فلذلك لما دخلوا عليه بهذه الصورة ، فزع منهم وخاف ، فقالوا له : نحن { خَصْمَانِ } فلا تخف { بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } بالظلم { فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } أي : بالعدل ، ولا تمل مع أحدنا { وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ }
والمقصود من هذا ، أن الخصمين قد عرف أن قصدهما الحق الواضح الصرف ، وإذا كان ذلك ، فسيقصان عليه نبأهما بالحق ، فلم يشمئز نبي اللّه داود من وعظهما له ، ولم يؤنبهما .
ومع هذا كله فقد تعرض داود للفتنة والابتلاء ؛ وكانت عين الله عليه لترعاه وتقود خطاه ، وكانت يد الله معه تكشف له ضعفه وخطأه ، وتوقيه خطر الطريق وتعلمه كيف يتوقاه :
( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ? إذ دخلوا على داود ففزع منهم . قالوا : لا تخف . خصمان بغى بعضنا على بعض . فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط . واهدنا إلى سواء الصراط . إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ، فقال : أكفلنيها ، وعزني في الخطاب . قال : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات - وقليل ما هم - وظن داود أنما فتناه . فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب ) . .
وبيان هذه الفتنة أن داود النبي الملك ، كان يخصص بعض وقته للتصرف في شؤون الملك ، وللقضاء بين الناس . ويخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحاً لله في المحراب . وكان إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه أحد حتى يخرج هو إلى الناس .
وفي ذات يوم فوجى ء بشخصين يتسوران المحراب المغلق عليه . ففزع منهم . فما يتسور المحراب هكذا مؤمن ولا أمين ! فبادرا يطمئنانه . ( قالوا : لا تخف . خصمان بغى بعضنا على بعض ) . وجئنا للتقاضي أمامك ( فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ) . .
وقوله تعالى : { ففزع منهم } يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه ، وإنما فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان ، وقيل إن ذلك كان ليلاً ، ذكره الثعلبي ، ويحتمل أن يكون فزعه من أين يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان ، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين . ويحتمل قولهم : { لا تخف } أنهم فهموا منه عليه السلام خوفه .
وهنا قصص طول الناس فيها ، واختلفت الروايات به ، ولا بد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به ، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام ، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها ، فأفتى بفتيا هي واقفة عليه في نازلته ، ولما شعر وفهم المراد ، خر وأناب واستغفر ، وأما نازلته التي وقع فيها ، فروي أنه عليه السلام جلس في ملإ من بني إسرائيل فأعجب بعمله ، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف على نفسه الفتنة ، ويقال بل وقعت له في مثل هذا مجاورة مع الملكين الحافظين عليه فقال لهما : جرباني يوماً ، فإني وإن غبتما عني لا أواقع مكروهاً . وقال السدي : كان داود قد قسم دهره : يوماً يقضي فيه بين الناس ، ويوماً لعبادته ، ويوماً لشأن نفسه ، ففتن يوم خلوه للعبادة لما تمنى أن يعطى مثل فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، والتزم أن يمتحن كما امتحنوا ، وقيل في السبب غير هذا مما لا يصح تطويله . قال ابن عباس ما معناه : أنه أخذ داود يوماً في عبادته وانفرد في محرابه يصلي ويسبح إذ دخل عليه طائر من كوة ، فوقع بين يديه ، فروي أنه كان طائراً حسن الهيئة : حمامة ، فمد داود يده ليأخذه فزل مطمعاً له فما زال يتبعه حتى صعد الكوة التي دخل منها فصعد داود ليأخذه ، فتنحى له الطائر ، فتطلع داود عليه السلام ، فإذا هو بامرأة تغتسل عريانة ، فرأى منظراً جميلاً فتنه ، ثم إنها شعرت به ، فأسبلت شعرها على بدنها فتجللت به ، فزاده ولوعاً بها ، ثم إنه انصرف وسأل عنها ، فأخبر أنها امرأة رجل من جنده يقال له : أوريا وإنه في بعث كذا وكذا ، فيروى أنه كتب إلى أمير تلك الحرب أن قدم فلاناً يقاتل عند التابوت ، وهو موضع بركاء الحرب قلما يخلص منه أحد ، فقدم ذلك الرجل حتى استشهد هنالك .
