145- وبينا لموسى في ألواح التوراة كل شيء من المواعظ والأحكام المفضلة التي يحتاج الناس إليها في المعاش والمعاد ، وقلنا له : خذ الألواح بجد وحزم ، وأمر قومك أن يأخذوا بأفضل ما فيها ، كالعفو بدل القصاص ، والإبراء بدل الانتظار ، واليسر بدل العسر . سأريكم يا قوم موسى في أسفاركم دار الخارجين على أوامر اللَّه ، وما صارت إليه من الخراب لتعتبروا ، فلا تخالفوا حتى لا يصيبكم ما أصابهم .
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه العباد مَوْعِظَةً ترغب النفوس في أفعال الخير ، وترهبهم من أفعال الشر ، وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ من الأحكام الشرعية ، والعقائد والأخلاق والآداب فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ أي : بجد واجتهاد على إقامتها ، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا وهي الأوامر الواجبة والمستحبة ، فإنها أحسنها ، وفي هذا دليل على أن أوامر اللّه - في كل شريعة - كاملة عادلة حسنة .
ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء ، قيل : كانت الألواح من جوهر ، وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام ، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله [ تعالى ]{[12129]} فيها : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } [ القصص : 43 ]
وقيل : الألواح أعطيها موسى قبل التوراة ، فالله أعلم . وعلى كل تقدير كانت{[12130]} كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منه ، والله أعلم .
وقوله : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أي : بعزم على الطاعة { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } قال سفيان بن عيينة : حدثنا أبو سعد{[12131]} عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أمر موسى - عليه السلام - أن يأخذ بأشد ما أمر قومه .
وقوله : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي : سترون{[12132]} عاقبة من خالف أمري ، وخرج عن طاعتي ، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب ؟
قال ابن جرير : وإنما قال : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } كما يقول القائل لمن يخاطبه : " سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري " ، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره .
ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد ، والحسن البصري .
وقيل : معناه { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي : من أهل الشام ، وأعطيكم إياها . وقيل : منازل قوم فرعون ، والأول أولى ، والله أعلم ؛ لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر ، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : وكتبنا لموسى في ألواحه . وأدخلت الألف واللام في «الألواح » بدلاً من الإضافة ، كما قال الشاعر :
***والأحْلامُ غيرُ عَوَازِبُ ***
وكما قال جلّ ثناؤه فإنّ الجَنّةَ هِيَ المَأْوَى يعني : هي مأواه .
وقوله : مِنْ كُلّ شَيْءٍ يقول من التذكير والتنبيه على عظمة الله وعزّ سلطانه . مَوْعِظَةً لقومه ومن أمر بالعمل بما كتب في الألواح . وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ يقول : وتبيينا لكلّ شيء من أمر الله ونهيه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أو سعيد بن جبير وهو في أصل كتابي ، عن سعيد بن جبير في قول الله : وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال : ما أمروا به ونهوا عنه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ من الحلال والحرام .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال : ما أمروا به ونُهوا عنه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال عطية : أخبرني ابن عباس أن موسى صلى الله عليه وسلم لما كربه الموت قال : هذا من أجل آدم ، قد كان الله جعلنا في دار مثوى لا نموت ، فخطأ آدم أنزلنا ههنا فقال الله لموسى : أبعث إليك آدم فتخاصمه ؟ قال : نعم . فلما بعث الله آدم ، سأله موسى ، فقال أبونا آدم عليهما السلام : يا موسى سألت الله أن يبعثني لك قال موسى : لولا أنت لم نكن ههنا . قال له آدم : أليس قد أتاك الله من كلّ شيء موعظة وتفصيلاً ؟ أفلست تعلم أنه ما أصَابَ في الأرْضِ من مُصِيَبةٍ ولا في أنْفُسِكُمْ إلا في كِتَابٍ مِنْ قَبْل أنْ نَبْرَأَهَا ؟ قال موسى : بلى . فخصمه آدم صلى الله عليهما .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الصمد بن معقل ، أنه سمع وهبا يقول في قوله : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال : كتب له لا تشرك بي شيئا من أهل السماء ولا من أهل الأرض فإن كلّ ذلك خلقي ، ولا تحلف باسمي كاذبا ، فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه ، ووقّر والديك .
القول في تأويل قوله تعالى : فَخُذْهَا بِقُوّةٍ .
يقول تعالى ذكره : وقلنا لموسى إذ كتبنا له في الألواح من كلّ شيء موعظة وتفصيلاً لكلّ شيء : خذ الألواح بقوّة . وأخرج الخبر عن الألواح والمراد ما فيها .
واختلف أهل التأويل في معنى القوّة في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناها بجدّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا ابن عيينة ، قال : قال أبو سعد ، عن عكرمة عن ابن عباس : فَخُذْهَا بِقُوّةٍ قال : بجدّ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَخُذْهَا بِقُوّةٍ قال : بجدّ واجتهاد .
وقال آخرون : معنى ذلك : فخذها بالطاعة لله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : فَخُذْهَا بِقُوّةٍ قال : بالطاعة .
وقد بيّنا معنى ذلك بشواهده واختلاف أهل التأويل فيه في سورة البقرة عند قوله : خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوّةٍ فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها .
يقول تعالى ذكره : قلنا لموسى : وأمر قومك بني إسرائيل يأخذوا بأحسنها . يقول : يعملوا بأحسن ما يجدون فيها كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها بأحسن ما يجدون فيها .
حدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها قال : أمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أمر به قومه .
فإن قال قائل : وما معنى قوله : وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها أكان من خصالهم ترك بعض ما فيها من الحسن ؟ قيل : لا ولكن كان فيها أمر ونهي ، فأمرهم الله أن يعملوا بما أمرهم بعمله ويتركوا ما نهاهم عنه ، فالعمل بالمأمور به أحسن من العمل بالمَنْهيّ عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ .
يقول تعالى ذكره لموسى إذ كتب في الألواح من كلّ شيء : خذها بجدّ في العمل بما فيها واجتهاد ، وأمر قومك يأخذوا بأحسن ما فيها ، وانههم عن تضييعها وتضييع العمل بما فيها والشرك بي ، فإن من أشرك بي منهم ومن غيرهم ، فإني سأريه في الاَخرة عند مصيره إليّ دار الفاسقين ، وهي نار الله التي أعدّها لأعدائه . وإنما قال : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ قال : مصيرهم في الاَخرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن ، في قوله : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ قال : جهنم .
وقال آخرون : معنى ذلك : سأدخلكم أرض الشأم ، فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ : منازلهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : دَارَ الفاسِقِينَ قال : منازلهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : سأريكم دار قوم فرعون ، وهي مصر . ذكر من قال ذلك : . . . . . . . . . . . .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك ، لأن الذي قبل قوله جلّ ثناؤه : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ أمر من الله لموسى وقومه بالعمل بما في التوراة ، فأولى الأمور بحكمة الله تعالى أن يختم ذلك بالوعيد على من ضيعه وفرّط في العمل لله وحاد عن سبيله ، دون الخبر عما قد انقطع الخبر عنه أو عما لم يجر له ذكر .