{ ثُمَّ } بعد أن خلق الأرض { اسْتَوَى } أي : قصد { إِلَى } خلق { السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } قد ثار على وجه الماء ، { فَقَالَ لَهَا } ولما كان هذا التخصيص يوهم الاختصاص ، عطف عليه بقوله : { وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } أي : انقادا لأمري ، طائعتين أو مكرهتين ، فلا بد من نفوذه . { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ليس لنا إرادة تخالف إرادتك .
وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } ، وهو : بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض ،
{ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } أي : استجيبا لأمري ، وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين .
قال الثوري ، عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله [ تعالى ]{[25638]} { فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } قال : قال الله تعالى للسموات : أطلعي شمسي وقمري ونجومي . وقال للأرض : شققي أنهارك ، وأخرجي ثمارك . فقالتا : { أَتَيْنَا طَائِعِينَ }
واختاره ابن جرير - رحمه الله .
{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أي : بل نستجيب لك مطيعين بما فينا ، مما تريد خلقه من الملائكة والإنس والجن جميعا مطيعين {[25639]} لك . حكاه ابن جرير عن بعض أهل العربية قال : وقيل : تنزيلا لهن معاملة من يعقل بكلامهما .
وقيل {[25640]} إن المتكلم من الأرض بذلك هو مكان الكعبة ، ومن السماء ما يسامته منها ، والله أعلم .
وقال الحسن البصري : لو أبيا عليه أمره لعذبهما عذابا يجدان ألمه . رواه ابن أبي حاتم .
{ ثم استوى إلى السماء } قصد نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلوي على غيره ، والظاهر أن ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في المدة لقوله : { والأرض بعد ذلك دحاها } ودحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها . { وهي دخان } أمر ظلماني ، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي كتب منها { فقال لها وللأرض ائتيا } بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وأبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة . أو { ائتيا } في الوجود على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب للرتبة ، أو الإخبار أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة ، وقد عرفت ما فيه أو لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما ويؤيده قراءة " آتيا " في المؤاتاة أي لتوافق كل واحدة أختها فيما أردت منكما . { طوعا أو كرها } شئتما ذلك أو أبيتما والمراد إظهار كمال قدرته ووجوب وقوع مراده لا إثبات الطوع والكره لهما ، وهما مصدران وقعا موقع الحال . { قالتا أتينا طائعين } منقادين بالذات ، والأظهر أن المراد تصوير تأثير قدرته فيهما وتأثرهما بالذات عنها ، وتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة المطيع الطائع كقوله : { كن فيكون } وما قيل من أنه تعالى خاطبهما وأقدرهما على الجواب إنما يتصور على الوجه الأول والأخير ، وإنما قال طائعين على المعنى باعتبار كونهما مخاطبتين كقوله : { ساجدين } .
{ استوى إلى السماء } معناه بقدرته واختراعه أي إلى خلق السماء وإيجادها .
وقوله تعالى : { وهي دخان } روي أنها كانت جسماً رخواً كالدخان أو البخار ، وروي أنه مما أمره الله أن يصعد من الماء ، وهنا لفظ متروك ويدل عليه الظاهر ، وتقديره : فأوجدها وأتقنها وأكمل أمرها ، وحينئذ قيل لها وللأرض { ائتيا طوعاً أو كرهاً } .
وقرأ الجمهور : «إيتيا » من أتى يأتي «قالتا أتينا » على وزن فعلنا ، وذلك بمعنى إيتيا وإرادتي فيكما ، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد : «آيتيا »{[10044]} من آتى يؤتى «قالتا آتينا » على وزن أفعلنا{[10045]} ، وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما ، والإشارة بهذا كله إلى تسخيره وما قدره الله من أعمالها .
وقوله : { أو كرهاً } فيه محذوف ومقتضب ، والتقدير : { ائتيا طوعاً } وإلا أتيتما { كرهاً } . وقوله : { قالتا } أراد الفرقتين المذكورتين ، وجعل السماوات سماء والأرضين أرضاً ، ونحو هذا قول الشاعر : [ الوافر ]
ألم يحزنك أن حبال قومي . . . وقومك قد تباينتا انقطاعا{[10046]}
جعلها فرقتين ، وعبر عنها ب { ائتيا } .
وقوله : { طائعين } لما كانت ممن يقول وهي حالة عقل جرى الضمير في { طائعين } ذلك المجرى ، وهذا كقوله : { رأيتهم لي ساجدين }{[10047]} ونحوه .
واختلف الناس في هذه المقالة من السماء والأرض ، فقالت فرقة : نطقت حقيقة ، وجعل الله تعالى لها حياة وإدراكاً يقتضي نطقها . وقالت فرقة : هذا مجاز ، وإنما المعنى أنها ظهر منها من اختيار الطاعة والخضوع والتذلل ما هو بمنزلة القول { أتينا طائعين } والقول الأول أحسن ، لأنه لا شيء يدفعه وإنما العبرة به أتم والقدرة فيه أظهر .