ويروى أن داود كتب أن يؤمر ذلك الرجل على جملة من الرجال ، وترمى به الغارة والوجوه الصعبة من الحرب ، حتى قتل في الثالثة من نهضاته ، وكان لداود فيما روي تسع وتسعون امرأة ، فلما جاءه الكتاب بقتل من قتل في حربه ، جعل كلما سمي رجل يسترجع ويتفجع ، فلما سمي الرجل قال : كتب الموت على كل نفس ، ثم إنه خطب المرأة وتزوجها ، فكانت أم سليمان فيما روي عن قتادة فبعث الله تعالى إليه الخصم ليفتي بأن هذا ظلم . وقالت فرقة : إن هذا كله هم به داود ولم يفعله ، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك . وقال آخرون : إنما الخطأ في أن لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده ، إذ كان عنده أمر المرأة .
قال القاضي أبو محمد والرواة على الأول أكثر ، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق . وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الأمة ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله .
وقوله : { خصمان } تقديره : نحن خصمان ، وهذا كقول الشاعر : [ الطويل ]
وقولا إذا جاوزتما أرض عامر*** وجاوزتما الحيين نهداً وخثعما
نزيعان من جرم ابن زبان إنهم***أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما
ونحوه قال العرب في مثل : " محسنة فهيلي " ، التقدير : أنت محسنة ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «آيبون تائبون »
و : { بغى } معناه : اعتدى واستطال ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
ولكن الفتى حمل بن بدر*** بغى والبغي مرتعه وخيم
وقوله : { فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } إغلاظ على الحاكم واستدعاء بعدله ، وليس هذا بارتياب منه ، ومنه قول الرجل للنبي عليه السلام : فاحكم بيننا بكتاب الله .
وقرأ جمهور الناس : «ولا تُشطِط » بضم التاء وكسر الطاء الأولى ، معناه : ولا تتعد في حكمك . وقرأ أبو رجاء وقتادة : «تَشطُط » بفتح التاء وضم الطاء ، وهي قراءة الحسن والجحدري ، ومعناه : ولا تبعد ، يقال : شط إذا بعد ، وأشط إذا أبعد غيره .
وقرأ زر بن حبيش «تُشاطط » بضم التاء وبالألف . و : { سواء الصراط } معناه : وسط الطريق ولا حبه .
و{ إذْ دَخلُوا } بدل من { إذْ تَسَوَّرُوا } لأنهم تسوروا المحراب للدخول على داود .
والفزع : الذُّعر ، وهو انفعال يظهر منه اضطراب على صاحبه من توقع شدة أو مفاجأة ، وتقدم في قوله : { لا يحزنهم الفزع الأكبر } في سورة [ الأنبياء : 103 ] . قال ابن العربي في كتاب « أحكام القرآن » : إن قيل : لِم فَزع داود وقد قويت نفسه بالنبوءة ؟ وأجاب بأن الله لم يضمن له العصمة ولا الأمن من القتل وكان يخاف منهما وقد قال الله لموسى { لا تَخَف } وقبلَه قيل للوط . فهم مُؤمَّنون من خوف ما لم يكن قيل لهم إنكم منه معصومون اه .
