184- وفرض الله عليكم الصيام في أيام معدودة قليلة لو شاء سبحانه لأطال مدته ولكنه لم يطلها ، ولم يكلفكم في الصوم ما لا تطيقون ، فمن كان مريضاً مرضاً يضر معه الصوم ، أو كان في سفر ، فله أن يفطر ويقضي الصوم بعد برئه من المرض أو رجوعه من السفر ، أما غير المريض والمسافر ممن لا يستطيع الصوم إلا بمشقة لعذر دائم كشيخوخة ومرض لا يرجى برؤه فله الفطر حينئذٍ ، وعليه أن يطعم مسكيناً لا يجد قوت يومه ، ومن صام متطوعاً زيادة على الفرض فهو خير له ، لأن الصيام خير دائماً لمن يعلم حقائق العبادات .
ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام ، أخبر أنه أيام معدودات ، أي : قليلة في غاية السهولة .
ثم سهل تسهيلا آخر . فقال : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وذلك للمشقة ، في الغالب ، رخص الله لهما ، في الفطر .
ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن ، أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض ، وانقضى السفر ، وحصلت الراحة .
وفي قوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ } فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان ، كاملا كان ، أو ناقصا ، وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة ، عن أيام طويلة حارة كالعكس .
وقوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يطيقون الصيام { فِدْيَةٌ } عن كل يوم يفطرونه { طَعَامُ مِسْكِينٍ } وهذا في ابتداء فرض الصيام ، لما كانوا غير معتادين للصيام ، وكان فرضه حتما ، فيه مشقة عليهم ، درجهم الرب الحكيم ، بأسهل طريق ، وخيَّر المطيق للصوم بين أن يصوم ، وهو أفضل ، أو يطعم ، ولهذا قال : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }
ثم بعد ذلك ، جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق ، يفطر ويقضيه في أيام أخر [ وقيل : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يتكلفونه ، ويشق عليهم مشقة غير محتملة ، كالشيخ الكبير ، فدية عن كل يوم مسكين{[123]} وهذا هو الصحيح ]{[124]} .
ثم يثني بتقرير أن الصوم أيام معدودات ، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر . ومع هذا فقد أعفي من أدائه المرضى حتى يصحوا ، والمسافرون حتى يقيموا ، تحقيقا وتيسيرا :
( أياما معدودات . فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . .
وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد . فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر ، على أن يقضي المريض حين يصح والمسافر حين يقيم . وهذا هو الأولى في فهم هذا النص القرآني المطلق ، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر . فليست شدة المرض ولا مشقة السفر هي التي يتعلق بها الحكم إنما هي المرض والسفر إطلاقا ، لإرادة اليسر بالناس لا العسر . ونحن لا ندري حكمة الله كلها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر ؛ فقد تكون هناك اعتبارات أخرى يعلمها الله ويجهلها البشر في المرض والسفر ؛ وقد تكون هناك مشقات أخرى لا تظهر للحظتها ، أو لا تظهر للتقدير البشري . . وما دام الله لم يكشف عن علة الحكم فنحن لا نتأولها ؛ ولكن نطيع النصوص ولو خفيت علينا حكمتها . فوراءها قطعا حكمة . وليس من الضروري أن نكون نحن ندركها .
يبقى أن القول بهذا يخشى أن يحمل المترخصين على شدة الترخص ، وأن تهمل العبادات المفروضة لأدنى سبب . مما جعل الفقهاء يتشددون ويشترطون . ولكن هذا - في اعتقادي - لا يبرر التقييد فيما أطلقه النص . فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات ، إنما يقودهم بالتقوى . وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوى . والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء ، لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق . وهذا الدين دين الله لا دين الناس . والله أعلم بتكامل هذا الدين ، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد ؛ وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها . بل لا بد أن يكون الأمر كذلك . ومن ثم أمر رسول الله [ ص ] أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخصها لهم . وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن إصلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام ؛ ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم . وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع ، وسد للذرائع ، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف ، إذ هي حساب بين العبد والرب ، لا تتعلق به مصالح العباد تعلقا مباشرا كأحكام المعاملات التي يراعى فيها الظاهر . والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب . وإذا وجدت التقوى لم يتفلت متفلت ، ولم يستخدم الرخصة إلا حيث يرتضيها قلبه ، ويراها هي الأولى ، ويحس أن طاعة الله في أن يأخذ بها في الحالة التي يواجهها . أما تشديد الأحكام جملة في العبادات أو الميل إلى التضييق من إطلاق الرخص التي أطلقتها النصوص ، فقد ينشيء حرجا لبعض المتحرجين . في الوقت الذي لا يجدي كثيرا في تقويم المتفلتين . . والأولى على كل حال أن نأخذ الأمور بالصورة التي أرادها الله في هذا الدين . فهو أحكم منا وأعلم بما وراء رخصه وعزائمه من مصالح قريبة وبعيدة . . وهذا هو جماع القول في هذا المجال .
