184- وفرض الله عليكم الصيام في أيام معدودة قليلة لو شاء سبحانه لأطال مدته ولكنه لم يطلها ، ولم يكلفكم في الصوم ما لا تطيقون ، فمن كان مريضاً مرضاً يضر معه الصوم ، أو كان في سفر ، فله أن يفطر ويقضي الصوم بعد برئه من المرض أو رجوعه من السفر ، أما غير المريض والمسافر ممن لا يستطيع الصوم إلا بمشقة لعذر دائم كشيخوخة ومرض لا يرجى برؤه فله الفطر حينئذٍ ، وعليه أن يطعم مسكيناً لا يجد قوت يومه ، ومن صام متطوعاً زيادة على الفرض فهو خير له ، لأن الصيام خير دائماً لمن يعلم حقائق العبادات .
ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام ، أخبر أنه أيام معدودات ، أي : قليلة في غاية السهولة .
ثم سهل تسهيلا آخر . فقال : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وذلك للمشقة ، في الغالب ، رخص الله لهما ، في الفطر .
ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن ، أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض ، وانقضى السفر ، وحصلت الراحة .
وفي قوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ } فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان ، كاملا كان ، أو ناقصا ، وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة ، عن أيام طويلة حارة كالعكس .
وقوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يطيقون الصيام { فِدْيَةٌ } عن كل يوم يفطرونه { طَعَامُ مِسْكِينٍ } وهذا في ابتداء فرض الصيام ، لما كانوا غير معتادين للصيام ، وكان فرضه حتما ، فيه مشقة عليهم ، درجهم الرب الحكيم ، بأسهل طريق ، وخيَّر المطيق للصوم بين أن يصوم ، وهو أفضل ، أو يطعم ، ولهذا قال : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }
ثم بعد ذلك ، جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق ، يفطر ويقضيه في أيام أخر [ وقيل : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يتكلفونه ، ويشق عليهم مشقة غير محتملة ، كالشيخ الكبير ، فدية عن كل يوم مسكين{[123]} وهذا هو الصحيح ]{[124]} .
ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، فقال : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أي : المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر ؛ لما في ذلك من المشقة عليهما ، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر . وأما الصحيح المقيم الذي يُطيق الصيام ، فقد كان مخيَّرًا بين الصيام وبين الإطعام ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ، وأطعم عن كل يوم مسكينا ، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم ، فهو خير ، وإن صام فهو أفضل من الإطعام ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم من السلف ؛ ولهذا قال تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا المسعودي ، حدثنا عمرو بن مُرّة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال ؛ فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، وهو يصلي{[9]} سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ، ثم إن الله عز وجل أنزل عليه : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [ البقرة : 144 ] فوجهَهُ اللهُ إلى مكة . هذا حول .
قال : وكانوا يجتمعون للصلاة ويُؤْذِنُ بها بعضهم بعضا حتى نَقَسُوا أو كادوا يَنْقُسُون . ثم إنّ رجلا من الأنصار ، يقال له : عبد الله بن زيد ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني رأيت فيما يرى النائم - ولو قلتُ : إني لم أكن نائمًا لصدقتُ - أني {[10]}بينا أنا بين النائم واليقظان إذْ رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران ، فاستقبل القبلة ، فقال : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله - مثنى حتى فرغ من الأذان ، ثم أمهل ساعة ، ثم قال مثل الذي قال ، غير أنه يزيد في ذلك : قد قامت الصلاة - مرتين - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علمها بلالا فَلْيؤذن بها " . فكان بلال أول من أذن بها . قال : وجاء عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، [ إنه ]{[11]} قد طاف بي مثل الذي طاف به ، غير أنه سبقني ، فهذان حالان{[12]} .
قال : وكانوا يأتون الصلاة - قد سبقهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ببعضها ، فكان الرجل يشير إلى الرجل إذًا كم صلى ، فيقول : واحدة أو اثنتين ، فيصليهما ، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم . قال : فجاء معاذ فقال : لا أجده على حال أبدًا إلا كنتُ عليها ، ثم قضيتُ ما سبقني . قال : فجاء وقد سَبَقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها ، قال : فثَبَتَ معه ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه قَد سن لكم مُعَاذ ، فهكذا فاصنعوا " . فهذه ثلاثة أحوال{[13]} .
وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، فجعل يصومُ من كل شهر ثلاثة أيام ، وصام عاشوراء ، ثم إن الله فرض عليه الصيام ، وأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } إلى قوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان مَنْ شاء صام ، ومن شاء أطعم مسكينًا ، فأجزأ ذلك عنه . ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } إلى قوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فأثبت اللهُ صيامَه على المقيم الصحيح{[14]} ورخَّصَ فيه للمريض والمسافر ، وثبت الإطعامُ للكبير{[15]} الذي لا يستطيع الصيام ، فهذان حالان{[16]} .
قال : وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا امتنعوا ، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له : صرمة ، كان يعمل صائمًا حتى أمسى ، فجاء إلى أهله فصلى العشاء ، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب ، حتى أصبح فأصبح صائما ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدًا شديدًا ، فقال : ما لي أراك قد جَهِدْت جهدًا شديدا ؟ قال : يا رسول الله ، إني عملت أمس فجئتُ حين جئتُ فألقيتُ نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائمًا . قال : وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأنزل الله عز وجل : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
وأخرجه أبو داود في سننه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث المسعودي ، به{[17]} .
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت : كان عاشوراء يصام ، فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر{[18]} . وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود ، مثله{[19]} .
وقوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كما قال معاذ : كان{[20]} في ابتداء الأمر : من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا . وهكذا روى البخاري عن سَلَمة بن الأكوع أنه قال : لما نزلت : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يُفْطر يفتدي ، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها{[21]} .
وروي أيضًا من حديث عبيد الله{[22]} عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : هي منسوخة .
وقال السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : لما نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قال : يقول : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يتجشمونه ، قال عبد الله : فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا { فَمَنْ تَطَوَّعَ } قال : يقول : أطعم مسكينا آخر { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فكانوا كذلك حتى نسختها : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
وقال البخاري أيضًا : حدثنا إسحاق ، أخبرنا روح ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، حدثنا عَمْرو بن دينار ، عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ : " وعلى الذين يُطَوَّقُونه فدية طعام مسكين " . قال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما ، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا{[23]} .
وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، نحوه .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عبد الرحيم ، عن أشعث بن سوار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [ قال ]{[24]} نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف ، فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينًا .
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا الحسين بن محمد بن بِهْرام المحرمي ، حدثنا وهب بن بَقِيَّة ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن ابن أبي ليلى ، قال : دخلت على عطاء في رمضان ، وهو يأكل ، فقال : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا ، ثم نزلت هذه الآية فنسخت الأولى ، إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينًا وأفطر . فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه ، بقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وأما الشيخ الفاني [ الهرم ] {[25]}الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه ، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ، ولكن هل يجب عليه [ إذا أفطر ]{[26]} أن يطعم عن{[27]} كل يوم مسكينًا إذا كان ذا جِدة ؟ فيه قولان للعلماء ، أحدهما : لا يجب عليه إطعام ؛ لأنه ضعيف عنه لسنّه ، فلم يجب عليه فدية كالصبي ؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها ، وهو أحد قولي الشافعي . والثاني - وهو الصحيح ، وعليه أكثر العلماء - : أنه يجب عليه فدية عن كل يوم ، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يتجشمونه ، كما قاله ابن مسعود وغيره ، وهو اختيار البخاري فإنه قال : وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام ، فقد أطعم أنس - بعد أن{[28]} كبر عامًا أو عامين - كل يوم مسكينًا خبزًا ولحما ، وأفطر{[29]} .
وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ، فقال : حدثنا عُبَيد الله بن مُعَاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا عمران ، عن أيوب بن أبي تميمة{[30]} قال : ضعف أنس [ بن مالك ]{[31]} عن الصوم ، فصنع جفنة من ثريد ، فدعا ثلاثيِن مسكينًا فأطعمهم{[32]} .
ورواه عبد بن حميد ، عن روح بن عبادة ، عن عمران - وهو ابن حُدَير{[33]} - عن أيوب ، به .
ورواه عبد أيضًا ، من حديث ستة من أصحاب أنس ، عن أنس - بمعناه .
ومما يلتحق بهذا المعنى : الحامل والمرضع ، إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ، ففيهما خلاف كثير بين العلماء ، فمنهم من قال : يفطران ويفديان ويقضيان . وقيل : يفديان فقط ، ولا قضاء . وقيل : يجب القضاء بلا فدية . وقيل : يفطران ، ولا فدية ولا قضاء . وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه{[34]} . ولله الحمد والمنة .
{ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }( 184 )
و { أياماً } مفعول ثان ب { كتبَ } ، قاله الفراء ، وقيل : هي نصب على الظرف ، وقيل : نصبها ب { الصيام } ، وهذا لا يحسن إلا على أن يعمل الصيام في الكاف من { كما } على قول من قدر : صوما كما ، وإذا لم يعمل في الكاف قبح الفصل بين المصدر وبين ما عمل فيه بما عمل فيه غيره ، وذلك إذا كان العامل في الكاف { كتب } ، وجوز بعضهم أن يكون { أياماً } ظرفاً يعمل فيه { الصيام } ، و { معدودات }( {[1668]} ) ، قيل : رمضان : وقيل : الثلاثة الأيام( {[1669]} ) .
وقوله تعالى { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر } ، التقدير : فأفطر { فعدة من أيام أخر } ، وهذا يسمونه فحوى الخطاب( {[1670]} ) .
واختلف العلماء في حد المرض الذي يقع به الفطر : فقال قوم : متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المريض صح الفطر قياساً على المسافر أنه يفطر لعلة السفر وإن لم تدعه إلى الفطر ضرورة ، قاله ابن سيرين .
وقال جمهور من العلماء : إذا كان به مرض يؤذيه ويؤلمه أو يخاف تماديه أو يخاف من الصوم تزيده صح( {[1671]} ) له الفطر ، وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك رحمه الله ، وبه يناظرون ، وأما لفظ مالك فهو : المرض الذي يشق على المرء ويتبلغ( {[1672]} ) به .
وقال الحسن : «إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائماً أفطر » .
وقالت فرقة : لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه الفطر ، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر ، وهذا قول الشافعي رحمه الله .
واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر ، فقال قوم والشافعي ومالك في بعض ما روي عنه : الصوم أفضل لمن قوي ، وجل مذهب مالك التخيير .
وقال ابن عباس وابن عمر وغيرهما : الفطر أفضل .
وقال مجاهد وعمر بن العزيز وغيرهما : أيسرهما أفضلهما ، وكره ابن حنبل وغيره الصوم في السفر .
وقال ابن عمر : من صام في السفر قضى في الحضر ، وهو مذهب عمر رضي الله عنه( {[1673]} ) ، ومذهب مالك في استحبابه الصوم لمن قدر عليه . وتقصير الصلاة حسن ، لأن الذمة تبرأ في رخصة الصلاة وهي مشغولة في أمر الصيام ، والصواب المبادرة بالأعمال( {[1674]} ) . وقال ابن عباس رضي الله عنه : «الفطر في السفر عزمة » ، وذهب أنس بن مالك إلى الصوم ، وقال : إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع ، ونغدو إلى جوع ، والسفر سفر الطاعة كالحج والجهاد بإجماع ، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري . وأما سفر التجارة والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز والقول بالجواز أرجح وأما سفر المعاصي فمختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح ، ومسافة سفر الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة ، واختلف في قدر ذلك ، فقال مالك : يوم وليلة( {[1675]} ) ثم رجع فقال : ثمانية وأربعون ميلاً ، وروي عنه : يومان ، وروي عنه في العتبية : خمسة وأربعون ميلاً ، وفي المبسوط : أربعون ميلاً ، وفي المذهب : ستة وثلاثون ميلاً ، وفيه : ثلاثون .
وقال ابن عمر وابن عباس والثوري : الفطر في سفر ثلاثة أيام ، وفي غير المذهب : يقصر في ثلاثة أميال فصاعداً .
وقوله تعالى : { فعدة } مرفوع على خبر الابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب عدة ، ويصح أن يرتفع على ابتداء والخبر بعده والتقدير فعدة أمثل له ، ويصح فعليه عدة ، واختلف في وجوب تتابعها على قولين( {[1676]} ) ، و { أخر } لا ينصرف عند سيبويه لأنه معدول عن الألف واللام لأن هذا البناء إنما يأتي بالألف واللام كما تقول الفضل والكبر فاجتمع فيه العدل والصفة ، وجاء في الآية { أخر } ولم يجىء أخرى لئلا تشكل بأنها صفة للعدة ، والباب أن جمع ما لا يعقل يجري في مثل هذا مجرى الواحدة المؤنثة( {[1677]} ) ومنه قوله تعالى :{ يا جبال أوبي معه }( {[1678]} ) [ سبأ : 10 ] ، إلى غير ذلك .
وقرأ جمهور الناس «يطيقونه » بكسر الطاء وسكون الياء والأصل «يطوقونه » نقلت حركة الواو إلى الطاء وقلبت ياء لانكسار ما قبلها ، وقرأ حميد «يطوقونه » وذلك على الأصل ، والقياس الإعلال .
وقرأ ابن عباس «يطوقونه » بمعنى يكلفونه .
