{ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا }
لما ذكر معايب أهل الكتاب ، ذكر الممدوحين منهم فقال : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } أي : الذين ثبت العلم في قلوبهم ورسخ الإيقان في أفئدتهم فأثمر لهم الإيمان التام العام { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ }
وأثمر لهم الأعمال الصالحة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة اللذين هما أفضل الأعمال ، وقد اشتملتا على الإخلاص للمعبود والإحسان إلى العبيد . وآمنوا باليوم الآخر فخافوا الوعيد ورجوا الوعد .
{ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } لأنهم جمعوا بين العلم والإيمان والعمل الصالح ، والإيمان بالكتب والرسل السابقة واللاحقة .
ثم قال تعالى : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ } أي : الثابتون في الدين لهم قدم راسخة في العلم النافع . وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران .
{ وَالْمُؤْمِنُونَ } عطف على الراسخين ، وخبره { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ }
قال ابن عباس : أنزلت في عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية . وأسد وزيد بن سعية وأسد بن عبيد ، الذين دخلوا في الإسلام ، وصدقوا بما أرسل الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } هكذا هو في جميع المصاحف الأئمة ، وكذا هو في مصحف أُبَيّ بن كعب . وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود : " والمقيمون الصلاة " ، قال : والصحيح قراءة الجميع . ثم رَدّ على من زعم أن ذلك من غلط الكُتَّاب{[8717]} ثم ذكر اختلاف الناس فقال بعضهم : هو منصوب على المدح ، كما جاء في قوله : { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } [ البقرة : 177 ] ، قالوا : وهذا سائغ في كلام العرب ، كما قال الشاعر{[8718]} :
لا يَبْعَدَن قومي الذين همُو *** سُمّ{[8719]} العداة وآفة الجُزرِ
النازلين بكل مُعَْتركٍ *** والطَّيّبُونَ مَعَاقِدَ الأزْرِ
وقال آخرون : هو مخفوض عطفا على قوله : { بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ } يعني : وبالمقيمين الصلاة .
وكأنه يقول : وبإقامة الصلاة ، أي : يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم ، أو أن المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة ، وهذا اختيار ابن جرير ، يعني : يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك ، وبالملائكة . وفي هذا نظر والله أعلم .
وقوله : { وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال ، ويحتمل زكاة النفوس ، ويحتمل الأمرين ، والله أعلم .
{ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : يصدقون بأنه لا إله إلا الله ، ويؤمنون بالبعث بعد الموت ، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها .
وقوله : { أُولَئِكَ } هو الخبر عما تقدم { سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } يعني : الجنة .
{ لَّكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ أُوْلََئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } . .
هذا من الله جلّ ثناؤه استثناء ، استثنى من أهل الكتاب من اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَيات التي مضت من قوله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ ثم قال جلّ ثناؤه لعباده ، مبينا لهم حكم من قد هداه لدينه منهم ووفقه لرشده : ما كُلّ أهل الكتاب صفتهم الصفة التي وصفت لكم ، لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وهم الذين قد رسخوا في العلم بأحكام الله التي جاءت بها أنبياؤه ، وأتقنوا ذلك ، وعرفوا حقيقته . وقد بينا معنى الرسوخ في العلم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وَالمُؤْمِنُونَ يعني : والمؤمنون بالله ورسله ، وهم يؤمنون بالقرآن الذي أنزل الله إليك يا محمد ، وبالكتب التي أنزلها على من قبلك من الأنبياء والرسل ، ولا يسألونك كما سأل هؤلاء الجهلة منهم أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، لأنهم قد علموا بما قرءوا من كتب الله وأتتهم به أنبياؤهم ، أنك لله رسول واجب عليهم اتباعك ، لا يسعهم غير ذلك ، فلا حاجة بهم إلى أن يسألوك آية معجزة ، ولا دلالة غير الذي قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم من أخبار أنبيائهم إياهم بذلك وبما أعطيتك من الأدلة على نبوّتك ، فهم لذلك من علمهم ورسوخهم فيه يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ من الكتاب و ب بما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من سائر الكتب . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ استثنى الله ثَنِيّةً من أهل الكتاب ، وكان منهم من يؤمن بالله ، وما أنزل عليهم ، وما أنزل على نبيّ الله ، يؤمنون به ويصدّقون به ، ويعلمون أنه الحقّ من ربهم .
ثم اختلف في المقيمين الصلاة ، أهم الراسخون في العلم ، أم هم غيرهم ؟ فقال بعضهم : هم هم . ثم اختلف قائلو ذلك في سبب مخالفة إعرابهم إعراب الراسخون في العلم ، وهما من صفة نوع من الناس ، فقال بعضهم : ذلك غلط من الكاتب ، وإنما هو : لكن الراسخون في العلم منهم ، والمقيمون الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن الزبير ، قال : قلت لأبان بن عثمان بن عفان : ما شأنها كتبت لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ والمُقِيمِينَ الصّلاةَ ؟ قال : إن الكاتب لما كتب لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ حتى إذا بلغ قال : ما أكتب ؟ قيل له اكتب والمُقِيمِينَ الصّلاةَ فكتب ما قيل له .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه سأل عائشة عن قوله : وَالمُقِيمِينَ الصّلاةَ ، وعن قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا وَالصّابِئُونَ ، وعن قوله : إنّ هَذَانِ لَساحِرَانِ فقالت : يا ابن أختي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب .
وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود : «والمُقِيمُونَ الصّلاةَ » .