بقي أن نثبت هنا بعض ما روي من السنة في حالات متعددة من حالات السفر ، في بعضها كان التوجيه إلى الفطر وفي بعضها لم يقع نهي عن الصيام . . وهي بمجموعها تساعد على تصور ما كان عليه السلف الصالح من إدراك للأمر ، قبل أن تأخذ الأحكام شكل التقعيد الفقهي على أيدي الفقهاء المتأخرين . وصورة سلوك أولئك السلف - رضوان الله عليهم - املأ بالحيوية ، وألصق بروح هذا الدين وطبيعته ، من البحوث الفقهية ؛ ومن شأن الحياة معها وفي جوها أن تنشيء في القلب مذاقا حيا لهذه العقيدة وخصائصها :
1 - عن جابر - رضي الله عنه - قال : خرج رسول الله [ ص ] عام الفتح إلى مكة في رمضان ، فصام حتى بلغ " كراع الغميم " فصام الناس . ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ، ثم شرب . فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام ، فقال : " أولئك العصاة . أولئك العصاة " . . [ أخرجه مسلم والترمذي ] .
2 - وعن أنس رضي الله عنه - قال : كنا مع النبي [ ص ] في سفر فمنا الصائم ومنا المفطر . فنزلنا منزلا في يوم حار ، أكثرنا ظلا صاحب الكساء ، ومنا من يتقي الشمس بيده . فسقط الصوام وقام المفطرون ، فضربوا الأبنية ، وسقوا الركاب ، فقال النبي [ ص ] " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " . . [ أخرجه الشيخان والنسائي ] .
3 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال : كان النبي [ ص ] في سفر ، فرأى رجلا قد اجتمع عليه الناس ، وقد ظلل عليه . فقال : ما له ؟ فقالوا : رجل صائم . فقال رسول الله [ ص ] : " ليس من البر الصوم في السفر " . . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والنسائي ] .
4 - وعن عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - قال : قدمت على رسول الله [ ص ] من سفر . فقال : انتظر الغداء يا أبا أمية . قلت : يا رسول الله إني صائم . قال : " إذا أخبرك عن المسافر . إنالله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة " . [ أخرجه النسائي ] . .
5 - وعن رجل من بني عبد الله بن كعب بن مالك اسمه أنس بن مالك . قال : قال رسول الله [ ص ] " إن الله تعالى وضع شطر الصلاة عن المسافر وأرخص له في الإفطار وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما " . [ أخرجه أصحاب السنن ] .
6 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : سأل حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - رسول الله [ ص ] عن الصوم في السفر . [ وكان كثير الصيام ] فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي ] وفي رواية أخرى وكان جلدا على الصوم .
7 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال : كنا مع النبي [ ص ] فمنا الصائم ومنا المفطر . فلا الصائم يعيب على المفطر ، ولا المفطر يعيب على الصائم " . . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود ] .
8 - وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع رسول الله [ ص ] في رمضان في حر شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر ؛ وما فينا صائم إلا رسول الله [ ص ] وابن رواحة رضي الله عنه . . [ أخرجه الشيخان وأبو داود ] .
9 - وعن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك - رضي الله عنه - في رمضان وهو يريد سفرا . وقد رحلت له راحلته ، ولبس ثياب سفره ، فدعا بطعام فأكل . فقلت له : سنة ؟ قال : نعم . ثم ركب . . [ أخرجه الترمذي ] .
