ثم ذكر ضرب الذلة والصغار على من بقي منهم فقال :
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي : أعلم إعلاما صريحا : لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ أي : يهينهم ، ويذلهم .
إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ لمن عصاه ، حتى إنه يعجل له العقوبة في الدنيا . وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب إليه وأناب ، يغفر له الذنوب ، ويستر عليه العيوب ، ويرحمه بأن يتقبل منه الطاعات ، ويثيبه عليها بأنواع المثوبات ، وقد فعل اللّه بهم ما أوعدهم به ، فلا يزالون في ذل وإهانة ، تحت حكم غيرهم ، لا تقوم لهم راية ، ولا ينصر لهم عَلَمٌ .
{ تَأَذَّنَ } تَفَعَّل من الإذن أي : أعلم ، قاله مجاهد . وقال غيره : أمر .
وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة ، ولهذا تُلُقِّيَت باللام في قوله : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } أي : على اليهود { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } أي : بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه واحتيالهم على المحارم .
ويقال : إن موسى ، عليه السلام ، ضرب عليهم الخراج سبع سنين - وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وكان أول من ضرب الخراج . ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين ، ثم صاروا في{[12283]} قهر النصارى وإذلالهم وإياهم ، أخذهم منهم الجزية والخراج ، ثم جاء الإسلام ، ومحمد ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، فكانوا تحت صفاره وذمته يؤدون الخراج والجزى{[12284]}
قال العوفي ، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : هي المسكنة ، وأخذ الجزية منهم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عنه : هي الجزية ، والذين يسومهم سوء العذاب : محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، إلى يوم القيامة .
وكذا قال سعيد بن جبير ، وابن جُرَيْج ، والسُّدِّي ، وقتادة .
وقال عبد الرزاق : عن مَعْمَر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن سعيد بن المسيب قال : يستحب أن تبعث الأنباط في الجزية .
قلت : ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصار الدجال ، فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، وذلك آخر الزمان .
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ } أي : لمن عصاه وخالف [ أمره و ]{[12285]} شرعه ، { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : لمن تاب إليه وأناب .
وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة ، لئلا يحصل اليأس ، فيقرن [ الله ]{[12286]} تعالى بين الترغيب والترهيب كثيرا ؛ لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ تَأَذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ إِنّ رَبّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنّهُ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَإذْ تَأذّنَ واذكر يا محمد إذ آذن ربك فأعلم . وهو تفعل من الإيذان ، كما قال الأعشى ميمون بن قيس :
آذَنَ اليَوْمَ جِيرَتِي بِخُفُوفِ ***صَرَمُوا حَبْلَ آلِفٍ مَأْلُوفِ
يعني بقوله آذن : أعلم ، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ قال : أمر ربك .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز . قال : حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد : وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ قال : أمر ربك .
وقوله : لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ يعني : أعلم ربك ليبعثنّ على اليهود من يسومهم سوء العذاب ، قيل : إن ذلك العرب بعثهم الله على اليهود يقاتلون من لم يسلم منهم ولم يعط الجزية ، ومن أعطى منهم الجزية كان ذلك له صَغَارا وذلة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم وعليّ بن داود قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ يَسُومهُمْ سُوءَ العَذَابِ قال : هي الجزية ، والذين يسومونهم : محمد صلى الله عليه وسلم وأمته إلى يوم القيامة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ فهي المسكنة ، وأخذ الجزية منهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ قال : يهود ، وما ضرب عليهم من الذلة والمسكنة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ قال : فبعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب ، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ قال : بعث عليهم هذا الحيّ من العرب ، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة . وقال عبد الكريم الجزري : يُستحبّ أن تبعث الأنباط في الجزية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد : وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ قال : العرب . سُوءَ العَذَابِ قال : الخراج . وأوّل من وضع الخراج موسى عليه السلام ، فجبى الخراج سبع سنين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد : وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ قال : العرب . سُوءَ العَذَابِ قال : الخراج . قال : وأوّل من وضع الخراج موسى ، فجبى الخراج سبع سنين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد : وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ قال : هم أهل الكتاب ، بعث الله عليهم العرب يجبونهم الخراج إلى يوم القيامة ، فهو سوء العذاب ، ولم يجب نبيّ الخراج قطّ إلا موسى صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة ثم أمسك ، وإلا النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ قال : يبعث عليهم هذا الحيّ من العرب ، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة .
قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني عبد الكريم ، عن ابن المسيب ، قال : يستحبّ أن تبعث الأنباط في الجزية .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ يقول : إن ربك يبعث على بني إسرائيل العرب ، فيسومونهم سوء العذاب : يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ليبعثنّ على يهود .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ رَبّكَ لَسَرَيعُ العِقابِ وَإنّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ .
يقول تعالى ذكره : إن ربك يا محمد لسريع عقابه إلى من استوجب منه العقوبة على كفره به ومعصيته له . وإنّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يقول : وإنه لذو صفح عن ذنوب من تاب من ذنوبه فأناب وراجع طاعته ، يستر عليها بعفوه عنها ، رحيم له أن يعاقبه على جرمه بعد توبته منها ، لأنه يقبل التوبة ويُقيل العثرة .