وحاصل جوابه : أن ذلك قد عرض للأنبياء إذ لم يكونوا معصومين من إصابة الضرّ حتى يؤمّن الله أحدَهم فيطمئن والله لم يؤمن داود فلذلك فزع . وهو جواب غير تام الإِقناع لأن السؤال تضمن قول السائل وقد قويت نفسه بالنبوءة فجعل السائل انتفاءَ تطرّق الخوف إلى نفوس الأنبياء أصلاً بنى عليه سؤاله ، وهو أجاب بانتفاء التأمين فلم يطابق سؤال السائل . وكان الوجه أن ينفي في الجواب سلامة الأنبياء من تطرق الخوف إليهم . والأحسن أن نجيب :
أولاً : بأن الخوف انفعال جبليّ وضعه الله في أحوال النفوس عند رؤية المكروه فلا تخلو من بوادره نفوس البشر فيعرض لها ذلك الانفعال بادِىءَ ذي بَدءٍ ثم يطرأ عليه ثبات الشجاعة فتدفعه على النفس ونفوس الناس متفاوتة في دوامه وانقشاعه ، فأمَّا إذا أمَّن الله نبيئاً فذلك مقام آخر كقوله لموسى { لا تخف } وقوله للنبيء صلى الله عليه وسلم { فسيكفيكهم اللَّه } [ البقرة : 137 ] .
وثانياً : بأن الذي حصل لداود عليه السلام فزع وليس بخوف . والفَزع أعمّ من الخوف إذ هو اضطراب يحصل من الإِحساس بشيء شأنُه أن يتخلص منه وقد جاء في حديث خسوف الشمس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فَزِعاً ، أي مسرعاً مبادراً للصلاة توقّعاً أن يكون ذلك الخسوف نذير عذاب " ، ولذلك قال القرآن { فَفَزِعَ منهم } ولم يقل : خاف . وقال في إبراهيم عليه السلام { فأوجس منهم خِيفَة } [ الذاريات : 28 ] أي توجُّساً ما لم يبلغ حدّ الخوف . وأما قول الخصم لداود { لاَ تَخَف } فهو قول يقوله القادِم بهيئة غير مألوفة من شأنها أن تريب الناظر .
وثالثاً : أن الأنبياء مأمورون بحفظ حياتهم لأن حياتهم خير للأمة فقد يفزع النبي من توقع خطر خشية أن يكون سبباً في هلاكه فينقطع الانتفاع به لأمته . وقد جاء في حديث عائشة : « أن النبي صلى الله عليه وسلم أرق ذات ليلة فقال : ليَت رجلاً صالحاً من أصحابي يَحرسنِي الليلةَ إذ سمعنا صوت السلاح فقال : من هذا ؟ قال : سَعد بن أبي وقاص جئتُ لأحرسك . قالت : فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه » .
وروى الترمذي : أن العباس كان يحرس النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى : { واللَّه يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] فتركت الحراسة .
ومعنى { بَغَى بعضنا } اعتدى وظلم . والبغي : الظلم ، والجملة صفة ل { خَصْمَانِ } والرابط ضمير { بعضنا } ، وجاء ضمير المتكلم ومعه غيره رعياً لمعنى { خصمان } .
ولم يبينا الباغي منهما لأن مقام تسكين روع داود يقتضي الإِيجاز بالإِجمال ثم يعقبه التفصيل ، ولإِظهار الأدب مع الحاكم فلا يتوليان تعيين الباغي منهما بل يتركانه للحاكم يعيّن الباغي منهما في حكمه حين قال لأحدهما : { لقد ظلمكَ بسؤالِ نعجتك إلى نعاجه } .
والفاء في { فاحْكم بيننا بالحق } تفريع على قوله : { خصمان } لأن داود عليه السلام لمّا كان مَلِكاً وكان اللذان حضرا عنده خصمين كان طلب الحكم بينهما مفرعاً على ذلك .
والباء في { بالحق } للملابسة ، وهي متعلقة ب { احكم . } وهذا مجرد طلب منهما للحق كقول الرجل للنبيء صلى الله عليه وسلم الذي افتدى ابنَه ممن زنى بامرأته : فاحكم بيننا بكتاب اللَّه .
والنهي في { لا تشطط } مستعمل في التذكير والإِرشاد .
و { تشطط } : مضارع أشط ، يقال : أشط عليه ، إذا جَار عليه ، وهو مشتق من الشطط وهو مجاوزة الحد والقدر المتعارف .