10 - وعن عبيد بن جبير قال : كنت مع أبي بصرة الغفاري - صاحب رسول الله [ ص ] - رضي الله عنه في سفينة من الفسطاط في رمضان . فدفع فقرب غداؤه ، فقال : اقترب . قلت : ألست ترى البيوت ؟ قال : أترغب عن سنة رسول الله [ ص ] ؟ فأكل وأكلت . . [ أخرجه أبو داود ]
11 - وعن منصور الكلبي : أن دحية بن خليفة - رضي الله عنه - خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفساط ، وذلك ثلاثة أميال ، في رمضان . فأفطر وأفطر معه ناس كثير . وكره آخرون أن يفطروا . فلما رجع إلى قريته قال : والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أن أراه . إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله [ ص ] وأصحابه . اللهم أقبضني إليك . . [ أخرجه أبو داود ] . .
فهذه الأحاديث في جملتها تشير إلى تقبل رخصة الإفطار في السفر في سماحة ويسر . وترجح الأخذ بها . ولا تشترط وقوع المشقة للأخذ بها كما يشير إلى ذلك الحديثان الأخيران بوجه خاص ، وإذا كان الحديث الثامن منها يشير إلى أن رسول الله [ ص ] وحده ظل مرة صائما مع المشقة هو وعبد الله بن رواحة ، فقد كانت له [ ص ] خصوصيات في العبادة يعفي منها أصحابه . كنهيه لهم عن مواصلة الصوم وهو كان يواصل أحيانا . أي يصل اليوم باليوم بلا فطر . فلما قالوا له في هذا ، قال : " إني لست مثلكم ، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني " . . [ أخرجه الشيخان ] وثابت من الحديث الأول أنه أفطر وقال عن الذين لم يفطروا : أولئك العصاة . أولئك العصاة . وهذا الحديث متأخر - في سنة الفتح - فهو أحدث من الأحاديث الأخرى . وأكثر دلالة على الاتجاه المختار . .
والصورة التي تنشأ في الحس من مجموع هذه الحالات . . إنه كانت هناك مراعاة لحالات واقعية ، تقتضي توجيها معينا - كما هو الشأن في الأحاديث التي تروى في الموضوع العام الواحد ، ونجد فيها توجيهات متنوعة -
فالرسول [ ص ] كان يربي وكان يواجه حالات حية . ولم يكن يواجهها بقوالب جامدة !
ولكن الانطباع الأخير في الحس في أمر الصوم في السفر هو استحباب الفطر ، دون تقيد بحصول المشقة بالفعل . . أما المرض فلم أجد فيه شيئا إلا أقوال الفقهاء ، والظاهر أنه مطلق في كل ما يثبت له وصف المرض ، بلا تحديد في نوعه وقدره ولا خوف شدته ، على وجوب القضاء يوما بيوم في المرض والسفر ، من غير موالاة في أيام القضاء على الرأي الأرجح .
وقد استطردت هذا الاستطراد لا لأخوض في خلافات فقهية ؛ ولكن لتقرير قاعدة في النظر إلى الشعائر التعبدية ، وارتباطها الوثيق بإنشاء حالة شعورية هي الغاية المقدمة منها . وهذه الحالة هي التي تحكم سلوك المتعبد ؛ وعليها الاعتماد الأول في تربية ضميره ، وحسن أدائه للعبادة وحسن سلوكه في الحياة . . هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى أن نأخذ هذا الدين - كما أراده الله - بتكاليفه كلها ، طاعة وتقوى وأن نأخذه جملة بعزائمه ورخصه ، متكاملا متناسقا ، في طمأنينة إلى الله ، ويقين بحكمته ، وشعور بتقواه .
( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، فمن تطوع خيرا فهو خير له ، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) . .
وفي أول الأمر كان تكليف الصوم شاقا على المسلمين - وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة قبيل فرض الجهاد - فجعل الله فيه رخصة لمن يستطيع الصوم بجهد - وهو مدلول يطيقونه - فالإطاقة الاحتمال بأقصى جهد - جعل الله هذه الرخصة ، وهي الفطر مع إطعام مسكين . . ثم حببهم في التطوع بإطعام المساكين إطلاقا ، إما تطوعا بغير الفدية ، وإما بالإكثار عن حد الفدية ، كأن يطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر بكل يوم من أيام الفطر في رمضان : ( فمن تطوع خيرا فهو خير له ) . . ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة - في غير سفر ولا مرض - : ( وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) . . لما في الصوم من خير في هذه الحالة . يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة ، وتقوية الاحتمال ، وإيثار عبادة الله على الراحة . وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية . كما يبدو لنا منه ما في الصوم من مزايا صحية - لغير المريض - حتى ولو أحس الصائم بالجهد .
