26- يا بني آدم : قد أنعمنا عليكم ، فخلقنا لكم ملابس تستر عوراتكم ، ومواد تتزينون بها ، ولكن الطاعة خير لباس يقيكم العذاب . تلك النعم من الآيات الدالة على قدرة الله وعلى رحمته ، ليتذكر الناس بها عظمته واستحقاقه وحده الألوهية . وتلك القصة من سنن الله الكونية التي تبين جزاء مخالفة أمر الله ، فيتذكر بها الناس ويحرصون على طاعة الله وعلى شكر نعمه .
ثم امتن عليهم بما يسر لهم من اللباس الضروري ، واللباس الذي المقصود منه الجمال ، وهكذا سائر الأشياء ، كالطعام والشراب والمراكب ، والمناكح ونحوها ، قد يسر اللّه للعباد ضروريها ، ومكمل ذلك ، و[ بين لهم ]{[310]} أن هذا ليس مقصودا بالذات ، وإنما أنزله اللّه ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته ، ولهذا قال : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } من اللباس الحسي ، فإن لباس التقوى يستمر مع العبد ، ولا يبلى ولا يبيد ، وهو جمال القلب والروح .
وأما اللباس الظاهري ، فغايته أن يستر العورة الظاهرة ، في وقت من الأوقات ، أو يكون جمالا للإنسان ، وليس وراء ذلك منه نفع .
وأيضا ، فبتقدير عدم هذا اللباس ، تنكشف عورته الظاهرة ، التي لا يضره كشفها ، مع الضرورة ، وأما بتقدير عدم لباس التقوى ، فإنها تنكشف عورته الباطنة ، وينال الخزي والفضيحة .
وقوله : { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : ذلك المذكور لكم من اللباس ، مما تذكرون به ما ينفعكم ويضركم وتشبهون{[311]} باللباس الظاهر على الباطن .
يمتن تبارك وتعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش فاللباس{[11631]} المذكور هاهنا لستر العورات - وهي السوآت{[11632]} والرياش والريش : هو ما يتجمل به ظاهرًا ، فالأول من الضروريات ، والريش من التكملات والزيادات .
قال ابن جرير : " الرياش " في كلام العرب : الأثاث ، وما ظهر من الثياب .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس - وحكاه البخاري - عنه : الرياش : المال . وكذا قال مجاهد ، وعُرْوَة بن الزبير ، والسُّدِّي والضحاك{[11633]}
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : " الرياش " اللباس ، والعيش ، والنعيم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : " الرياش " : الجمال .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا أصْبَغُ ، عن أبي العلاء الشامي قال : لبس أبو أمامة ثوبًا جديدًا ، فلما بلغ تَرْقُوَتَه قال : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي . ثم قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استجد ثوبًا فلبسه{[11634]} فقال حين يبلغ ترقوته : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي{[11635]} ثم عمد إلى الثوب الذي خَلُقَ أو : ألقى فتصدق به ، كان في ذمة الله ، وفي جوار الله ، وفي كنف الله حيا وميتا ، [ حيا وميتا ، حيا وميتا ] " {[11636]} .
ورواه الترمذي ، وابن ماجه ، من رواية يزيد بن هارون ، عن أصبغ - هو ابن زيد الجهني{[11637]} - وقد وثقه يحيى بن مَعِين وغيره ، وشيخه " أبو العلاء الشامي " لا يعرف إلا بهذا الحديث ، ولكن لم يخرجه أحد ، والله أعلم .
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا مختار بن نافع التمار ، عن أبي مطر ؛ أنه رأى عليا ، رضي الله عنه ، أتى غلامًا حدثًا ، فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم ، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين ، يقول ولبسه : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي . فقيل : هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكسوة : " الحمد لله الذي رزقني{[11638]} من الرياش{[11639]} ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي " {[11640]}
وقوله تعالى : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } قرأ بعضهم : " ولباسَ التقوى " ، بالنصب . وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء ، { ذَلِكَ خَيْرٌ } خبره .
واختلف المفسرون في معناه ، فقال عكرمة : يقال : هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة . رواه ابن أبي حاتم .
وقال زيد بن علي ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وابن جُريْج : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } الإيمان .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس [ رضي الله عنه : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } ]{[11641]} العمل الصالح .
وقال زياد{[11642]} بن عمرو ، عن ابن عباس : هو السمت الحسن في الوجه .
وعن عُرْوَة بن الزبير : { لِبَاسُ التَّقْوَى } خشية الله .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { لِبَاسُ التَّقْوَى } يتقي الله ، فيواري عورته ، فذاك لباس التقوى .
وكل هذه متقاربة ، ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير حيث قال :
حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق بن الحجاج ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن سليمان بن أرقم ، عن الحسن قال : رأيت عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قُوهي محلول الزرّ ، وسمعته يأمر بقتل الكلاب ، وينهى عن اللعب بالحمام . ثم قال : يا أيها الناس ، اتقوا الله في هذه السرائر ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " والذي نفس محمد بيده ، ما عمل أحد قط سرا إلا ألبسه الله رداء علانية ، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر " . ثم تلا هذه الآية : " ورياشًا " ولم يقرأ : وريشًا - { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } قال : " السمت الحسن " .
هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم{[11643]} وفيه ضعف . وقد روى الأئمة : الشافعي ، وأحمد ، والبخاري في كتاب " الأدب " من طرق صحيحة ، عن الحسن البصري ؛ أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام ، يوم الجمعة على المنبر .
وأما المرفوع منه{[11644]} فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له شاهدًا{[11645]} من وجه آخر ، حيث قال : حدثنا . . . . {[11646]}
{ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا } أي خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة ، ونظيره قوله تعالى : { وأنزل لكم من الأنعام } وقوله تعالى : { وأنزلنا الحديد } . { يواري سوآتكم } التي قصد الشيطان إبداءها ، ويغنيكم عن خصف الورق . روي : أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها ، فنزلت . ولعله ذكر قصة آدم مقدمة لذلك حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان ، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم . { وريشا } ولباسا تتجملون به ، والريش الجمال . وقيل مالا ومنه تريش الرجل إذا تمول . وقرئ " رياشا " وهو جمع ريش كشعب وشعاب . { ولباس التقوى } خشية الله . وقيل الإيمان . وقيل السمت الحسن . وقيل لباس الحرب ورفعه بالابتداء وخبره : { ذلك خير } أو خبر وذلك صفته كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير . وقرأ نافع وابن عامر والكسائي { ولباس التقوى } بالنصب عطفا على { لباسا } . { ذلك } أي إنزال اللباس . { من آيات الله } الدالة على فضله ورحمته . { لعلهم يذكّرون } فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح .