{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } أي : يوم القيامة الذي وعد الله بإتيانه ، ووعده حق وصدق ، ففي ذلك اليوم ترى أبصار الكفار شاخصة ، من شدة الأفزاع والأهوال المزعجة ، والقلاقل المفظعة ، وما كانوا يعرفون من جناياتهم وذنوبهم ، وأنهم يدعون بالويل والثبور ، والندم والحسرة ، على ما فات ويقولون ل : { قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } اليوم العظيم ، فلم نزل فيها مستغرقين ، وفي لهو الدنيا متمتعين ، حتى أتانا اليقين ، ووردنا القيامة ، فلو كان يموت أحد من الندم والحسرة ، لماتوا . { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } اعترفوا بظلمهم ، وعدل الله فيهم ، فحينئذ يؤمر بهم إلى النار ، هم وما كانوا يعبدون ، ولهذا قال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ }
وقوله : { وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } يعني : يوم القيامة ، إذا وُجدت هذه الأهوال والزلازل والبلابل ، أزفت الساعة واقتربت ، فإذا كانت ووقعت قال الكافرون : { هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [ القمر : 8 ] . ولهذا قال تعالى : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام : { يَا وَيْلَنَا } أي : يقولون : { يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } أي : في الدنيا ، { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } ، يعترفون بظلمهم لأنفسهم ، حيث لا ينفعهم ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُواْ يَوَيْلَنَا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مّنْ هََذَا بَلْ كُنّا ظَالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج ، اقترب الوعد الحقّ ، وذلك وعد الله الذي وعد عباده أنه يبعثهم من قبورهم للجزاء والثواب والعقاب ، وهو لا شكّ حق كما قال جلّ ثناؤه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو ، يعني ابن قيس ، قال : حدثنا حذيفة : لو أن رجلاً افْتَلَى فُلُوّا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم القيامة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاقْتَرَبَ الوَعْد الحَقّ قال : اقترب يوم القيامة منهم .
والواو في قوله : وَاقْتَرَب الْوَعْدُ الحَقّ مقحمة ، ومعنى الكلام : حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحقّ ، وذلك نظير قوله : فَلَمّا أسْلَما وَتَلّهُ للجَبِينِ وَنادَيناهُ معناه : ناديناه ، بغير واو ، كما قال امرؤ القيس :
فَلَمّا أجَزْنا ساحَة الحَيّ وانْتَحَى *** بِنا بَطْنُ خَبْتٍ ذي حِقافٍ عَقَنْقَلِ
يريد : فلما أجزنا ساحة الحيّ انتحى بنا .
وقوله : فإذَا هِيَ شاخِصَةٌ أبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُوا ففي هي التي في قوله فإذا هي وجهان : أحدهما أن تكون كناية عن الأبصار وتكون الأبصار الظاهرة بيانا عنها ، كما قال الشاعر :
لَعَمْرُو أبِيها لا تَقُولُ ظَعِينَتي *** ألا فَرّ عَنّي مالكُ بن أبي كَعْبِ
فكنى عن الظعينة في : «لعمرو أبيها » ، ثم أظهرها ، فيكون تأويل الكلام حينئذٍ : فإذا الأبصار شاخصة أبصار الذين كفروا .
والثاني : أن تكون عمادا كما قال جلّ ثناؤه : فإنّها لا تَعْمَى الأبْصَارُ وكقول الشاعر :
*** فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بِما هَهُنا رأْسْ ***
وقوله : يا وَيْلَنا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا يقول تعالى ذكره : فإذا أبصار الذين كفروا قد شخصت عند مجيء الوعد الحقّ بأهواله وقيام الساعة بحقائقها ، وهم يقولون : يا ويلنا قد كنا قبل هذا الوقت في الوقت في الدنيا في غفلة من هذا الذي نرى ونعاين ونزل بنا من عظيم البلاء . وفي الكلام متروك تُرِك ذكره استغناء بدلالة ما ذُكر عليه عنه ، وذلك «يقولون » من قوله : فإذَا هِيَ شاخصَةٌ أبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُوا يقولون : يا ويلنا . وقوله : بَلْ كُنّا ظالِمِينَ يقول مخبرا عن قيل الذين كفروا بالله يومئذٍ : ما كنا نعمل لهذا اليوم ما ينجينا من شدائده ، بل كنا ظالمين بمعصيتنا ربنا وطاعتنا إبليس وجنده في عبادة غير الله عزّ وجلّ .
{ واقترب الوعد الحق } وهو القيامة . { فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } جواب الشرط و " إذا " للمفاجأة تسد مسد الفاء الجزائية كقوله تعالى : { إذا هم يقنطون } فإذا جاءت الفاء معها تظاهرتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ، والضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار { يا ويلنا } مقدر بالقول واقع موقع الحال من الموصول . { قد كنا في غفلة من هذا } لم نعلم أنه حق . { بل كنا ظالمين } لأنفسنا بالإخلال بالنظر وعدم الاعتداد بالنذر .
وقوله تعالى : { واقترب الوعد الحق } يريد يوم القيامة ، وروي في الحديث «أن الرجل ليتخذ الفلو بعد يأجوج ومأجوج فلا يبلغ منفعته حتى تقوم الساعة »{[8282]} ، وقوله تعالى : { هي } ، مذهب سيبويه أنها ضمير القصة كأنه قال فإذا القصة أو الحادثة { شاخصة أبصار } وجوز الفراء أن تكون ضمير الإبصار تقدمت لدلالة الكلام ويجيء ما يفسرها وأنشد على ذلك : [ الطويل ]
فلا وأبيها لا تقول حليلتي . . . ألا فرَّعني مالك بن أبي كعب{[8283]}
والشخوص بالعين إحداد النظر دون أن يطرف ، وذلك يعتري من الخوف المفرط أو علة أو نحوه ، وقوله : { يا ويلنا } تقديره يا ويلنا لقد كانت بنا غفلة عما وجدنا الآن وتبينا الآن من الحقائق ثم تركوا الكلام الأول ورجعوا إلى نقد ما كان يداخلهم من تعهد الكفر وقصد الإعراض فقالوا { بل كنا ظالمين } .