ثم قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم " أحد " وما الذي أوجب لهم الفرار ، وأنه من تسويل الشيطان ، وأنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم . فهم الذين أدخلوه على أنفسهم ، ومكنوه بما فعلوا من المعاصي ، لأنها مركبه ومدخله ، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان .
قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ثم أخبر أنه عفا عنهم بعدما فعلوا ما يوجب المؤاخذة ، وإلا فلو واخذهم لاستأصلهم .
{ إن الله غفور } للمذنبين الخطائين بما يوفقهم له من التوبة والاستغفار ، والمصائب المكفرة ، { حليم } لا يعاجل من عصاه ، بل يستأني به ، ويدعوه إلى الإنابة إليه ، والإقبال عليه .
ثم إن تاب وأناب قبل منه ، وصيره كأنه لم يجر منه ذنب ، ولم يصدر منه عيب ، فلله الحمد على إحسانه .
ثم قال{[5968]} { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } أي : ببعض ذنوبهم السالفة ، كما قال بعض السلف : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، وإن من جَزَاء السيئةَ السيئة بعدها{[5969]} .
ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } أي : عَمّا كان منهم من الفرار { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : يغفر الذنب ويحلُم عن خلقه ، ويتجاوز عنهم ، وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان ، رضي الله عنه ، وتوليه يوم أحد ، وأن الله [ قد ]{[5970]} عفا عنهم ، عند قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } ومناسب ذكره هاهنا .
قال{[5971]} الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عَمْرو ، حدثنا زائدة ، عن عاصم ، عن شقيق ، قال : لقي عبدُ الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة{[5972]} فقال له الوليد : ما لي أراك جفوتَ أمير المؤمنين عثمانَ ؟ فقال له عبد الرحمن : أبلغه أني لم أفر يوم عَيْنَيْن{[5973]} - قال عاصم : يقول يوم أحد - ولم أتخلف عن بدر ، ولم أترك سُنة عمر . قال : فانطلق فَخَبر ذلك عثمان ، قال : فقال : أما قوله : إني لم أفر يوم عَيْنَيْن{[5974]} فكيف يعَيرني بذَنْب قد{[5975]} عفا الله عنه ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } وأما قولُهُ : إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقَيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت ، وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهِد . وأما قوله : " إني لم أترك سنَّة عمر " فإني لا أطيقها ولا هو ، فأته فحدثه بذلك{[5976]} .
{ إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الذين ولوا عن المشركين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وانهزموا عنهم ، وقوله : { تَوَلّوْا } : تفّعَلوا ، من قولهم : ولّى فلان ظهره . وقوله : { يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ } يعني : يوم التقى جمع المشركين والمسلمين بأُحد ، { إنّمَا اسْتَنزَلّهُمْ الشّيْطانُ } : أي إنما دعاهم إلى الزلة الشيطان . وقوله استزلّ : استفعل ، من الزلة ، والزلة : هي الخطيئة . { بِبَعْضِ ما كَسَبُوا } يعني : ببعض ما عملوا من الذنوب . { وَلَقَدْ عَفا اللّهُ عَنْهُمْ } يقول : ولقد تجاوز الله عن عقوبة ذنوبهم فصفح لهم عنه . { إنّ اللّهَ غَفُورٌ } يعني به : مغطّ على ذنوب من آمن به واتبع رسوله بعفوه عن عقوبته إياهم عليها . { حَلِيمٌ } يعني : أنه ذو أناة ، لا يعجل على من عصاه وخالف أمره بالنقمة .
ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين عنوا بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عني بها كلّ من ولى الدبر عن المشركين بأُحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا عاصم بن كليب ، عن أبيه ، قال : خطب عمر يوم الجمعة ، فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ } قال : لما كان يوم أحد هزمناهم ، ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أَرْوَى ، والناس يقولون : قتل محمد ! فقلت : لا أجد أحدا يقول قتل محمد إلا قتلته . حتى اجتمعنا على الجبل ، فنزلت : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ } . . . الاَية كلها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ } . . . الاَية ، وذلك يوم أُحد ، ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تولوا عن القتال وعن نبيّ الله يومئذٍ ، وكان ذلك من أمر الشيطان وتخويفه ، فأنزل الله عزّ وجلّ ما تسمعون أنه قد تجاوز لهم عن ذلك ، وعفا عنهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : ثني عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمَعانِ } . . . الاَية ، فذكر نحو قول قتادة .
وقال آخرون : بل عني بذلك خاصّ ممن ولى الدبر يومئذٍ ، قالوا : وإنما عنى به الذين لحقوا بالمدينة منهم دون غيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما انهزوا يومئذٍ تفرّق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ، فدخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة ، فقاموا عليها ، فذكر الله عزّ وجلّ الذين انهزموا ، فدخلوا المدينة ، فقال : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ } . . . الاَية .