ومخاطبة الخصم داود بهذا خارجة مخرج الحرص على إظهار الحق وهو في معنى الذكرى بالواجب فلذلك لا يعدّ مثلها جفاء للحاكم والقاضِي ، وهو من قبيل : اتَّق الله في أمري . وصدوره قبل الحكم أقرب إلى معنى التذكير وأبعد عن الجفاء ، فإن وقع بعد الحكم كان أقرب إلى الجفاء كالذي قال للنبيء صلى الله عليه وسلم في قسمة قسمها « اعْدِل ، فقال له الرسول : ويلك فمن يعدل إن لم أعدل » .
وقد قال علماؤنا في قول الخصم للقاضي : ( اتق الله في أمري ) إنه لا يعد جفاء للقاضي ولا يجوز للقاضي أن يعاقبه عليه كما يعاقب من أساء إليه . وأفتى مالك بسجن فتى ، فقال أبوه لمالك : اتق الله يا مالك ، فوالله ما خُلقت النار باطلاً ، فقال مالك : من الباطل ما فعله ابنك . فهذا فيه زيادة بالتعريض بقوله فوالله ما خلقت النار باطلاً . وقولهما : { واهدنا إلى سواء الصراطِ } يصرف عن إرادة الجفاء من قولهما : { ولا تُشْطِط } لأنهما عرفا أنه لا يقول إلا حقاً وأنهما تطلبا منه الهُدى .
والهدى : هنا مستعار للبيان وإيضاح الصواب . و { سواء الصراط } : مستعار للحق الذي لا يشوبه باطل لأن الصراط الطريق الواسع ، والسواء منه هو الذي لا التواء فيه ولا شُعب تتشعب منه فهو أسرع إيصالاً إلى المقصود باستوائه وأبعد عن الالتباس بسلامته من التشعب .
ومجموع { اهدنا إلى سواء الصراط } تمثيل لحال الحاكم بالعدل بحال المرشد الدال على الطريق الموصلة فهو من التمثيل القابِل تجزئة التشبيه في أجزائه ، ويؤخذ من هنا أن حكم القاضي العدل يُحمل على الجري على الحق وأن الحكم يجب أن يكون بالحق شرعاً لأنه هدي فهو والفتيا سواء في أنهما هدي إلا أن الحكم فيه إلزام .
ومعنى { أكفِلْنِيها } اجعلها في كفالتي ، أي حفظي وهو كناية عن الإِعطاء والهبة ، أي هَبْهَا لي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إذ دخلوا على داود ففزع منهم} فلما رآهما داود قد تسوروا المحرب فزع داود، وقال في نفسه: لقد ضاع ملكي حين يدخل علي بغير أذن.
{قالوا} فقال أحدهما لداود: {لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق} بالعدل.
{واهدنا إلى سواء الصراط}: أرشدنا إلى قصد الطريق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إذْ دَخَلُوا عَلى دَاوُدَ" فكرّر "إذ "مرّتين، وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك: قد يكون معناهما كالواحد، كقولك: ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت، فيكون الدخول هو الاجتراء، ويكون أن تجعل إحداهما على مذهب لما، فكأنه قال: إذ تسوّروا المحراب لما دخلوا، قال: وإن شئت جعلت لما في الأوّل، فإذا كان لما أوّلا أو آخرا، فهي بعد صاحبتها، كما تقول: أعطيته لما سألني، فالسؤال قبل الإعطاء في تقدّمه وتأخره.
وقوله: "فَفَزِعَ مِنْهُمْ": يقول القائل: وما كان وجه فزعه منهما وهما خصمان، فإنّ فزعه منهما كان لدخولهما عليه من غير الباب الذي كان المَدْخَل عليه، فراعه دخولهما كذلك عليه. وقيل: إن فزعه كان منهما، لأنهما دخلا عليه ليلاً في غير وقت نظره بين الناس.