وعلى أية حال فقد كان هذا التوجيه تمهيدا لرفع هذه الرخصة عن الصحيح المقيم وإيجاب الصيام إطلاقا . كما جاء فيما بعد . وقد بقيت للشيخ الكبير الذي يجهده الصوم ، ولا ترجى له حالة يكون فيها قادرا على القضاء . . فأخرج الإمام مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي . . وقال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا . . وعن ابن أبي ليلى قال : دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل ، فقال : قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر . فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بالآية الآتية : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه . . . ) .
{ أياما معدودات } مؤقتات بعدد معلوم ، أو قلائل . فإن القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلا ، ونصبها ليس بالصيام لوقوع الفصل بينهما ، بل بإضمار صوموا لدلالة الصيام عليه ، والمراد به رمضان أو ما وجب صومه قبل وجوبه ونسخ به ، وهو عاشوراء أو ثلاثة أيام من كل شهر ، أو ب " كما كتب " على الظرفية ، أو على أنه مفعول ثان ل{ كتب عليكم } على السعة . وقيل معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام ، لما روي : أن رمضان كتب على النصارى ، فوقع في برد أو حر شديد فحولوه إلى الربيع وزادوا عليه عشرين كفارة لتحويله . وقيل زادوا ذلك لموتان أصابهم . { فمن كان منكم مريضا } مرضا يضره الصوم أو يعسر معه . { أو على سفر } أو راكب سفر ، وفيه إيماء إلى أن من سافر أثناء اليوم لم يفطر . { فعدة من أيام أخر } أي فعليه صوم عدد أيام المرض ، أو السفر من أيام أخر إن أفطر ، فحذف الشرط والمضاف والمضاف إليه للعلم بها . وقرئ بالنصب أي فليصم عدة ، وهذا على سبيل الرخصة . وقيل على الوجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضي الله عنه { وعلى الذين يطيقونه } وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا . { فدية طعام مسكين } نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند فقهاء العراق ، ومد عند فقهاء الحجاز . رخص لهم في ذلك أول الأمر لما أمروا بالصوم فاشتد عليهم لأنهم لم يتعودوه ، ثم نسخ . وقرأ نافع وابن عامر برواية ابن ذكوان بإضافة الفدية إلى الطعام وجمع " المساكين " . وقرأ ابن عامر برواية هشام " مساكين " بغير إضافة الفدية إلى الطعام ، والباقون بغير إضافة وتوحيد مسكين ، وقرئ " يطوقونه " أي يكلفونه ويقلدونه في الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة ويتطوقونه أي يتكلفونه ، أو يتقلدونه ويطوقونه بالإدغام ، و " يطيقونه " و " يطيقونه " على أن أصلهما يطيقونه من فيعل وتفيعل بمعنى يطوقونه ويتطوقونه ، وعلى هذه القراءات يحتمل معنى ثانيا وه والرخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده وهم الشيوخ والعجائز- في الإفطار والفدية ، فيكون ثابتا وقد أول به القراءة المشهورة ، أي يصومونه جهدهم وطاقتهم . { فمن تطوع خيرا } فزاد في الفدية . { فهو } فالتطوع أو الخير . { خير له وأن تصوموا } أيها المطيقون ، أو المطوقون وجهدتم طاقتكم . أو المرخصون في الإفطار ليندرج تحته المريض والمسافر . { خير لكم } من الفدية أو تطوع الخير أو منهما ومن التأخير للقضاء . { إن كنتم تعلمون } ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة ، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله أي اخترتموه . وقيل معناه إن كنتم من أهل العلم والتدبر علمتم أن الصوم خير لكم من ذلك .
