{ 15 } { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }
أي : هو الذي سخر لكم الأرض وذللها ، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم ، من غرس وبناء وحرث ، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان الشاسعة ، { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } أي : لطلب الرزق والمكاسب .
{ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } أي : بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانًا ، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة ، تبعثون بعد موتكم ، وتحشرون إلى الله ، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة .
ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض وتذليله إياها لهم ، بأن جعلها قارة ساكنة لا تمتد{[29112]} ولا تضطرب{[29113]} بما جعل فيها من الجبال ، وأنبع فيها من العيون ، وسلك فيها من السبل ، وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار ، فقال : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا }
أي : فسافروا حيث شئتم من أقطارها ، وترددوا في أقاليمها وأرجائها ، في أنواع المكاسب والتجارات ، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا ، إلا أن ييسره الله لكم ؛ ولهذا قال : { وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } ، فالسعي في السبب لا ينافي التوكل ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حَيْوَة ، أخبرني بكر بن عمرو ، أنه سمع عبد الله بن هُبَيْرة يقول : إنه سمع أبا تميم الجَيشاني يقول : إنه سمع عمر بن الخطاب يقول : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير ، تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوح بِطَانًا " .
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث ابن هبيرة{[29114]} وقال الترمذي : حسن صحيح . فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق ، مع توكلها على الله ، عز وجل ، وهو المسَخِّر المسير المسبب . { وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } أي : المرجع يوم القيامة .
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : { مَنَاكِبِهَا } أطرافها وفجاجها ونواحيها . وقال ابن عباس وقتادة : { مَنَاكِبِهَا } الجبال .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن حكام الأزدي ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن بشير بن كعب : أنه قرأ هذه الآية : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } فقال لأم ولد له : إن علمت { مَنَاكِبِهَا } فأنت عتيقة . فقالت : هي الجبال . فسأل أبا الدرداء فقال : هي الجبال .
وهذا أيضًا من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم ، بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره ، وهو مع هذا يحلم ويصفح ، ويؤجل ولا يعجل ، كما قال : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } [ فاطر : 45 ] .
وقوله : هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً يقول تعالى ذكره : الله الذي جعل لكم الأرض ذَلُولاً سْهلاً ، سَهّلها لكم فامْشُوا فِي مَناكِبها .
واختلف أهل العلم في معنى مَناكِبها فقال بعضهم : مناكبها : جبالها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فِي مَناكِبها يقول : جبالها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه الاَية : فامْشُوا فِي مَناكِبها فقال لجارية له : إن دَرَيْت ما مناكُبها ، فأنت حرّة لوجه الله قالت : فإن مناكبها : جبالها ، فكأنما سُفِع في وجهه ، ورغب في جاريته . فسأل ، منهم من أمره ، ومنهم من نهاه ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : الخير في طمأنينة ، والشرّ في ريبة ، فَذرْ ما يريبك إلى ما لا يَريبك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن بشير بن كعب ، بمثله سواء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فامْشُوا في مَناكِبها : جبالها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله فِي مَناكِبها قال : في جبالها .
وقال آخرون : مَناكِبها : أطرافها ونواحيها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فامْشُوا فِي مَناكِبها يقول : امشوا في أطرافها .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة ، أن بشير بن كعب العدويّ ، قرأ هذه الاَية فامْشُوا فِي مَناكِبها فقال لجاريته : إن أخبرتني ما مناكبها ، فأنت حرّة ، فقالت : نواحيها فأراد أن يتزوّجها ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : إن الخير في طمأنينة ، وإن الشرّ في ريبة ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فامْشُوا فِي مَناكِبها قال : طرقها وفجاجها .
وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال : معنى ذلك : فامشوا في نواحيها وجوانبها ، وذلك أن نواحيها نظير مناكب الإنسان التي هي من أطرافه .
وقوله : وكُلُوا مِنْ رزْقِهِ يقول : وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض ، وَإلَيْهِ النّشُورُ يقول تعالى ذكره : وإلى الله نشركم من قبوركم .
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ، لينة يسهل لكم السلوك فيها ، فامشوا في مناكبها ، في جوانبها أو جبالها ، وهو مثل لفرط التذليل ، فإن منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب ولا يتذلل له . فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يمشي في مناكبها ، لم يبق شيء لم يتذلل . وكلوا من رزقه ، والتمسوا من نعم الله . وإليه النشور ، المرجع فيسألكم عن شكر ما أنعم عليكم .
والذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلول . فهي كركوب وحلوب ، يقال : ذلول ، بين الذل بضم الذال ، واختلف المفسرون في معنى : المناكب ، فقال ابن عباس : أطرافها وهي الجبال ، وقال الفراء ومنذر بن سعيد : جوانبها ، وهي النواحي ، وقال مجاهد : هي الطرف والفجاج ، وهذا قول جار مع اللغة ، لأنها تنكب يمنة ويسرة ، وينكب الماشي فيها ، في مناكب{[11216]} . وهذه الآية تعديد نعم في تقريب التصرف للناس ، وفي التمتع في رزق الله تعالى ، و { النشور } : الحياة بعد الموت .