وقال آخرون ، وهو قول بعض نحويي الكوفة والبصرة : والمقيمون الصلاة من صفة الراسخون في العلم ، ولكن الكلام لما تطاول واعترض بين الراسخين في العلم والمقيمن الصلاة ما اعترض من الكلام فطال نصب المقيمين على وجه المدح ، قالوا : والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته إذا تطاولت بمدح أو ذمّ خالفوا بين إعراب أوّله وأوسطه أحيانا ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوّله ، وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه ، وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الإعراب . واستشهدوا لقولهم ذلك بالاَيات التي ذكرناهاا في قوله : والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِي البَأْساءِ والضّرّاءِ .
وقال آخرون : بل المقيمون الصلاة من صفة غير الراسخين في العلم في هذا الموضع وإن كان الراسخون في العلم من المقيمين الصلاة . وقال قائلو هذه المقالة جميعا : موضع المقيمين في الإعراب خفض ، فقال بعضهم : موضعه خفض على العطف على «ما » التي في قوله : يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ويؤمنون بالمقيمين الصلاة .
ثم اختلف متأوّلو ذلك في هذا التأويل في معنى الكلام ، فقال بعضهم : معنى ذلك : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبإقام الصلاة . قالوا : ثم ارتفع قوله : «والمؤتون الزكاة » ، عطفا على ما في «يؤمنون » من ذكر المؤمنين ، كأنه قيل : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك هم والمؤتون الزكاة .
وقال آخرون : بل المقيمون الصلاة : الملائكة . قالوا : وإقامتهم الصلاة : تسبيحهم ربهم واستغفارهم لمن في الأرض . قالوا : ومعنى الكلام : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالملائكة .
وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة ، هم والمؤتون الزكاة ، كما قال جلّ ثناؤه : يُؤْمِنُ باللّهِ وَيُؤْمِنُ للِمُؤْمِنِينَ . وأنكر قائلو هذه المقالة أن يكون المقيمين منصوبا على المدح وقالوا : إنما تنصب العرب على المدح من نعت من ذكرته بعد تمام خبره قالوا : وخبر الراسخين في العلم قوله : أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أجْرا عَظِيما . قال : فغير جائز نصب المقيمين على المدح وهو في وسط الكلام ولما يتمّ خبر الابتداء .
وقال آخرون : معنى ذلك : لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين الصلاة . وقالوا : موضع المقيمين خفض .
وقال آخرون : معناه : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة .
وقال أبو جعفر : وهذا الوجه والذي قبله منكر عند العرب ، ولا تكاد العرب تعطف لظاهر على مكنيّ في حال الخفض وإن كان ذلك قد جاء في بعض أشعارها .
وأولى الأقوال عندي بالصواب ، أن يكون المقيمين في موضع خفض نسقا على «ما » التي في قوله : بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وأن يوجه معنى المقيمين الصلاة إلى الملائكة ، فيكون تأويل الكلام : والمؤمنون منهم يؤمنون بما أنزل إليك يا محمد من الكتاب وبما أنزل من قبلك من كتبي وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة ثم يرجع إلى صفة الراسخين في العلم فيقول : لكن الراسخون في العلم منهم ، والمؤمنون بالكتب ، والمؤتون الزكاة ، والمؤمنون بالله واليوم الاَخر . وإنما اخترنا هذا على غيره ، لأنه قد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب : «والمقيمين » ، وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا ، فلو كان ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا . وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبيّ في ذلك ، ما يدلّ على أن الذي في محصفنا من ذلك صواب غير خطأ ، مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخط ، لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون من علموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن ، ولأصلحوه بألسنتهم ، ولقنوه للأمة تعليما على وجه الصواب . وفي نقل المسلمين جميعا ذلك قراءة على ما هو به في الخطّ مرسوما أدلّ الدليل على صحة ذلك وصوابه ، وأن لا صنع في ذلك للكاتب .
وأما من وجه ذلك إلى النصب على وجه المدح للراسخين في العلم وإن كان ذلك قد يحتمل على بعد من كلام العرب لما قد ذكرنا قبل من العلة ، وهو أن العرب لا تعدل عن إعراب الاسم المنعوت بنعت في نعته إلا بعد تمام خبره ، وكلام الله جلّ ثناؤه أفصح الكلام ، فغير جائز توجيهه إلا إلى الذي هو به من الفصاحة .
وأما توجيه من وجه ذلك إلى العطف به على الهاء والميم في قوله : لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ أو إلى العطف به على الكاف من قوله : بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ أو إلى الكاف من قوله : وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فإنه أبعد من الفصاحة من نصبه على المدح لما قد ذكرت قبل من قبح ردّ الظاهر على المكني في الخفض .
وأما توجيه من وجه المقيمين إلى الإقامة ، فإنه دعوى لا برهان عليها من دلالة ظاهر التنزيل ولا خبر تثبت حجته ، وغير جائز نقل ظاهر التنزيل إلى باطن بغير برهان .
وأما قوله : وَالمُؤْتُونَ الزّكاةَ فإنه معطوف به على قوله : وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ وهو من صفتهم . وتأويله : والذين يعطون زكاة أموالهم من جعلها الله له وصرفها إليه والُمؤْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ يعني : والمصدّقون بوحدانية الله وألوهيته ، والبعث بعد الممات ، والثواب والعقاب أولئك سَنُؤْتِيهمْ أجْرا عَظِيما يقول : هؤلاء الذين هذه صفتهم سنؤتيهم ، يقول : سنعطيهم أجرا عظيما ، يعني : جزاء على ما كان منهم من طاعة الله ، واتباع أمره ، وثوابً عظيما ، وذلك الجنة .