قالوا: "لا تَخَفْ" يقول تعالى ذكره: قال له الخصم: لا تخف يا داود، وذلك لمّا رأياه قد ارتاع من دخولهما عليه من غير الباب...
وقوله عزّ وجلّ "بَغَى بَعْضُنا على بَعْضٍ" يقول: تعدّى أحدنا على صاحبه بغير حقّ.
"فاحْكُمْ بَيْنَنا بالحَقّ" يقول: فاقضِ بيننا بالعدّل، "وَلا تُشْطِطْ": يقول: ولا تَجُر، ولا تُسْرِف في حكمك بالميل منك مع أحدنا على صاحبه...
وقوله: "وَاهْدِنا إلى سَوَاءِ الصّراطِ" يقول: وأرشدنا إلى قَصْد الطريق المستقيم... عن قتادة "وَلا تُشْطِطْ": أي لا تمل...
عن السديّ "وَلا تُشْطِطْ" يقول: لا تُحِف...
قال ابن زيد، في قوله: "وَلا تُشْطِطْ": تخالف عن الحقّ.
وكالذي قلنا أيضا في قوله: "وَاهْدِنا إلى سَوَاءِ الصّراطِ"... عن قتادة "وَاهْدِنا إلى سَوَاء الصّراطِ": إلى عدله وخيره...
قال ابن زيد، في قوله: "وَاهْدِنا إلى سَوَاء الصّراطِ" قال: إلى الحقّ الذي هو الحقّ: الطريق المستقيم، "وَلا تُشْطِطْ": تذهب إلى غيرها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {ففزع منهم} يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه، وإنما فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان، وقيل إن ذلك كان ليلاً، ذكره الثعلبي، ويحتمل أن يكون فزعه من أين يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين. ويحتمل قولهم: {لا تخف} أنهم فهموا منه عليه السلام خوفه.
وهنا قصص طول الناس فيها، واختلفت الروايات به، ولا بد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها، فأفتى بفتيا هي واقفة عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد، خر وأناب واستغفر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
كأن المحراب الذي تسوروه كان فيه باب من داخل باب آخر، فنبه على ذلك بأن أبدل من "إذ "الأولى قوله: {إذ} أي حين {دخلوا} وصرح باسمه رفعاً للبس وإشعاراً بما له من قرب المنزلة وعظيم الود فقال: {على داود} ابتلاء منا له مع ما له من ضخامة الملك وعظم القرب منا، وبين أن ذلك كان على وجه يهول أمره إما لكونه في موضع لا يقدر عليه أحد أو غير ذلك بقوله: {ففزع} أي ذعر وفرق وخاف {منهم} أي مع ما هو فيه من ضخامة الملك وشجاعة القلب وعلم الحكمة وعز السلطان.
ولما كان كأنه قيل: فما قالوا له؟ قال: {قالوا لا تخف} ولما كان ذلك موجباً لذهاب الفكر في شأنهم كل مذهب، عينوا أمرهم بقولهم: {خصمان} أي نحن فريقان في خصومة.
ثم بينوا ذلك بقولهم: {بغى بعضنا} أي طلب طلبة علو واستطالة.
{على بعض} فأبهم أولاً ليفصل ثانياً فيكون أوقع في النفس.
{فاحكم بيننا بالحق} أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، وإنما سألاه ذلك مع العلم بأنه لا يحكم إلا بالعدل ليكون أجدر بالمعاتبة عند أدنى هفوة.
{ولا تشطط} أي لا توقع البعد ومجاوزة الحد لا في العبارة عن ذلك، بحيث يلتبس علينا المراد ولا في غير ذلك، أو ولا تمعن في تتبع مداق الأمور فإني أرضى بالحق على أدنى الوجوه، ولذا أتى به من الرباعي والثلاثي بمعناه، قال أبو عبيد: شط في الحكم وأشط -إذا جار، ولذا أيضاً فك الإدغام إشارة إلى أن النهي إنما هو عن الشطط الواضح جداً.