قوله تعالى : { أياماً معدودات } ظرف للصيام مثل قولك الخروج يوم الجمعة ، ولا يضر وقوع الفصل بين { الصيام } وبين { أياماً } وهو قوله : { كما كتب } إلى { تتقون } لأن الفصل لم يكن بأجنبي عند التحقيق ، إذ الحال والمفعول لأجله المستفاد من ( لعلَّ ) كل ذلك من تمام عامل المفعول فيه وهو قوله صيام ، ومن تمام العاملِ في ذلك العامل وهو { كُتب } فإن عامل العامل في الشيء عامل في ذلك الشيء ولجواز الفصل بالأجنبي إذا كان المعمول ظرفاً ، لاتساعهم في الظروف وهذا مختار الزجاج والزمخشري والرضي ، ومَرجع هذه المسألة إلى تجنب تشتيت الكلام باختلال نظامه المعروف ، تجنباً للتعقيد المخل بالفصاحة .
والغالبُ على أحوال الأمم في جاهليتها وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة ، وكل ذلك يوفر القُوى الجسمانيةَ والدموية في الأجساد ، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية . وتطغَيَان على القوة العاقلة ، فجاءت الشرائع بشرع الصيام ، لأنه يفي بتهذيب تلك القوى ، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها ، فتكون نتيجتُه تعديلَها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرَى .
والصوم بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع أو تركِ بعض المأكل : أصل قديم من أصول التقوى لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين ، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان ، بناء على أن للإنسان قوتين : إحداهما رُوحانية مُنبثة في قرارتها من الحواس الباطنية ، والأخرى حيوانية منبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها ، وإذ كان الغذاء يخلف للجسد ما يضيعه من قوته الحيوانية إضاعةً تنشأ عن العمل الطبيعي للأعضاء الرئيسية وغيرها ، فلا جرم كانت زيادة الغذاء على القدر المُحتاج إليه توفر للجسم من القوة الحيوانية فوق ما يحتاجه وكان نقصانه يقَتِّر عليه منها إلى أن يبلغ إلى المقدار الذي لا يمكن حفظ الحياة بدونه ، وكان تغلب مظهر إحدى القوتين بمقدار تضاؤل مظهر القوة الأخرى ، فلذلك وجدوا أن ضعف القوة الحيوانية يقلل معمولَها فتتغلب القوة الروحانية على الجسد ويتدرج به الأمر حتى يصير صاحب هذه الحال أقرب إلى الأرواح والمجردات منه إلى الحيوان ، بحيث يصير لا حَظَّ له في الحيوانية إلاّ حياة الجسم الحافظة لبقاء الروح فيه ، ولذلك لزم تعديل مقدار هذا التناقص بكيفية لا تفضي إلى اضمحلال الحياة ، لأن ذلك يضيع المقصود من تزكية النفس وإعدادِها للعوالم الأخروية ، فهذا التعادل والترجيح بين القوتين هو أصل مشروعية الصيام في الملل ووضعيته في حكمة الإشراق ، وفي كيفيته تختلف الشرائع اختلافاً مناسباً للأحوال المختصة هي بها بحيث لا يفيت المقصد من الحياتين ، ولا شك أن أفضل الكيفيات لتحصيل هذا الغرض من الصيام هو الكيفيَّة التي جاء بها الإسلام .
قيل في « هياكل النور » « النفوس الناطقة من جوهر الملكوت إنما شغلها عن عالمها القُوى البدنيةُ ومشاغلتها ، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحياناً إلى عالم القدس وتتصل بأبيها المقدس وتتلقّى منه المعارف » ، فمِنَ الصوم ترك البراهمة أكل لحوم الحيوان والاقتصار على النبات أو الألبان ، وكان حكماء اليونان يرتاضون على إقلال الطعام بالتدريج حتى يعتادوا تركه أياماً متوالية ، واصطلحوا على أن التدريج في إقلال الطعام تدريجاً لا يخشى منه انخرام صحة البدن أن يَزِن الحكيم شبعهُ من الطعام بأعواد من شجر التين رطبة ثم لا يجددها فيَزن بها كل يوم طعامه لا يزيد على زِنّتها وهكذا يستمر حتى تبلغ من اليبس إلى حد لا يُبس بعده فتكون هي زنة طعام كل يوم .
وفي « حكمة الإشراق » للسهروردي « وقبل الشروع في قراءة هذا الكتاب يرتاض أربعين يوماً تاركاً للحوم الحيوانات مقللاً للطعام منقطعاً إلى التأمل لنور الله اهـ » .
