{ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ } من الأقدار { وَيُثْبِتُ } ما يشاء منها ، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير لأن ذلك محال على الله ، أن يقع في علمه نقص أو خلل ولهذا قال : { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } أي : اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء ، فهو أصلها ، وهي فروع له وشعب .
فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب ، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة ، ويجعل الله لثبوتها أسبابا ولمحوها أسبابا ، لا تتعدى تلك الأسباب ، ما رسم في اللوح المحفوظ ، كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق ، وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر ، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا للسلامة ، وجعل التعرض لذلك سببا للعطب ، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته ، وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ .
وقوله : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } اختلف المفسرون في ذلك ، فقال الثوري ، ووَكِيع ، وهُشَيْم ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : يدبر أمر السنة ، فيمحو ما يشاء ، إلا الشقاء والسعادة ، والحياة والموت . وفي رواية : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } قال : كل شيء إلا الحياة والموت ، والشقاء والسعادة فإنهما قد فرغ منهما .
وقال مجاهد : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } إلا الحياة والموت ، والشقاء والسعادة ، فإنهما لا يتغيران .
وقال منصور : سألت مجاهدا فقلت : أرأيت دعاء أحدنا يقول : اللهم ، إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم ، وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم واجعله في السعداء . فقال : حسن . ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر ، فسألته عن ذلك ، فقال : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [ الدخان : 3 ، 4 ] قال : يقضي في ليلة القدر ما يكون في السَّنة من رزق أو مصيبة ، ثم يقدم ما{[15702]} يشاء ويؤخر ما{[15703]} يشاء ، فأما كتاب الشقاوة{[15704]} والسعادة فهو ثابت لا يُغير{[15705]} .
وقال الأعمش ، عن أبي وائل شَقِيق بن سلمة : إنه كان يكثر أن يدعو بهذا الدعاء : اللهم ، إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه ، واكتبنا سعداء ، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب . رواه ابن جرير{[15706]} .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن أبي حكيمة{[15707]} عصمة ، عن أبي عثمان النَّهْدي ؛ أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال وهو يطوف بالبيت وهو يبكي : اللهم ، إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبًا فامحه ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أم الكتاب ، فاجعله سعادة ومغفرة . {[15708]}
وقال حماد عن خالد الحذَّاء ، عن أبي قلابة عن ابن مسعود أنه كان يدعو بهذا الدعاء أيضا .
ورواه شريك ، عن هلال بن حميد ، عن عبد الله بن عُكَيْم ، عن ابن مسعود ، بمثله .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا حجاج ، حدثنا خصاف ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ؛ أن كعبا قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ، لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة . قال : وما هي ؟ قال : قول الله تعالى : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } {[15709]} .
ومعنى هذه الأقوال : أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ، ويثبت منها ما يشاء ، وقد يستأنس لهذا القول{[15710]}بما رواه الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، وهو الثوري ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الله بن أبي الجَعْد ، عن ثَوْبَان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يُصِيبه ، ولا يرد القَدَر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر " .
ورواه النسائي وابن ماجه ، من حديث سفيان الثوري ، به{[15711]} .
وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر{[15712]} وفي الحديث الآخر : " إن الدعاء والقضاء ليعتلجان{[15713]} بين السماء والأرض " {[15714]} .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام ، من درة بيضاء لها دَفَّتَان من ياقوت - والدفتان : لوحان - لله ، عز وجل [ كل يوم ثلاثمائة ]{[15715]} وستون لحظة ، يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب . {[15716]} وقال الليث بن سعد ، عن زياد بن محمد ، عن محمد بن كعب القُرظي ، عن فُضَالة بن عُبَيد ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " [ إن الله ]{[15717]} يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل ، في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت " . وذكر تمام الحديث . رواه ابن جرير . {[15718]} وقال الكلبي : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } قال : يمحو من الرزق ويزيد فيه ، ويمحو من الأجل ويزيد فيه . فقيل له : من حدثك بهذا ؟ فقال : أبو صالح ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم سئل بعد ذلك عن هذه الآية فقال : يكتب القول كله ، حتى إذا كان يوم الخميس ، طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب ، مثل قولك : أكلت وشربت ، دخلت وخرجت ونحوه من الكلام ، وهو صادق ، ويثبت ما كان فيه الثواب ، وعليه العقاب . {[15719]} وقال عِكْرِمة ، عن ابن عباس : الكتاب كتابان : فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } يقول : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة ، فهو الذي يمحو - والذي يثبت : الرجل يعمل بمعصية الله ، وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله ، وهو الذي يثبت .
وروي عن سعيد بن جُبَير : أنها بمعنى : { فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 284 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } يقول : يبدل ما يشاء فينسخه ، ويثبت ما يشاء فلا يبدله ، { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } يقول : وجملة ذلك عنده في أم الكتاب ، الناسخ ، والمنسوخ ، وما يبدل ، وما يثبت كل ذلك في كتاب .
وقال قتادة في قوله : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } كقوله { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ]
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } قال : قالت كفار قريش حين أنزلت : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } ما نراك يا محمد تملك من شيء ، ولقد فُرغ من الأمر . فأنزلت هذه الآية تخويفا ، ووعيدًا لهم : إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا ، ونحدث في كل رمضان ، فنمحو ونثبت{[15720]} ما نشاء من أرزاق الناس ومصائبهم ، وما نعطيهم ، وما نقسم لهم .
وقال الحسن البصري : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ } قال : من جاء أجله ، فَذَهَب ، ويثبت الذي هو حيّ يجري إلى أجله .
وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله .
وقوله : { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } قال : الحلال والحرام .
وقال قتادة : أي جملة الكتاب وأصله .
وقال الضحاك : { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } قال : كتاب عند رب العالمين .
وقال سُنَيد بن داود ، حدثني معتمر ، عن أبيه ، عن سَيَّار ، عن ابن عباس ؛ أنه سأل كعبًا عن " أم الكتاب " ، فقال : عَلِم الله ، ما هو خالق ، وما خَلْقُه عاملون ، ثم قال{[15721]} لعلمه : " كن كتابا " . فكانا{[15722]} كتابا .
وقال ابن جرير ، عن ابن عباس : { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } قال : الذكر ، [ والله أعلم ] . {[15723]}
{ يمحو الله ما يشاء } ينسخ ما يستصوب نسخة . { ويُثبت } ما تقتضيه حكمته . وقيل يمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها . وقيل يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلق به جزاء ويترك غيره مثبتا أو يثبت ما رآه وحده في صميم قلبه . وقيل يمحو قرنا و يثبت آخرين . وقيل يمحو الفاسدات ويثبت الكائنات . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي " ويُثَّبتُ " بالتشديد . { وعنده أمّ الكتاب } أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه .