125- واذكروا كذلك قصة بناء إبراهيم مع ابنه إسماعيل لبيت الله الحرام بمكة ، وفى هذه القصة عظة بالغة لمن كان له قلب سليم ، فلتذكروا إذ جعلنا هذا البيت ملاذاً للخلق ومأمناً لكل من يلجأ إليه ، وإذ أمرنا الناس بأن يتخذوا من موضع قيام إبراهيم لبناء الكعبة مكاناً يصلون فيه ، وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن يصونا البيت مما لا يليق بحرمته ، وأن يهيئاه تهيئة صالحة لمن يَؤُمُّهُ من الطائفين والمعتكفين والمصلين .
ثم ذكر تعالى ، نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم ، وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ، ركنا من أركان الإسلام ، حاطا للذنوب والآثام .
وفيه من آثار الخليل وذريته ، ما عرف به إمامته ، وتذكرت به حالته فقال : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } أي : مرجعا يثوبون إليه ، لحصول منافعهم الدينية والدنيوية ، يترددون إليه ، ولا يقضون منه وطرا ، { و } جعله { أَمْنًا } يأمن به كل أحد ، حتى الوحش ، وحتى الجمادات كالأشجار .
ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام ، ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم ، فلا يهيجه ، فلما جاء الإسلام ، زاده حرمة وتعظيما ، وتشريفا وتكريما .
{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } يحتمل أن يكون المراد بذلك ، المقام المعروف الذي قد جعل الآن ، مقابل باب الكعبة ، وأن المراد بهذا ، ركعتا الطواف ، يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم ، وعليه جمهور المفسرين ، ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا ، فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج ، وهي المشاعر كلها : من الطواف ، والسعي ، والوقوف بعرفة ، ومزدلفة ورمي الجمار والنحر ، وغير ذلك من أفعال الحج .
فيكون معنى قوله : { مُصَلًّى } أي : معبدا ، أي : اقتدوا به في شعائر الحج ، ولعل هذا المعنى أولى ، لدخول المعنى الأول فيه ، واحتمال اللفظ له .
{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي : أوحينا إليهما ، وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك ، والكفر والمعاصي ، ومن الرجس والنجاسات والأقذار ، ليكون { لِلطَّائِفِينَ } فيه { وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : المصلين ، قدم الطواف ، لاختصاصه بالمسجد [ الحرام ] ، ثم الاعتكاف ، لأن من شرطه المسجد مطلقا ، ثم الصلاة ، مع أنها أفضل ، لهذا المعنى .
وأضاف الباري البيت إليه لفوائد ، منها : أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره ، لكونه بيت الله ، فيبذلان جهدهما ، ويستفرغان وسعهما في ذلك .
ومنها : أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام ، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه .
( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) . .
هذا البيت الحرام الذي قام سدنته من قريش فروعوا المؤمنين وآذوهم وفتنوهم عن دينهم حتى هاجروا من جواره . . لقد أراده الله مثابة يثوب إليها الناس جميعا ، فلا يروعهم أحد ؛ بل يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم . فهو ذاته أمن وطمأنينة وسلام .
ولقد أمروا أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى - ومقام إبراهيم يشير هنا إلى البيت كله وهذا ما نختاره في تفسيره - فاتخاذ البيت قبلة للمسلمين هو الأمر الطبيعي ، الذي لا يثير اعتراضا . وهو أولى قبلة يتوجه إليها المسلمون ، ورثة إبراهيم بالإيمان والتوحيد الصحيح ، بما أنه بيت الله ، لا بيت أحد من الناس . وقد عهد الله - صاحب البيت - إلى عبدين من عباده صالحين أن يقوما بتطهيره وإعداده للطائفين والعاكفين والركع السجود - أي للحجاج الوافدين عليه ، وأهله العاكفين فيه ، والذين يصلون فيه ويركعون ويسجدون فحتى إبراهيم وإسماعيل لم يكن البيت ملكا لهما ، فيورث بالنسب عنهما ، إنما كانا سادنين له بأمر ربهما ، لإعداده لقصاده وعباده من المؤمنين .
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }( 125 )
قوله { وإذ } عطف على { إذ } المتقدمة و { البيت } الكعبة ، و { مثابة } يحتمل أن تكون من ثاب إذا رجع لأن الناس يثوبون إليها أي ينصرفون ، ويحتمل أن تكون من الثواب أي يثابون هناك ، قال الأخفش : دخلت الهاء فيها للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع ، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطراً( {[1227]} ) ، فهي كنسابة وعلامة ، وقال غيره : هي هاء تأنيث المصدر ، فهي مفعلة أصلها مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء فانقلبت الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها ، وقيل : هو على تأنيث البقعة ، كما يقال : مقام ومقامة ، وقرأ الأعمش «مثابات » على الجمع ، وقال ورقة بن نوفل في الكعبة( {[1228]} ) : [ الطويل ] :
مثاب لأفناءِ القبائلِ كلِّها . . . تخبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الطلائِحُ( {[1229]} )
و { أمناً } معناه أن الناس يغيرون ويقتتلون حول مكة وهي أمنة من ذلك ، يلقى الرجل بها قاتل أبيه فلا يهيجه ، لأن الله تعالى جعل في النفوس حرمة وجعلها أمناً للناس والطير والوحوش ، وخصص الشرع من ذلك الخمس الفواسق ، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وجمهور الناس «واتخِذوا » بكسر الخاء على جهة الأمر ، فقال أنس بن مالك وغيره : معنى ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، في الحجاب ، وفي { عسى ربه إن طلقكن }( {[1230]} ) [ التحريم : 5 ] ، وقلت يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }( {[1231]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فهذا أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال المهدوي : وقيل ذلك عطف على قوله { اذكروا } فهذا أمر لبني إسرائيل ، وقال الربيع بن أنس : ذلك أمر لإبراهيم ومتبعيه ، فهي من الكلمات( {[1232]} ) ، كأنه قال : { إني جاعلك للناس إماماً } [ البقرة : 124 ] { واتخذوا } ، وذكر المهدوي رحمه الله أن ذلك عطف على الأمر يتضمنه قوله : { جعلنا البيت مثابة } ، لأن المعنى : توبوا ، وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا » بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم ، وذلك معطوف على قوله { وإذا جعلنا } ، كأنه قال : وإذ اتخذوا ، وقيل هو معطوف على جعلنا دون تقدير إذ ، فهي جملة واحدة( {[1233]} ) ، وعلى تقدير إذ فهي جملتان .
واختلف في { مقام إبراهيم } ، فقال ابن عباس وقتادة وغيرهما ، وخرجه البخاري : إنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت وغرقت قدماه فيه( {[1234]} ) .
وقال الربيع بن أنس : هو حجر ناولته إياه امرأته فاغتسل عليه وهو راكب ، جاءته به من شق ثم من شق فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه( {[1235]} ) ، وقال فريق من العلماء : المقام المسجد الحرام ، وقال عطاء بن أبي رباح : المقام عرفة والمزدلفة والجمار ، وقال ابن عباس : مقامه مواقف الحج كلها ، وقال مجاهد : مقامه الحرم كله .
و { مصلى } موضع صلاة ، هذا على قول من قال : المقام الحجر ، ومن قال بغيره قال { مصلى } مدعى ، على أصل الصلاة( {[1236]} ) .
وقوله تعالى : { وعهدنا } العهد في اللغة على أقسام ، هذا منها( {[1237]} ) الوصية بمعنى الأمر ، و { أن } في موضع نصب على تقدير بأن وحذف الخافض ، قال سيبويه : إنها بمعنى أي مفسرة ، فلا موضع لها من الإعراب ، و { طهرا } قيل معناه ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة( {[1238]} ) ، فيجيء مثل قوله : { أسس على التقوى } [ التوبة : 108 ] وقال مجاهد : هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان ، وقيل : من الفرث والدم . ( {[1239]} )
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لا تعضده الأخبار ، وقيل : من الشرك ، وأضاف الله البيت إلى نفسه تشريفاً للبيت ، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك ، و { للطائفين } ظاهره أهل الطواف ، وقاله عطاء وغيره ، وقال ابن جبير : معناه للغرباء الطارئين على مكة ، و
{ العاكفين } قال ابن جبير : هم أهل البلد المقيمون ، وقال عطاء : هم المجاورون بمكة ، وقال ابن عباس : المصلون ، وقال غيره : المعتكفون .
قال القاضي أبو محمد : والعكوف في اللغة اللزوم للشيء والإقامة عليه ، كما قال الشاعر [ العجاج ] : [ الرجز ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . عكف النبيط يلعبون الفنزجا( {[1240]} )
فمعناه لملازمي البيت إرادة وجه الله العظيم ، و { الركع السجود } المصلون ، وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى ، وكل مقيم عند بيت الله إرادة ذات الله( {[1241]} ) فلا يخلو من إحدى هذه الرتب الثلاث ، إما أن يكون في صلاة أو في طواف فإن كان في شغل من دنياه فحال العكوف على مجاورة البيت لا يفارقه .
تدرجُ في ذكر منقبة إبراهيم إذ جعل الله بيته بهذه الفضيلة . و ( إذ ) أضافها إلى جلالته فقال : ( بيتي ) ، واستهلالٌ لفضيلة القبلة الإسلامية ، فالواو عاطفة على { ابتلى } [ البقرة : 124 ] وأعيدت ( إذ ) للتنبيه على استقلال القصة وأنها جديرة بأن تعد بنية أخرى ، ولا التفات إلى حصول مضمون هذه بعد حصول الأخرى أو قبله إذ لا غرض في ذلك في مقام ذكر الفضائل ، ولأن الواو لا تفيد ترتيباً .
والبيت اسم جنس للمكان المتخذ مسكناً لواحد أو عدد من الناس في غرض من الأغراض ، وهو مكان من الأرض يحيط به ما يميزه عن بقية بقعته من الأرض ليكون الساكن مستقلاً به لنفسه ولمن يتبعه فيكون مستقَراً له وكناً يكنه من البرد والحر وساتراً يستتر فيه عن الناس ومحطاً لأثاثه وشؤونه ، وقد يكون خاصاً وهو الغالب وقد يكون لجماعة مثل دار الندوة في العرب وخيمة الاجتماع في بني إسرائيل ، وقد يكون محيط البيت من حجر وطين كالكعبة ودار الندوة ، وقد يكون من أديم مثل القباب ، وقد يكون من نسيج صوف أو شعر قال تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها } [ النحل : 80 ] ، ولا يكون بيتاً إلا إذا كان مستوراً أعلاه عن الحر والقُر وذلك بالسقف لبيوت الحجر وبيوت الأديم والخيام .
والبيت علم بالغلبة على الكعبة كما غلب النجم على الثريا . وأصل أل التي في الأعلام بالغلبة هي أل العهدية وذلك إذا كثر عهد فرد من أفراد جنس بين طائفة أو قوم صار اسم جنسه مع أل العهدية كالعلم له ثم قد يتعهدون مع ذلك المعنى الأصلي كما في النجم للثريا والكتاب للقرآن والبيت للكعبة ، وقد ينسى المعنى الأصلي إما بقلة الحاجة إليه كالصعِق علم على خويلد بن نفيل وإما بانحصار الجنس فيه كالشمس .
والكعبة بيت بناه إبراهيم عليه السلام لعبادة الله وحده دون شريك فيأوي إليه من يدين بالتوحيد ويطوف به من يقصد تعظيم الله تعالى ولذلك أضافه إلى الله تعالى باعتبار هذا المعنى كما قال : { أن طهرا بيتي للطائفين } وفي قوله : { عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 37 ] وقد عرفت الكعبة باسم البيت من عهد الجاهلية قال زهير :
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله *** رجالٌ بنوه من قريش وجُرهم
والمثابة مفعلة من ثاب يثوب إذا رجع ويقال مثابة ومثاب مثل مقامة ومقام ، والمراد بالمثابة أنه يقصده الناس بالتعظيم ويلوذون به .
والمراد من الناس سكان مكة من ذرية إسماعيل وكل من يجاورهم ويدخل في حلفهم ، فتعريف الناس للجنس المعهود ، وتعليق للناس بمثابة على التوزيع أي يزوره ناس ويذهبون فيخلفهم ناس .
ولما كان المقصود من هذا ذكر منقبة البيت والمنة على ساكنيه كان الغرض التذكير بنعمة الله أن جعله لا ينصرف عنه قوم إلا ويخلفهم قوم آخرون ، فكان الذين يخلفون الزائرين قائمين مقامهم بالنسبة للبيت وسكانه ، ويجوز حمل تعريف الناس على العهد أي يثوب إليه الناس الذين ألفوه وهم كُمَّل الزائرين فهم يعودون إليه مراراً ، وكذلك كان الشأن عند العرب .
والأمن مصدر أخبر به عن البيت باعتبار أنه سبب أمن فجعل كأنه نفس الأمن مبالغة . والأمن حفظ الناس من الأضرار فتشريد الدعَّار وحراسة البلاد وتمهيد السبل وإنارة الطرق أمن ، والانتصاف من الجناة والضرب على أيدي الظلمة وإرجاع الحقوق إلى أهلها أمن ، فالأمن يفسر في كل حال بما يناسبه ، ولما كان الغالب على أحوال الجاهلية أخذ القوي مال الضعيف ولم يكن بينهم تحاكم ولا شريعة كان الأمن يومئذ هو الحيلولة بين القوي والضعيف ، فجعل الله لهم البيت أمناً للناس يومئذ أي يصد القوي عن أن يتناول فيه الضعيف قال تعالى : { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } [ العنكبوت : 67 ] فهذه منة على أهل الجاهلية ، وأما في الإسلام فقد أغنى الله تعالى بما شرعه من أحكامه وما أقامه من حكامه فكان ذلك أمناً كافياً . قال السهيلي فقوله تعالى : { مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] إنما هو إخبار عن تعظيم حرمته في الجاهلية نعمة منه تعالى على أهل مكة فكان في ذلك مصلحة لذرية إسماعيل عليه السلام .
وقد اختلف الفقهاء في الاستدلال بهذه الآية وأضرابها على حكم إقامة الحدود والعقوبات في الحرم وسيأتي تفصيلها عند قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } [ البقرة : 191 ] الآية وليس من غرض هذه الآية .
والمراد من الجعل في الآية إما الجعل التكويني لأن ذلك قدره الله وأوجد أسبابه فاستقر ذلك بين أهل الجاهلية ويسرهم إلى تعظيمه ، وإما الجعل أن أمر الله إبراهيم بذلك فأبلغه إبراهيم ابنه إسماعيل وبثه في ذريته فتلقاه أعقابهم تلقي الأمور المسلمة ، فدام ذلك الأمن في العصور والأجيال من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن أغنى الله عنه بما شرع من أحكام الأمن في الإسلام في كل مكان وتم مراد الله تعالى ، فلا يريبكم ما حدث في المسجد الحرام من الخوف في حصار الحجاج في فتنة ابن الزبير ولا ما حدث فيه من الرعب والقتل والنهب في زمن القرامطة حين غزاه الحسن ابن بهرام الجنابي ( نسبة إلى بلدة يقال لها جنابة بتشديد النون ) كبير القرامطة إذ قتل بمكة آلافاً من الناس وكان يقول لهم يا كلاب أليس قال لكم محمد المكي { ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] أيّ أمن هنا ؟ وهو جاهل غبي لأن الله أراد الأمر بأن يجعل المسجد الحرام مأمناً في مدة الجاهلية إذ لم يكن للناس وازع عن الظلم ، أو هو خبر مراد به الأمر مثل { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] .
وقوله : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } قرأه نافع وابن عامر بصيغة الماضي عطفاً على { جعلنا } فيكون هذا الاتخاذ من آثار ذلك الجعل فالمعنى ألهمنا الناس أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، أو أمرناهم بذلك على لسان إبراهيم فامتثلوا واتخذوه ، فهو للدلالة على حصول الجعل بطريق دلالة الاقتضاء فكأنه قيل جعلنا ذلك فاتخذوا ، وقرأه باقي العشرة بكسر الخاء بصيغة الأمر على تقدير القول أي قلنا اتخِذوا بقرينة الخطاب فيكون العامل المعطوف محذوفاً بالقرينة وبقي معموله كقول لبيد :
فَعَلاَ فروعُ الأَيهقان وأطفلتْ *** بالجَلْهَتَيْن ظِبَاؤُها ونَعَامُها
أراد وباضت نعامها فإنه لا يقال لأفراخ الطير أطفال ، فمآل القراءتين إلى مفاد واحد .
ومقام إبراهيم يطلق على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها يعبد الله تعالى ويدعو إلى توحيده ، قال زيد بن عمرو بن نفيل :
عذت بما عاذ به إبراهِمْ *** مُستقبِلَ الكعبةِ وهو قائمْ
وبهذا الإطلاق جاء في قوله تعالى : { مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] إذ الدخول من علائق البيت ، ويطلق مقام إبراهيم على الحَجَر الذي كان يقف عليه إبراهيم عليه السلام حين بنائه الكعبة ليرتفع لوضع الحجارة في أعلى الجدار كما أخرجه البخاري ، وقد ثبتت آثار قدميه في الحَجَر . قال أنس بن مالك رأيتُ في المقام أَثَر أصابعه وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم ، وهذا الحجر يعرف إلى اليوم بالمقام ، وقد ركع النبيء صلى الله عليه وسلم في موضعه ركعتين بعد طواف القدوم فكان الركوع عنده من سنة الفراغ من الطواف .
والمصلَّى موضع الصلاة وصلاتهم يومئذ الدعاء والخضوع إلى الله تعالى ، وكان إبراهيم قد وضع المسجد الحرام حول الكعبة ووضع الحَجَر الذي كان يرتفع عليه للبناء حولها فكان المصلَّى على الحجر المسمى بالمقام فذلك يكون المصلى متخَذاً من مقام إبراهيم على كلا الإطلاقين .
والقراءتان تقتضيان أن اتخاذ مقام إبراهيم مصلَّى كان من عهد إبراهيم عليه السلام ولم يكن الحَجَر الذي اعتلى عليه إبراهيم في البناء مخصوصاً بصلاة عنده ولكنه مشمول للصلاة في المسجد الحرام ولما جاء الإسلام بقي الأمر على ذلك إلى أن كان عام حجة الوداع أو عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجدَ الحرام ومعه عمر بن الخطاب ثم سنت الصلاة عند المقام في طواف القدوم . روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : « وافقت ربي في ثلاث : قلتُ يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ، وهذه الرواية تثير معنى آخر للآية وهي أن يكون الخطاب موجهاً للمسلمين فتكون جملة { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } معترضة بين جملة { جعلنا البيت مثابة للناس } وجملة { وعهدنا إلى إبراهيم } اعتراضاً استطرادياً ، وللجمع بين الاحتمالات الثلاثة في الآية يكون تأويل قول عمر « فنزلت » أنه نزل على النبيء صلى الله عليه وسلم شَرْع الصلاة عند حَجَر المقام بعد أن لم يكن مشروعاً لهم ليستقيم الجمع بين معنى القراءتين واتخَذوا بصيغة الماضي وبصيغة الأمر فإن صيغة الماضي لا تحتمل غير حكاية ما كان في زمن إبراهيم وصيغة الأمر تحتمل ذلك وتحتمل أن يراد بها معنى التشريع للمسلمين ، إعمالاً للقرآن بكل ما تحتمله ألفاظه حسبما بيناه في المقدمة التاسعة .
وقوله : { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } ، العهد أصله الوعد المؤكد وقوعُه وقد تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { قال لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] ، فإذا عدي بإلى كان بمعنى الوصية المؤكد على المُوصَى العمل بها فعهد هنا بمعنى أرسل عهداً إليه أي أرسل إليه يأخذ منهم عهداً ، فالمعنى وأوصينا إلى إبراهيم وإسماعيل .
وقوله : { أن طَهرا } أن تفسيرية لأن الوصية فيها معنى القول دون حروفه فالتفسير للقول الضمني والمفسِّر هو ما بعد ( أن ) فلا تقدير في الكلام ولولا قصد حكاية القول لما جاء بعد ( أن ) بلفظ الأمر ، ولقال بتطهير بيتي إلخ .
والمراد من تطهير البيت ما يدل عليه لفظ التطهير من محسوس بأن يحفظ من القاذورات والأوساخ ليكون المتعبِّد فيه مقبلاً على العبادة دون تكدير ، ومِن تطهير معنوي وهو أن يُبْعَد عنه ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام والأفعال المنافية للحق كالعدوان والفسوق ، والمنافية للمروءة كالطواف عرياً دون ثياب الرجال والنساء .
وفي هذا تعريض بأن المشركين ليسوا أهلاً لعمارة المسجد الحرام لأنهم لم يطهروه مما يجب تطهيره منه قال تعالى : { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } [ الأنفال : 34 ] وقال : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } [ لبتبة : 28 ] .
والطائفون والعاكفون والراكعون والساجدون أصناف المتعبدين في البيت من طوافٍ واعتكاف وصلاة ، وهم أصناف المتلبسين بتلك الصفات سواء انفردت بعض الطوائف ببعض هذه الصفات أو اجتمعت الصفات في طائفة أو طوائف ، وذلك كله في الكعبة قبل وضع المسجد الحرام ، وهؤلاء هم إسماعيل وأبناؤه وأصهاره من جرهم وكلّ من آمن بدين الحنيفية من جيرانهم .