وقال آخرون : بل نزل ذلك في رجال بأعيانهم معروفين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرمة ، قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ } قال : نزلت في رافع بن المعلى وغيره من الأنصار وأبي حذيفة بن عتبة ، ورجل آخر . قال ابن جريج : وقوله : { إنّمَا اسْتَزلّهُمُ الشّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفا اللّهُ عَنْهُمْ } إذ لم يعاقبهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فرْ عثمان بن عفان ، وعقبة بن عثمان ، وسعد بن عثمان رجلان من الأنصار حتى بلغوا الجَلَعْب ، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص . فأقاموا به ثلاثا ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم : «لقد ذَهَبْتُمْ فيها عَرِيضَةً » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ إنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا } . . . الاَية ، والذين استزلهم الشيطان : عثمان بن عفان ، وسعد بن عثمان ، وعقبة بن عثمان الأنصاريان ، ثم الزّرَقيان .
وأما قوله : { ولَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } فإن معناه : ولقد تجاوز الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان ، أن يعاقبهم ، بتوليهم عن عدوّهم . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : { وَلَقَدْ عَفا اللّهُ عَنْهُمْ } يقول : ولقد عفا الله عنهم إذ لم يعاقبهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله في توليهم يوم أُحد : { وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } فلا أدري أذلك العفو عن تلك العصابة ، أم عفو عن المسلمين كلهم .
وقد بينا تأويل قوله : { إنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } فيما مضى .
{ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } يعني إن الذين انهزموا يوم أحد إنما كان السبب في انهزامهم أن الشيطان طلب منهم الزلل فأطاعوه واقترفوا ذنوبا لمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم بترك المركز ، والحرص على الغنيمة أو الحياة فمنعوا التأييد وقوة القلب . وقيل استزلال الشيطان توليهم وذلك بسبب ذنوب تقدمت لهم فإن المعاصي يجر بعضها بعضا كالطاعة . وقيل استزلهم بذكر ذنوب سلفت منهم فكرهوا القتال قبل إخلاص التوبة والخروج من المظلمة . { ولقد عفا الله عنهم } لتوبتهم واعتذارهم . { إن الله غفور } للذنوب { حليم } لا يعاجل بعقوبة الذنب كي يتوب .
استئناف لبيان سبب الهزيمة الخفيّ ، وهي استزلال الشيطان إيّاهم ، وأراد بـ { يوم التقى الجمعان } يومَ أُحُد ، و( استزلّهم ) بمعنى أزلّهم أي جعلهم زالّين ، والزلل مستعار لفعل الخطيئة ، والسين والتاء فيه للتأكيد ، مثل استفاد واستبشر واستنشق وقول النَّابغة :
وهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة *** أبا جابر فاسْتَنْكحوا أم جابر
أي نكحوا . ومنه قوله تعالى : { واستغنى اللَّه } [ التغابن : 6 ] وقوله : { أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] . ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأنّ المقصود لومهم على وقوعهم في معصية الرسول ، فهو زلل واقع .
والمراد بالزّلل الانهزام ، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضدّه وهو النَّصر قال تعالى : { وثبت أقدامنا } [ آل عمران : 147 ] .
( والباء في { ببعض ما كسبوا } للسببية وأريد { ببعض ما كسبوا } مفارقة موقفهم ، وعصيان أمر الرّسول ، والتنازع ، والتعجيل إلى الغنيمة ، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان ، رماهم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم ، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم ، وإبطال ما عرّض به المنافقون من رمى تبعته على أمر الرسول عليه الصلاة والسّلام بالخروج ، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد . وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه ، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط الخفيّ وضع أهل المنطق باب القضيّة اللزوميّة والقضيّة الاتفاقية .
ومناسبةُ ذكر هذه الآية عقب الَّتي قبلها أنَّه تعالى بعد أن بيَّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم } انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة ، فبيّن لهم أنَّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الَّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم ، فلم يتفطّنوا إلى السبب ، والتبس عليهم بالمقارن ، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطىء وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح ، وتزكية النفوس ، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين ، وتعظيمه عندهم ، وتنفيرهم من الشيطان ، والأفعالِ الذميمة ، ومعصية الرسول ، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين . وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله : { ثم صرفكم عنهم . . . } [ آل عمران : 152 ] الآيات . وضمير { منكم } راجع إلى عامّة جيش أُحُد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا . وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة .
وللمفسّرين في قوله : { استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } احتمالات ذكرها صاحب « الكشاف » والفخر ، وهي بمعزل عن القصد .
وقوله : { ولقد عفا الله عنهم } أعيد الإخبار بالعفْو تأنيساً لهم كقوله : { ولقد عفا عنكم } .