ولما كان الحق له أعلى وأدنى وأوسط، طلبوا التعريف بالأوسط فقالوا {واهدنا} أي أرشدنا.
{الصراط} الطريق الواضح، فلا يكون بسبب التوسط ميل إلى أحد الجانبين: الإفراط في تتبع مداق الأمور والتفريط في إهمال ذلك...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودُ} إذ هذه بدل من {إذ} [ص: 21] الأولى بدل كل من كل بأن يجعل زمان التسور وزمان الدخول لقربهما بمنزلة المتحدين، أو بدل اشتمال بأن يعتبر الامتداد أو ظرف لتسوروا ويعتبر امتداد وقته، وإلا فالتسور ليس في وقت الدخول.
والفزع انقباض ونِفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف، وسبب الفزع قيل: إنهم نزلوا من فوق الحائط وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله لا يتركون من يريد الدخول عليه، فخاف عليه السلام أن يؤذوه لاسيما على ما حكى أنه كان ليلاً، وقال أبو الأحوص: فزع منهم لأنهما دخلا عليه وكل منهما آخذ برأس صاحبه، وقيل: فزع منهم لما رأى من تسورهم موضعاً مرتفعاً جداً لا يمكن أن يرتقي إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد، والظاهر أن فزعه ليس إلا لتوقع الأذى لمخالفة المعتاد...
{فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ}...وأحد الخصمين قد يقول نحو ذلك للإيماء إلى أنه المحق، وقد يقوله اتهاماً للحاكم، وفيه حينئذ من الفظاظة ما فيه؛ وعلى ما ذكرنا أولاً فيه بعض فظاظة، وفي تحمل داود عليه السلام لذلك منهم دلالة على أنه يليق بالحاكم تحمل نحو ذلك من المتخاصمين لاسيما إذا كان ممن معه الحق فحال المرء وقت التخاصم لا يخفى...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفزع: الذُّعر، وهو انفعال يظهر منه اضطراب على صاحبه من توقع شدة أو مفاجأة.
والخوف انفعال جبليّ وضعه الله في أحوال النفوس عند رؤية المكروه فلا تخلو من بوادره نفوس البشر فيعرض لها ذلك الانفعال بادِئ ذي بَدءٍ ثم يطرأ عليه ثبات الشجاعة فتدفعه على النفس ونفوس الناس متفاوتة في دوامه وانقشاعه، فأمَّا إذا أمَّن الله نبيئاً فذلك مقام آخر كقوله لموسى {لا تخف} وقوله للنبيء صلى الله عليه وسلم {فسيكفيكهم اللَّه} [البقرة: 137].
والذي حصل لداود عليه السلام فزع وليس بخوف، والفَزع أعمّ من الخوف إذ هو اضطراب يحصل من الإِحساس بشيء شأنُه أن يتخلص منه وقد جاء في حديث خسوف الشمس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فَزِعاً، أي مسرعاً مبادراً للصلاة توقّعاً أن يكون ذلك الخسوف نذير عذاب"، ولذلك قال القرآن
وقال في إبراهيم عليه السلام {فأوجس منهم خِيفَة} [الذاريات: 28] أي توجُّساً ما لم يبلغ حدّ الخوف، وأما قول الخصم لداود {لاَ تَخَف} فهو قول يقوله القادِم بهيئة غير مألوفة من شأنها أن تريب الناظر.
كما أن الأنبياء مأمورون بحفظ حياتهم؛ لأن حياتهم خير للأمة، فقد يفزع النبي من توقع خطر خشية أن يكون سبباً في هلاكه فينقطع الانتفاع به لأمته، وقد جاء في حديث عائشة: « أن النبي صلى الله عليه وسلم أرق ذات ليلة فقال: ليَت رجلاً صالحاً من أصحابي يَحرسنِي الليلةَ إذ سمعنا صوت السلاح فقال: من هذا؟ قال: سَعد بن أبي وقاص جئتُ لأحرسك. قالت: فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه».