وقد جمع الطائف والعاكف جمع سلامة ، وجمع الراكع والساجد جمع تكسير ، تفنناً في الكلام وبعداً عن تكرير الصيغة أكثر من مرة بخلاف نحو قوله : { مسلمات مؤمنات قانتات تائبات } [ التحريم : 5 ] الآية ، وقوله : { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } [ الأحزاب : 35 ] الآية ، وقال ابن عرفة « جمع الطائفين والعاكفين جمع سلامة لأنه أقرب إلى لفظ الفعل بمنزلة يطوفون أي يجددون الطواف للإشعار بعلة تطهير البيت وهو قرب هذين من البيت بخلاف الركوع والسجود فإنه لا يلزم أن يكونا في البيت ولا عنده فلذلك لم يجمع جمع سلامة » ، وهذا الكلام يؤذن بالفرق بين جمع السلامة وجمع التكسير من حيث الإشعار بالحدوث والتجدد ، ويشهد له كلام أبي الفتح ابن جني في « شرح الحماسة » عند قول الأحوص الأنصارى :
فإذا تزول تزول عن متخمِّط *** تُخشى بوادرُه على الأقران
قال أبو الفتح : « جاز أن يتعلق على ببوادر ، وإن كان جمعاً مكسراً والمصدر إذا كسر بَعُد بتكسيره عن شبه الفعل ، وإذا جاز تعلق المفعول به بالمصدر مكسراً نحو « مواعيد عرقوب أخاه » كان تعلق حرف الجر به أجوز » . فصريح كلامه أن التكسير يبعد ما هو بمعنى الفعل عن شبه الفعل .
وخولف بين الركوع والسجود زيادة في التفنن وإلا فإن الساجد يجمع على سجّد إلا أن الأكثر فيهما إذا اقترنا أن يخالف بين صيغتيهما قال كثير :
لو يسمعون كما سمعت كلامها *** خروا لعزة ركعاً وسجودا
وقد علمتم من النحو والصرف أن جمع فاعل على فعول سماعي فمنه شهود وهجوع وهجود وسجود .
ولم يعطف السجود على ( الركع ) لأن الوصفين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً": عطف ب«إذْ» على قوله: "وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ". وقوله: {وَإذِا ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ} معطوف على قوله: {يا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي}، {واذكروا إذ ابتلى إبراهيمَ ربّه}، {وإذ جعلنا البيت مثابة}. والبيت الذي جعله الله مثابة للناس هو البيت الحرام.
وأما المثابة فإن أهل العربية مختلفون في معناها، والسبب الذي من أجله أنثت فقال بعض نحويي البصرة: ألحقت الهاء في المثابة لما كثر من يثوب إليه، كما يقال سيارة لمن يكثر ذلك، ونَسّابة.
وقال بعض نحويي الكوفة: بل المَثَابُ والمثابة بمعنى واحد، نظيرة المقام والمقامة والمقام، ذُكّر على قوله لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه، وأنثت المقامة لأنه أريد بها البقعة...
فمعنى قوله: {وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ} وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا يأتونه كل عام ويرجعون إليه، فلا يقضون منه وطرا...
{وأمْنا}: والأمن: مصدر من قول القائل أمِنَ يَأْمَنُ أَمْنا. وإنما سماه الله أمنا لأنه كان في الجاهلية مَعَاذا لمن استعاذ به، وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه، وكان كما قال الله جل ثناؤه: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنَا حَرَما آمِنا وَيُتَخَطّف النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}... من أَمّ إليه فهو آمن.
{وَاتّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى}:
اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: {وَاتّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى} بكسر الخاء على وجه الأمر باتخاذه مصلّى، وهي قراءة عامة المصريْن: الكوفة والبصرة. وقراءة عامة قرّاء أهل مكة وبعض قرّاء أهل المدينة. وذهب إليه الذين قرأوه كذلك من الخبر الذي: حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حميد، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله، لو اتخذت المقام مصلّى؟ فأنزل الله: {وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى}...
قالوا: فإنما أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيّهُ صلى الله عليه وسلم باتخاذ مقام إبراهيم مصلّى فغير جائز قراءتها وهي أمرٌ على وجه الخبر.
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: {وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى} معطوف على قوله: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي}، {وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى}، فكان الأمر بهذه الآية وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم على قول هذا القائل لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم... فتأويل قائل هذا القول: "وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأتَمّهُنّ قالَ إنّي جَاعِلُكَ للنّاسِ إماما "وقال: {وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى}. والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل، يدلّ على خلاف الذي قاله هؤلاء، وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين.
وقرأه بعض قرّاء أهل المدينة والشام: «واتّخَذُوا» بفتح الخاء على وجه الخبر.
ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله: «وَاتّخَذُوا» إذا قرئ كذلك على وجه الخبر، فقال بعض نحويي البصرة: تأويله إذا قرئ كذلك: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا "وإذِ "اتخذوا من مقام إبْرَاهِيمَ مصلّى".
وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك معطوف على قوله: "جَعَلْنَا" فكان معنى الكلام على قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس واتّخَذُوه مصلى.
والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا: وَاتّخِذُوا بكسر الخاء، على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا.
{وَاتّخِذُوا مِن مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى} وفي مقام إبراهيم.
فقال بعضهم: مقام إبراهيم: هو الحجّ كله...
وقال آخرون: مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار.
وقال آخرون: مقام إبراهيم: الحرم... الحرم كله مقام إبراهيم.
وقال آخرون: مقام إبراهيم: الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه، وضعف عن رفع الحجارة.
وقال آخرون: بل مقام إبراهيم، هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام.
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا ما قاله القائلون إن مقام إبراهيم: هو المقام المعروف بهذا الاسم، الذي هو في المسجد الحرام لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب، ولما: حدثنا يوسف بن سليمان، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن، فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين. فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى بمقام إبراهيم الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى هو الذي وصفنا. ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان الواجب فيه من القول ما قلنا وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف دون باطنه المجهول، حتى يأتي ما يدلّ على خلاف ذلك مما يجب التسليم له.
ولا شكّ أن المعروف في الناس بمقام إبراهيم هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره: {وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} فإن أهل التأويل مختلفون في معناه، فقال بعضهم: هو المُدّعَى... عن مجاهد: مصلى إبراهيم مُدّعًى.
وقال آخرون: معنى ذلك: اتخذوا مصلى تصلون عنده... فكأن الذين قالوا تأويل المصلى ههنا المدعَى، وجهوا المصلى إلى أنه مفعّل من قول القائل: صليت بمعنى دعوت. وقائلو هذه المقالة هم الذين قالوا: إن مقام إبراهيم هو الحجّ كله.
فكان معناه في تأويل هذه الآية: واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار وسائر أماكن الحجّ التي كان إبراهيم يقوم بها مداعي تدعونني عندها، وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها، فإني قد جعلته لمن بعده من أوليائي وأهل طاعتي إماما يقتدون به وبآثاره، فاقتدوا به.
وأما تأويل القائلين القول الاَخر، فإنه: اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده، عبادة منكم، وتكرمة مني لإبراهيم. وهذا القول هو أولى بالصواب لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِي}.
"وَعَهِدْنَا": وأمرنا... فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين. والتطهير الذي أمرهما الله به في البيت، هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك بالله.
فإن قال قائل: وما معنى قوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطائِفِينَ} وهل كان أيام إبراهيم قبل بنائه البيت بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم، فيجوز أن يكونا أُمِرا بتطهيره؟ قيل: لذلك وجهان من التأويل، قد كان لكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل، أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مُطهّرا من الشرك والريب، كما قال تعالى ذكره: "أفَمنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أمْ مَنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ"، فكذلك قوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ} أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب...
فهذا أحد وجهيه، والوجه الاَخر منهما أن يكونا أُمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه والبيت بعد بنيانه مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه على عهد نوح ومن قبله من الأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما، إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به مَنْ بعده...
"للطّائِفِينَ": اختلف أهل التأويل في معنى الطائفين في هذا الموضع؛
فقال بعضهم: هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غربة...
وقال آخرون: بل الطائفون هم الذين يطوفون به غرباء كانوا أو من أهله...عن عطاء: {للطّائِفِينَ} قال: إذا كان طائفا بالبيت، فهو من الطائفين.
وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء لأن الطائف هو الذي يطوف بالشيء دون غيره، والطارئ من غربة لا يستحقّ اسم طائف بالبيت إن لم يطف به.
{والعاكِفِينَ}: يعني تعالى ذكره بقوله: {وَالعاكِفِينَ} والمقيمين به، والعاكف على الشيء: هو المقيم عليه...
وإنما قيل للمعتكف معتكف من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى.
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: "وَالعاكِفِينَ" فقال بعضهم: عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة...
وقال بعضهم: العاكفون هم المعتكفون المجاورون.
وقال بعضهم: العاكفون هم أهل البلد الحرام.
وقال آخرون: العاكفون: هم المصلون.
وأولى هذه التأويلات بالصواب هو أن العاكف في هذا الموضع: المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة، لأن صفة العكوف ما وصفنا من الإقامة بالمكان. والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصلَ وطائف وقائم، وعلى غير ذلك من الأحوال، فلما كان تعالى ذكره قد ذكر في قوله: {أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ للطّائِفِينَ والعاكِفِينَ والركّعِ السّجُودِ} المصلين والطائفين، علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من العاكف غير حال المصلي والطائف، وأن التي عنى من أحواله هو العكوف بالبيت على سبيل الجوار فيه، وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا.
يعني تعالى ذكره بقوله: "وَالرّكّعِ" جماعة القوم الراكعين فيه له، واحدهم راكع. وكذلك "السجود" هم جماعة القوم الساجدين فيه له واحدهم ساجد، كما يقال رجل قاعد ورجال قعود، ورجل جالس ورجال جلوس، فكذلك رجل ساجد ورجال سجود. وقيل: بل عنى بالركّع السجود: المصلين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} قيل: المثابة المجمع. وقيل: المثابة المرجع [يثوبون: يرجعون]. وقيل: يحجون.
{مثابة للناس وأمنا} هو فعل العباد لأنهم يأمنون، ويثوبون؛ ... ثم بين فيه عز وجل شدة اشتياق الناس إليه وتمنيهم الحضور بها مع احتمال الشدائد والمشقة وتحمل المؤن مع بعد المسافة والخطوات.
فدل أن الله تعالى بلطفه وكرمه حبب ذلك إلى قلوب الخلق، وأنه جعل آيات الربوبية والوحدانية من تدبير سماوي لا من تدبير البشرية.
وفيه دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ أخبر عما قد كان، فثبت أنه أخبر عن الله عز وجل...
{وأمنا} لمن دخله من عذاب الآخرة. وقيل: {وأمنا} لكل مجرم أوى إليه من القتل وغيره... فإنه لا يقتل ما دام فيه لأنه لا يقتل للكفر هنالك. فعلى ذلك القصاص لقوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} [البقرة: 191] وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن مكة حرام بتحريم الله إياها يوم خلق الله السماوات والأرض؛ لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها" [البخاري 1833 و 1834]... وإذا قتل في الحرم يقتل به هنالك...
وقوله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}... وعندنا: القبلة البيت لقوله: (فولوا وجوهكم شطره) [البقرة: 144 و 150] وقوله: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} [المائدة: 97] أي مقاما لقيام العبادات.
{وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} فيه الأمر ببنائه.
{أن طهرا بيتي} يحتمل التطهير وجهين: أحدهما: من الأصنام والأوثان التي كانت هنالك وعبادة غير الله والأنجاس. والثاني: التطهير من كل أنواع الأقذار ومن كل أنواع المكاسب على ما روي في جملة المساجد.
{للطائفين والعاكفين والركع السجود}... قال أصحابنا رحمهم الله: الطواف للقادم أفضل من الصلاة، والصلاة للمقيم أفضل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَثَابَةً لّلنَّاسِ}: مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار، يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه أي يثوب إليه أعيان الذين يزورونه أو أمثالهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {أمناً} معناه أن الناس يغيرون ويقتتلون حول مكة وهي آمنة من ذلك،وأضاف الله البيت إلى نفسه تشريفاً للبيت، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك. قال القاضي أبو محمد: والعكوف في اللغة اللزوم للشيء والإقامة عليه،فمعناه لملازمي البيت إرادة وجه الله العظيم.
و {الركع السجود} المصلون، وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى، وكل مقيم عند بيت الله إرادة ذات الله فلا يخلو من إحدى هذه الرتب الثلاث، إما أن يكون في صلاة أو في طواف فإن كان في شغل من دنياه فحال العكوف على مجاورة البيت لا يفارقه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
هَذَا تَنْبِيهٌ مِن اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى فَضْلِهِ، وَتَعْدِيدٌ لِنِعَمِهِ الَّتِي مِنْهَا أًنْ جَعَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ لِلْعَرَبِ -عُمُومًا وَلِقُرَيْشٍ خُصُوصًا- مَثَابَةً لِلنَّاسِ...
اعلم أنه تعالى بين كيفية حال إبراهيم عليه السلام حين كلفه بالإمامة، وهذا شرح التكليف الثاني، وهو التكليف بتطهير البيت، والسبب في أنه تعالى أطلق لفظ البيت وعنى به الحرم كله، أن حرمة الحرم لما كانت معلقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت...
{جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا}: خبر، فتارة نتركه على ظاهره ونقول أنه خبر، وتارة نصرفه عن ظاهره ونقول أنه أمر:
(أما القول الأول): فهو أن يكون المراد أنه تعالى جعل أهل الحرم آمنين من القحط والجدب على ما قال: {أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا} وقوله: {أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء} ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم، لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه، وأيضا فالقتل المباح قد يوجد فيه، قال الله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} فأخبر عن وقوع القتل فيه.
(القول الثاني): أن نحمله على الأمر على سبيل التأويل، والمعنى أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع أمنا من الغارة والقتل، فكان البيت محترما بحكم الله تعالى، وكانت الجاهلية متمسكين بتحريمه، لا يهيجون على أحد التجأ إليه، وكانوا يسمون قريشا: أهل الله تعظيما له، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليهم بالظبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكلب...
أما قوله: {أن طهرا بيتي} فيجب أن يراد به التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت، فإذا كان موضع البيت وحواليه مصلى وجب تطهيره من الأنجاس والأقذار، وإذا كان موضع العبادة والإخلاص لله تعالى: وجب تطهيره من الشرك وعبادة غير الله...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{وعهِدنا}: عبارة عن الأمر والوصية.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً}: لما رد على اليهود في إنكارهم التوجه إلى الكعبة، وكانت الكعبة بناء إبراهيم أبيهم، كانوا أحق بتعظيمها، لأنها من مآثر أبيهم. ولوجه آخر من إظهار فضلها، وهو كونها مثابة للناس وأمناً، وأن فيها مقام إبراهيم، وأنه تعالى أوحى إليه وإلى ولده ببنائها وتطهيرها، وجعلها محلاً للطائف والعاكف والراكع والساجد، وأمره بأن ينادي في الناس بحجها.
ولو قال: القائم هنا معناه: العاكف، من قوله: ما دمت عليه قائماً، لكان حسناً، ويكون في ذلك جمع بين أحوال من دخل البيت للتعبد، لأنه لا يخلو إذ ذاك من طواف أو اعتكاف أو صلاة، فيكون حمله على ذلك أجمع لما هيئ البيت له...
وقدّم الركوع على السجود لتقدمه عليه في الزمان، وجمعا جمع تكسير لمقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة، فكان ذلك تنويعاً في الفصاحة، وخالف بين وزني تكسيرهما تنويعاً في الفصاحة أيضاً، وكان آخرهما على فعول، لا على فعل، لأجل كونها فاصلة، والفواصل قبلها وبعدها آخر ما قبله حرف مدّ ولين، وعطفت تينك الصفتان لفرط التباين بينهما بأي تفسير فسرتهما مما سبق. ولم يعطف السجود على الركع، لأن المقصود بهما المصلون. والركع والسجود، وإن اختلفت هيآتهما فيقابلهما فعل واحد وهو الصلاة. فالمراد بالركع السجود: المصلون، فناسب أن لا يعطف، لئلا يتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها، وليستا مجتمعتين في عبادة واحدة، وليس كذلك.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية: أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس، أي: جعله مَحَلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددَت إليه كلَّ عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم، عليه السلام، في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} إلى أن قال: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 37 -40]
ويصفه تعالى بأنه جعله أمنًا، من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا. ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له، إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها، وركوعها، وسجودها، ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واجتزأ بذكر الركوع والسجود عن القيام؛ لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام. وفي ذلك- أيضًا -رَدّ على من لا يحجه من أهل الكتابين: اليهود والنصارى؛ لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وعظمته، ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئًا من ذلك، فكيف يكونون مقتدين بالخليل، وهم لا يفعلون ما شرع الله له؟ وقد حَجَّ البيتَ موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم السلام، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من إمامته اتباع الناس له في حج البيت الذي شرفه الله ببنائه، قال إثر ذلك ناعياً على أهل الكتاب مخالفته وترك دينه وموطئاً لأمر القبلة:
{وإذ جعلنا البيت} أي الذي بناه إبراهيم بأم القرى {مثابة للناس} أي مرجعاً يرجعون إليه بكلياتهم. كلما تفرقوا عنه اشتاقوا إليه هم أو غيرهم آية على رجوعهم من الدنيا إلى ربهم.
قال الحرالي: وهو مفعلة من الثوب وهو الرجوع ترامياً إليه بالكلية. وفي صيغة المفعلة دوام المعاودة مثابرة {وأمناً} لكونه بيت الملك. من حرب الدنيا ومن عذاب الآخرة إلا في حق من استثناه الله من الكافرين فعلاً بالشرك وقوة بالإلحاد، والأمن براءة عيب من تطرق أذى إليه -قاله الحرالي...
ولما كان التقدير: فثاب الناس إليه ائتماماً ببانيه وآمنوا بدعوته فيه عطف عليه قوله: {واتخذوا}، وعلى قراءة الأمر يكون التقدير: فثوبوا إليه أيها الناس ائتماماً به واتخذوا {من مقام إبراهيم} خليلنا {مصلى}...
{وعهدنا} عطف على قوله {جعلنا} {إلى إبراهيم} الوفي {وإسماعيل} ابنه الصادق الوعد، وفي ذكره إفصاح بإجابة دعوته فيه في قوله: {ومن ذريتي} [البقرة: 124] و [إبراهيم: 37] وإشارة إلى أن في ذريته من يختم الأمم بأمته ويكون استقباله بيته في أجل العبادات من شرعته.
وأتم الإشارة بقوله: {أن طهرا بيتي} أي عن كل رجس حسي ومعنوي، فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع؛ والبيت موضع المبيت المخصوص من الدار المخصوصة من المنزل المختص من البلد- قاله الحرالي.
{للطائفين} به الذين فعلهم فعل العارف بأنه ليس وراء الله مرمى ولا مهرب منه إلا إليه.
{والعاكفين} فيه، والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته والاقتصار عليه. والطواف التحليق بالشيء في غيب أو لمعنى غيب -قاله الحرالي.
{والركع السجود} قال الحرالي: وفي ذكر الركوع تخصيص للعرب الذين إنما شرع الركوع في دينهم، وفي ذلك تبكيت لمن أخرج المؤمنين ومنعهم من البيت، وفي تكرير تفصيل هذه الآيات ب"إذ" تنبيه على توبيخهم بترك دينه وهو الخليل واتباع من لا يعلم وهو العدو...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
كأن الأصل في الآية: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ومصلى. إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك، ودون أن يقال مثلا: واتخذوا منه مصلى لوجوه:
(أحدها): التنويه بأمر الصلاة فيه والتعظيم لشأنها حيث أفرد، للعناية بها، جملة على حدة.
(وثانيها): التذكير بأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة. وما كان مقامه فجدير أن يحترم ويعظم.
(وثالثها): التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر، تمهيدا للأمر باستقباله، وإلزاما لمن جادل فيه، وهم اليهود.
وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
يذكر الله تعالى العرب بهذه النعمة أو النعم العظيمة وهي جعل البيت الحرام مرجعا للناس يقصدونه ثم يثوبون إليه، ومأمنا لهم في تلك البلاد بلاد المخاوف التي يتخطف الناس فيها من كل جانب، وبدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للبيت وأهله المؤمنين، وفي هذا التذكير ما فيه من الفائدة في تقرير دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبيان بنائها على أصول ملة إبراهيم، الذي تحترمه قريش وغيرها من العرب وقد اختار المثابة على نحو القصد والمزار، لأن لفظ المثابة يتضمن هذا وزيادة فإنه لا يقال: ثاب المرء إلى الشيء إلا إذا كان قصده أولا ثم رجع إليه. ولما كان البيت معبدا وشعارا عاما كان الناس الذين يدينون بزيارته والقصد إليه للعبادة يشتاقون الرجوع إليه، فمن سهل عليه أن يثوب إليه فعل، ومن لم يتمكن من الرجوع إليه بجثمانه، رجع إليه بقلبه ووجدانه، وكونه مثابة للناس أمر معروف في الجاهلة والإسلام، وهو يصدق برجوع بعض زائريه إليه، وحنين غيرهم وتمنيهم له عند عجزهم عنه. وكذلك جعله أمنا معروف عندهم فقد كان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يزعجه، على ما هو معروف عندهم من حب الانتقام والتفاخر بأخذ الثأر...
(الأستاذ الإمام): قد يقال: ما وجه المنة على العرب عامة بكون البيت أمنا للناس والفائدة فيه إنما هي للجُنَاة والضعفاء الذين لا يقدرون على المدافعة عن أنفسهم؟ والجواب عن هذا: أنه ما من قوي إلا ويوشك أن يضطر في يوم من الأيام إلى مفزع يلجأ إليه لدفع عدو أقوى منه أو لهدنة يصطلح في غضونها مع خصم يرى سلمه خيرا من حربه، وولاءه أولى من عدائه، فبلاد كلها أخطار ومخاوف لا راحة فيها لأحد. وقد بين الله المنة على العرب إذ جعل لهم مكانا آمنا بقوله في سورة العنكبوت {29: 67 أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون؟}...
{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} قرأ نافع وابن عامر "واتخَذوا "بفتح الخاء على أنه فعل ماض معطوف على "جعلنا" والباقون بكسرها على أنه أمر أي وقلنا اتخِذوا أو قائلين اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فحذف القول للإيجاز، وفائدته أن يستحضر ذهن التالي أو السامع المأمورين حاضرين والأمر يوجه إليهم، فهو تصوير للماضي بصورة الحاضر ليقع في نفوس المخاطبين بالقرآن أن الأمر يتناولهم، وأنه موجه إليهم كما وجه إلى سلفهم في عهد أبيهم إبراهيم؛ وهم ولده إسماعيل وآل بيته ومن أجاب دعوتهما إلى حج البيت، لا أنه حكاية تاريخية سيقت للفكاهة والتسلية بل شريعة ودين. وهذا القول أحسن من قول بعضهم إن "اتخِذوا" أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن ذلك القول يقتصر على معنى صيغة الأمر وما قلنا يتضمن مع ذلك معنى القراءة بصيغة الماضي الدالة على أن إبراهيم ومن معه قد اتخذوا مقامه مصلى، ولأنه أبلغ لما فيه من تحريك شعور الخلف بشرف عمل السلف وبعثهم على الافتداء بهم...
{وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي...} عهد إليه بالشيء وصّاه به، والمراد أن الله كلفهما أن يطهرا ذلك المكان الذي نسبه إليه وسماه بيته لأنه جعله معبدا فيه العبادة الصحيحة. ولم يذكر ما يجب أن يطهراه منه ليشمل جميع الرجس الحسي والمعنوي كالشرك وأصنامه واللغو والرفث والتنازع...
وتخصيص الله تعالى ذلك البيت بالنسبة إلى ذاته المنزهة عن صفات الأجسام ليس لخصوصية في موقعه ولا في أحجاره، وإنما كان بيتا لله لأن الله تعالى سماه بيته وأمر بأن يتوجه إليه المصلون، وبأن يعبد فيه عبادة خاصة. والحكمة في ذلك أن البشر يعجزون عن التوجه إلى موجود غيبي مطلق لا يتقيد بمكان ولا ينحصر في جهة وهم في حاجة إلى التوجه إلى خالقهم وشكره والتوسل إليه والثناء عليه واستمداد رحمته ومعونته لما في ذلك من الفائدة لهم، لأنه يعلي مداركهم عن التقيد في دائرة الأسباب المعروفة على ضيقها وعن الاستخذاء لما لا يعرفون له سببا، ويرفع نفوسهم عن الرضى بالحياة الحيوانية. فله الحمد والمنة أن عين لهم مكانا نسبه إليه فسماه بيته رمزا إلى أن ذاته المقدسة تحضره، فإذا كان الحضور الحقيقي محالا عليها، فإنها تحضره رحمته الإلهية، ولذلك كان التوجه إليه بمنزلة التوجه إلى تلك الذات العلية، لو وجد العبد إلى ذلك سبيلا. ولو كلف الله عباده بعبادته مطلقا- وقد علمهم بنظر العقل وإرشاد الشرع أنه ليس كمثله شيء لوقعوا في الحيرة والاضطراب لا يدرون كيف يتوجهون إلى ذات غيبية مطلقة. ولو اختار بعضهم لنفسه عبادة تليق بهذا التنزيه الذي أرشد إليه الكتاب وصدقه العقل لما اهتدى إليه الآخرون وبذلك يفقد المؤمنون الجامعة التي تجمعهم على أفضل الأعمال التي تؤلف بين قلوبهم، لذلك قلنا: إن الله رحمهم إذ جعل لنفسه بيتا يقصدونه ويثوبون إليه عند الإمكان، ويتوجهون إليه في صلاتهم وإن بعد المكان، ولا يخشى على المؤمن توهم الحلول في ذات الله بنسبة البيت إليه بعد ما نفى سبحانه كل إيهام بقوله {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم}...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم ذكر تعالى، نموذجا باقيا دالا على إمامة إبراهيم، وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده، ركنا من أركان الإسلام، حاطا للذنوب والآثام. وفيه من آثار الخليل وذريته، ما عرف به إمامته، وتذكرت به حالته فقال: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} أي: مرجعا يثوبون إليه، لحصول منافعهم الدينية والدنيوية، يترددون إليه، ولا يقضون منه وطرا، {و} جعله {أَمْنًا} يأمن به كل أحد، حتى الوحش، وحتى الجمادات كالأشجار. ولهذا كانوا في الجاهلية -على شركهم- يحترمونه أشد الاحترام، ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم، فلا يهيجه، فلما جاء الإسلام، زاده حرمة وتعظيما، وتشريفا وتكريما... وأضاف الباري البيت إليه لفوائد، منها: أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره، لكونه بيت الله، فيبذلان جهدهما، ويستفرغان وسعهما في ذلك. ومنها: أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه. ومنها: أن هذه الإضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تدرجُ في ذكر منقبة إبراهيم إذ جعل الله بيته بهذه الفضيلة. و (إذ) أضافها إلى جلالته فقال: (بيتي)، واستهلالٌ لفضيلة القبلة الإسلامية، فالواو عاطفة على {ابتلى} [البقرة: 124]
وأعيدت (إذ) للتنبيه على استقلال القصة وأنها جديرة بأن تعد بنية أخرى، ولا التفات إلى حصول مضمون هذه بعد حصول الأخرى أو قبله إذ لا غرض في ذلك في مقام ذكر الفضائل، ولأن الواو لا تفيد ترتيباً...
والبيت اسم جنس للمكان المتخذ مسكناً لواحد أو عدد من الناس في غرض من الأغراض، وهو مكان من الأرض يحيط به ما يميزه عن بقية بقعته من الأرض ليكون الساكن مستقلاً به لنفسه ولمن يتبعه فيكون مستقَراً له وكناً يكنه من البرد والحر وساتراً يستتر فيه عن الناس ومحطاً لأثاثه وشؤونه، وقد يكون خاصاً وهو الغالب وقد يكون لجماعة مثل دار الندوة في العرب وخيمة الاجتماع في بني إسرائيل، وقد يكون محيط البيت من حجر وطين كالكعبة ودار الندوة، وقد يكون من أديم مثل القباب، وقد يكون من نسيج صوف أو شعر قال تعالى: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها} [النحل: 80]، ولا يكون بيتاً إلا إذا كان مستوراً أعلاه عن الحر والقُر وذلك بالسقف لبيوت الحجر وبيوت الأديم والخيام...
ولما كان المقصود من هذا ذكر منقبة البيت والمنة على ساكنيه كان الغرض التذكير بنعمة الله أن جعله لا ينصرف عنه قوم إلا ويخلفهم قوم آخرون، فكان الذين يخلفون الزائرين قائمين مقامهم بالنسبة للبيت وسكانه، ويجوز حمل تعريف الناس على العهد أي يثوب إليه الناس الذين ألفوه وهم كُمَّل الزائرين فهم يعودون إليه مراراً، وكذلك كان الشأن عند العرب...
وقوله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} قرأه نافع وابن عامر بصيغة الماضي عطفاً على {جعلنا} فيكون هذا الاتخاذ من آثار ذلك الجعل فالمعنى ألهمنا الناس أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، أو أمرناهم بذلك على لسان إبراهيم فامتثلوا واتخذوه، فهو للدلالة على حصول الجعل بطريق دلالة الاقتضاء فكأنه قيل جعلنا ذلك فاتخذوا...
والمراد من تطهير البيت ما يدل عليه لفظ التطهير من محسوس بأن يحفظ من القاذورات والأوساخ ليكون المتعبِّد فيه مقبلاً على العبادة دون تكدير، ومِن تطهير معنوي وهو أن يُبْعَد عنه ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام والأفعال المنافية للحق كالعدوان والفسوق، والمنافية للمروءة كالطواف عرياً دون ثياب الرجال والنساء. وفي هذا تعريض بأن المشركين ليسوا أهلاً لعمارة المسجد الحرام لأنهم لم يطهروه مما يجب تطهيره منه قال تعالى: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} [الأنفال: 34] وقال: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس} [التوبة: 28]...
والطائفون والعاكفون والراكعون والساجدون أصناف المتعبدين في البيت من طوافٍ واعتكاف وصلاة، وهم أصناف المتلبسين بتلك الصفات سواء انفردت بعض الطوائف ببعض هذه الصفات أو اجتمعت الصفات في طائفة أو طوائف، وذلك كله في الكعبة قبل وضع المسجد الحرام، وهؤلاء هم إسماعيل وأبناؤه وأصهاره من جرهم وكلّ من آمن بدين الحنيفية من جيرانهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإطلاق كلمة "البيت "وإرادة البيت الحرام إشعار بفضله، وإشارة إلى كماله، وإلى أنه أكمل بيت وضع للناس، لأنه أول بيت للعبادة، ولأنه بناء إبراهيم أبي الأنبياء، ولأنه موضع الأمن من الخوف، ومثابة الناس، ولأنه أنشئ مطهرا من الأصنام وما جاء بها العرب بعد ذلك إلا بعد أن انحرفوا عن ملة إبراهيم وإن كان – البيت – شرفهم ومحتدهم الكريم...
{مثابة للناس وأمنا} فيه إشارة أولا إلى أن الكعبة مثابة للناس، يجيئون إليها في حجهم، كما صرح سبحانه وتعالى، وفيها قبلتهم إذ يثوبون إليها في الصلاة ويلتفون حولها التفاف الدائرة حول قطبها، فهم يتجهون إليها من كل أرض الله تعالى...
وإن باني الكعبة المكرمة إبراهيم عليه السلام هو وابنه إسماعيل عليه السلام، وإنه ليبقى الاتصال بين الحاضر والماضي أمر الله تعالى أن يكون مقام إبراهيم للبناء مصلى لمن جاء بعده من الذين سماهم إبراهيم المسلمين، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا قال الله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}...
وإن اتخاذ مقام إبراهيم مكانا للصلاة إبقاء لذكر إبراهيم عليه السلام وتنويها بالصلاة في ذاتها وأنها الصلة بين الماضي والحاضر، وقد كانت بأمر الله تعالى، وليست بدعا قد أتيها...
[و] لقد أقام البناء للبيت العتيق نبيان، وبهذا البناء بنيا مجد العرب وبنيا أمنهما ومكان عبادة الناس، ومثابتهم التي يستقبلونها فيحيطون بها. وقد بنياه طاهرا، مطهرا، وعهد الله تعالى إلى اللذين بنياه أن يقوما على استمرار طهارته ليتحقق الغرض الأول، وهو أن يكون مقصدا للحجيج الطائفين والذين يجاورونه عاكفين على العبادة فيه، فقال تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود}... والعهد في هذا النص السامي، من عهد إلى هذا برعاية بيته أو أهله في غيبه. فمعنى {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل}، أي جعلنا لهما عهدا وفوضناهما برعاية البيت إنشاء وتطهيرا وقوله تعالى: {أن طهرا بيتي} تفسير للعهد المذكور... ويصح على هذا أن نقول إن العهد أن يبنياه مطهرا من كل خبث في بنائه بقلب سليم، ونفس مخلصة لوجه الله تعالى، وأن يجعلاه طاهرا معنى وحسا ليكون للقاصدين له من غير مكة، والمقيمين حوله، وسماهم هنا العاكفين مشيرا إلى أن البقاء بجواره مجاورين له قائمين بحقه عبادة، وعبر في الآية الأخرى بالقائمين أي المستمرين حوله...
الحق سبحانه وتعالى يقول: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا}.. تأمل كلمة البيت وكلمة مثابة..
بيت مأخوذ من البيتوتة وهو المأوى الذي تأوي إليه وتسكن فيه وتستريح وتكون فيه زوجتك وأولادك.. ولذلك سميت الكعبة بيتا لأنها هي المكان الذي يستريح إليه كل خلق الله..
ومثابة يعني مرجعا تذهب إليه وتعود.. ولذلك فإن الذي يذهب إلى بيت الله الحرام مرة يحب أن يرجع مرات ومرات.. إذن فهو مثابة له لأنه ذاق حلاوة وجوده في بيت ربه.. وأتحدى أن يوجد شخص في بيت الله الحرام يشغل ذهنه غير ذكر الله وكلامه وقرآنه وصلاته.. تنظر إلى الكعبة فيذهب كل ما في صدرك من ضيق وهم وحزن ولا تتذكر أولادك ولا شئون دنياك ولو ظلت جاذبية بيت الله في قلوب الناس مستمرة لتركوا كل شئون دنياهم ليبقوا بجوار البيت.. ولذلك كان عمر بن الخطاب حريصا على أن يعود الناس إلى أوطانهم وأولادهم بعد انتهاء مناسك الحج مباشرة...