أقوى منها .
وعطفُ { وانشق القمر } عطفُ جملة على جملة .
والخبر مستعمل في لازم معناه وهو الموعظة إن كانت الآية نزلت بعد انشقاق القمر كما تقدم لأن علمهم بذلك حاصل فليسوا بحاجة إلى إفادتهم حكم هذا الخبر وإنما هم بحاجة إلى التذكير بأن من أمارات حلول الساعة أن يقع خسف في القمر بما تكررت موعظتهم به كقوله تعالى : { فإذا برق البصر وخسف القمر } [ القيامة : 7 ، 8 ] الآية إذ ما يأمنهم أن يكون ما وقع من انشقاق القمر أمارة على اقتراب الساعة فما الانشقاق إلا نوع من الخسف فإن أشراط الساعة وعلاماتها غير محدودة الأزمنة في القرب والبعد من مشروطها .