{بَغَى بعضنا} اعتدى وظلم، والبغي: الظلم... ولم يبينا الباغي منهما لأن مقام تسكين روع داود يقتضي الإِيجاز بالإِجمال ثم يعقبه التفصيل، ولإِظهار الأدب مع الحاكم فلا يتوليان تعيين الباغي منهما بل يتركانه للحاكم يعيّن الباغي منهما في حكمه... و {تشطط}... ومخاطبة الخصم داود بهذا خارجة مخرج الحرص على إظهار الحق وهو في معنى الذكرى بالواجب فلذلك لا يعدّ مثلها جفاء للحاكم والقاضِي.
الهدى: هنا مستعار للبيان وإيضاح الصواب.
{سواء الصراط}: مستعار للحق الذي لا يشوبه باطل؛ لأن الصراط الطريق الواسع، والسواء منه هو الذي لا التواء فيه ولا شُعب تتشعب منه فهو أسرع إيصالاً إلى المقصود باستوائه وأبعد عن الالتباس بسلامته من التشعب...
ومجموع {اهدنا إلى سواء الصراط} تمثيل لحال الحاكم بالعدل بحال المرشد الدال على الطريق الموصلة فهو من التمثيل القابِل تجزئة التشبيه في أجزائه...
ثم يقول سبحانه: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} الإشكال هنا كيف يفزع سيدنا داود لرؤية هؤلاء وهو في حضرة الله وفي حضانته، وبين يديه يصلي ويتعبَّد ويُسبِّح؟ وكيف أن الحق سبحانه يُفزع عبده ونبيه، وهو بين يديه؟!!
قالوا: الفزع على قسمين: فزع يُحرِّك قلبك بالجزع ولكن قالبك سليم لم يتأثر. وفزع آخر ينضح من القلب على القالب فيتأثر حتى تظهر عليه علامات الفزع.
وقد كان فزع سيدنا داود من النوع الثاني، لماذا؟ قالوا: لأن الملائكة حين رأوْه على هذه الحال قالوا له {لاَ تَخَفْ} ولا يقولون له ذلك إلا إذا انفعلَ قالبُه انفعالاً يدلُّ على الخوف، فهذا دليل على أن الفزع تجاوز قلبه إلى قالبه.
ونفهم أيضاً من قولهم له {لاَ تَخَفْ} أنهم ليسوا من رعيته، وليسوا من البشر؛ لأن واحداً من الرعية لا يجرؤ أنْ يقول للملك: لا تخف.
وقولهم: {خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ} يدلُّ على اتفاقهم رغم خصومتهم، فقد تكلَّموا جميعاً في نَفَس واحد، أو تكلَّموا بالترتيب، أو تكلم واحد منهم وأمَّن الباقون، والمُؤمِّن أحد الداعين، فكونهم تكلموا بهذه الصورة المنظمة وأيديهم في أيدي بعض، فهذا يدلنا على أنه خلافَ بينهم، ولا يطمع أحد منهم في الآخر، إذن: ما المسألة؟ وما حقيقة مجيء هؤلاء على هذه الصورة؟ لا بُدَّ أن لهم هدفاً آخر.
ومعنى (بغى) حاول أنْ يطغى وأنْ يظلم {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ} هذا القول منهم دلَّ على جراءتهم، ودلَّ على أنهم من ملأ آخر غير البشر من الملائكة. ومعنى {وَلاَ تُشْطِطْ} يعني: لا تبتعد عن الحق ولا تَجُرْ.
{وَاهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ الصِّرَاطِ} اهدنا أي جميعاً دون تمييز بين واحد وآخر، فهم خصم لكن سواء بدليل قولهم {بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ} دون أن يميزوا الباغي من الذي بُغِي عليه، والصراط هو الطريق المستقيم، وسواء الصراط يعني وسطه، والمعنى: دُلَّنا على الحق أو عين الحق، ثم أخذوا في عرض قضيتهم: {إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً...}