وقرأت عائشة وطاوس وعمرو بن دينار «يَطَّوقونه » بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة .
وقرأت فرقة «يُطَيَّقونه » بضم الياء وشد الطاء وشد الياء المفتوحة بمعنى يتكلفونه ، وحكاها النقاش( {[1679]} ) عن عكرمة ، وتشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف( {[1680]} ) .
وقرأ نافع وابن عامر من طريق ابن ذكوان «فديةُ طعام مساكين » بإضافة الفدية .
وقرأ هاشم عن ابن عامر «فديةٌ طعام مساكين » بتنوين الفدية .
وقرأ الباقون «فديةٌ » بالتنوين «طعام مسكين » بالإفراد ، وهي قراءة حسنة لأنها بينت الحكم في اليوم ، وجمع( {[1681]} ) المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية .
قال أبو علي : «فإن قلت كيف أفردوا المساكين والمعنى على الكثرة لأن الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين ، فكان الوجه أن يجمعوا كما جمع المطيقون ؟ ، فالجواب أن الإفراد حسن لأنه يفهم بالمعنى أن لكل مسكيناً( {[1682]} ) ، ونظير هذا قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة }( {[1683]} ) [ النور : 4 ] فليست الثمانون متفرقة في جميعهم بل لكل واحد ثمانون .
واختلف المتأولون في المراد بالآية( {[1684]} ) فقال معاذ بن جبل وعلقمة والنخعي والحسن البصري وابن عمر والشعبي وسلمة بن الأكوع وابن شهاب : كان فرض الصيام هكذا على الناس من أراد صام ومن أراد أطعم مسكيناً وأفطر ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] .
وقالت فرقة : و { على الذين يطيقونه }( {[1685]} ) أي على الشيوخ والعجّز ، الذين يطيقون ، لكن بتكلف شديد فأباح الله لهم الفدية والفطر ، وهي محكمة عند قائلي هذا القول . وعلى هذا التأويل تجيء قراءة { يطوقونه } و " يطوقونه " .
وقال ابن عباس : نزلت هذه الرخصة للشيوخ والعجّز خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم ثم نسخت بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] ، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم .
وقال السدي : { وعلى الذين يطيقونه } أي على الذين كانوا يطيقونه وهم بحالة الشباب ثم استحالوا بالشَّيَخ فلا يستطيعون الصوم . وهي عنده محكمة ، ويلزم الشيوخ عنده الفدية إذا أفطروا ، ونحوه عن ابن عباس .
وقال مالك : «لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة ، وتستحب لمن قدر عليها » ، والآية عنده إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من المتقدم فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم فتكره فعليه الفدية( {[1686]} ) .
وقال الشافعي وأبو حنيفة : على الشيخ العاجز الإطعام .
وحكى الطبري عن عكرمة أنه كان يقرؤها «وعلى الذين يَطَّيَّقونه » فأفطر ، ومذهب مالك رحمه الله وجماعة من العلماء أن قدر الدية مد لكل مسكين .
وقال قوم : قوت يوم : وقال قوم : عشاء وسحور .
وقال سفيان الثوري : نصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو زبيب ، والضمير في { يطيقونه }( {[1687]} ) عائد على { الصيام } ، وقيل على الطعام وهو قول ضعيف .
واختلف في الحامل فقال ابن عمر وابن عباس : تفدي وتفطر ولا قضاء عليها .
وقال الحسن وعطاء والضحاك والزهري وربيعة ومالك : تقضي الحامل إذا أفطرت ولا فدية عليها .
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل ومجاهد : تقضي وتفدي إذا أفطرت ، وكذلك قال مالك في المرضع إنها إذا أفطرت تقضي وتفدي ، هذا هو المشهور عنه ، وقال في مختصر ابن عبد الحكم : لا إطعام على المرضع .
وقوله تعالى : { فمن تطوع خيراً فهو خير له } الآية ، قال ابن عباس وطاوس عطاء والسدي : المراد من أطعم مسكينين فصاعداً( {[1688]} ) .
وقال ابن شهاب : «من زاد الإطعام على الصوم » وقال مجاهد : «من زاد في الإطعام على المد » ، و { خير } الثاني صفة تفضيل ، وكذلك الثالث ، و { خير } الأول قد نزل منزلة مالاً أو نفعاً ، وقرأ أبيّ بن كعب «والصوم خير لكم » بدل { وأن تصوموا } .
وقوله تعالى : { إن كنتم تعلمون } يقتضي الحض على الصوم أي فاعلموا ذلك وصوموا .