وإذ قد كان من المتعذر على الهيكل البشري بما هو مُسْتَوْدَعُ حياةٍ حيوانية أن يتجرد عن حيوانيته ، فمن المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد حيوانيته بمطلوباتها فكان من اللاّزم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب حيوانيته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان ، لذلك كان الصوم أهم مقدمات هذا الغرض ، لأن فيه خصلتين عظيمتين ؛ هما الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية وتعود الصبر بردها عن دواعيها ، وإذ قد كان البلوغ إلى الحد الأتم من ذلك متعذراً كما علمت ، حاول أساطين الحكمة النفسانية الإِقلال منه ، فمنهم من عالج الإقلال بنقص الكميات وهذا صوم الحكماء ، ومنهم من حاوله من جانب نقص أوقات التمتع بها وهذا صوم الأَديان وهو أبلغ إلى القصد وأظْهر في ملكة الصبر ، وبذلك يحصل للإِنسان دُربة على ترك شهواته ، فيتأهل للتخلق بالكمال فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف عن هواه وشهواته :
إذَا المرء لم يَتْرُك طعاماً يُحِبُّه *** ولم يَنْهَ قلباً غاوياً حيث يمما
فيُوشك أن تلقَى له الدهرَ سُبَّةً *** إذا ذُكِرتْ أمثالُها تَمْلأُ الفمـا
فإن قلت : إذا كان المقصد الشرعي من الصوم ارتياضَ النفس على ترك الشهوات وإثارةَ الشعور بما يلاقيه أهلُ الخصاصة من ألم الجوع ، واستشعارَ المساواة بين أهل الجِدة والرفاهية وأهللِ الشظف في أصول الملذات بني الفريقين من الطعام والشراب واللهو ، فلماذا اختلفت الأديان الإلهية في كيفية الصيام ولماذا التزمت الديانة الإسلامية في كيفيته صورة واحدة ، ولم تَكِل ذلك إلى المسلم يتخذ لإِراضة نفسه ما يراه لائقاً به في تحصيل المقاصد المرادة ؟ .
قلت : شأن التعليم الصالح أن يَضبط للمتعلم قواعدَ وأساليبَ تبلغ به إلى الثمرة المطلوبة من المعارف التي يزاولها فإن مُعَلم الرياضة البدنية يضبط للتعلم كيفيات من الحركات بأعضائه وتطور قامته انتصاباً وركوعاً وقرْفصاء ، بعض ذلك يثمر قوة عضلاته وبعضها يثمر اعتدال الدورة الدموية وبعضها يثمر وظائف شرايينه ، وهي كيفيات حددها أهل تلك المعرفة وأَدْنَوْا بها حصول الثمرة المطلوبة ، ولو وُكل ذلك للطالبين لذهبت أوقات طويلة في التجارب وتعددت الكيفيات بتعدد أفهام الطالبين واختيارهم وهذا يدخل تحت قوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] .
والمراد بالأيام من قوله : { أياماً معدودات } شهر رمضان عند جمهور المفسرين ، وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضاً ؛ تهوينا لأمره على المكلفين ، والمعدودات كناية عن القلة ؛ لأن الشيء القليل يعد عدا ؛ ولذلك يقولون : الكثير لا يعد ، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر .
قال أبو حيان عند قوله تعالى الآتي بعده : { من أيام أخر } [ البقرة : 185 ] صفة الجمع الذي لا يعقل تارة تعامل معاملة الواحدة المؤنثة ، نحو قوله تعالى : { إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] وتارة تعامل معاملة جمع المؤنث نحو : { أياماً معدودات } فمعدودات جمع لمعدودة ، وأنت لا تقول يوم معدودة وكلا الاستعمالين فصيح ، ويظهر أنه ترك فيه تحقيقاً وذلك أن الوجه في الوصف الجاري على جمع مذكر إذا أنثوه أن يكون مؤنثاً مفرداً ، لأن الجمع قد أول بالجماعة والجماعة كلمة مفردة وهذا هو الغالب ، غير أنهم إذا أرادوا التنبيه على كثرة ذلك الجمع أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث ليكون في معنى الجماعات وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة ، ولذلك فأنا أرى أن معدودات أكثر من معدودة ولأجل هذا قال تعالى : { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] لأنهم يقللونها غروراً أو تغريراً ، وقال هنا { معدودات } لأنها ثلاثون يوماً ، وقال في الآية الآتية :
{ الحج أشهر معلومات } [ البقرة : 197 ] وهذا مثل قوله في جمع جمل { جمالات } [ المرسلات : 33 ] على أحد التفسيرين وهو أكثر من جمال ، وعن المازني أن الجمع لما لا يعقل يجيء الكثير منه بصيغة الواحدة المؤنثة تقول : الجذوع انكسرت والقليل منه يجيء بصيغة الجمع تقول : الأجذاع انكسرن اه وهو غير ظاهر .
وقيل المراد بالأيام غير رمضان بل هي أيام وجب صومها على المسلمين عندما فرض الصيام بقوله : { أياماً معدودات } ثم نسخ صومها بصوم رمضان وهي يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وإليه ذهب معاذ وقتادة وعطاء ولم يثبت من الصوم المشروع للمسلمين قبل رمضان إلاّ صوم يوم عاشوراء كما في « الصحيح » وهو مفروض بالسنة ، وإنما ذكر أن صوم عاشوراء والأيام البيض كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت رواية ، فلا يصح كونها المراد من الآية لا لفظاً ولا أثراً ، على أنه قد نسخ ذلك كله بصوم رمضان كما دل عليه حديث السائل الذي قال : " لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق " .
تعقيب لحكم العزيمة بحكم الرخصة ، فالفاء لتعقيب الأخبار لا للتفريع ، وتقديمه هنا قبل ذكر بقية تقدير الصوم تعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال .
والمريض من قام به المرض وهو انحراف المزاج عن حد الاعتدال الطبيعي بحيث تثور في الجسد حمى أو وجع أو فشل .
وقد اختلف الفقهاء في تحديد المرض الموجب للفطر ، فأما المرض الغالب الذي لا يستطيع المريض معه الصوم بحال بحيث يخشى الهلاك أو مقاربته فلا خلاف بينهم في أنه مبيح للفطر بل يوجب الفطر ، وأما المرض الذي دون ذلك فقد اختلفوا في مقداره فذهب محققو الفقهاء إلى أنه المرض الذي تحصل به مع الصيام مشقة زائدة على مشقة الصوم للصحيح من الجوع والعطش المعتادين ، بحيث يسبب له أوجاعاً أو ضعفاً منهكاً أو تعاوده به أمراض ساكنة أو يزيد في انحرافه إلى حد المرض أو يخاف تمادي المرض بسببه . وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي على تفاوت بينهم في التعبير ، وأعدل العبارات ما نقل عن مالك ؛ لأن الله أطلق المرض ولم يقيده ، وقد علمنا أنه ما أباح للمريض الفطر إلاّ لأن لذلك المرض تأثيراً في الصائم ، ويكشف ضابط ذلك قول القرافي في الفرق الرابع عشر إذ قال : « إن المشاق قسمان : قسم ضعيف لا تنفك عنه تلك العبادة كالوضوء والغسل في زمن البرد وكالصوم ، وكالمخاطرة بالنفس في الجهاد ، وقسم هو ما تنفك عنه العبادة وهذا أنواع : نوع لا تأثير له في العبادة كوجع أصبع ، فإن الصوم لا يزيد وجع الأصبع وهذا لا التفات إليه ، ونوع له تأثير شديد مع العبادة كالخوف على النفس والأعضاء والمنافع وهذا يوجب سقوط تلك العبادة ، ونوع يقرب من هذا فيوجب ما يوجبه » .
وذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري إلى أن المرض وهو الوجع والاعتلال يسوغ الفطر ولو لم يكن الصوم مؤثراً فيه شدة أو زيادة ؛ لأن الله تعالى جعل المرض سبب الفطر كما جعل السفر سبب الفطر من غير أن تدعو إلى الفطر ضرورة كما في السفر ، يريدون أن العلة هي مظنة المشقة الزائدة غالباً ، قيل دخل بعضهم على ابن سيرين في نهار رمضان وهو يأكل فلما فرغ قال : إنه وجعتني أصبعي هذه فأفطرت ، وعن البخاري قال : اعتللت بنيسابور علة خفيفة في رمضان فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي : أفطرت يا أبا عبد الله قلت : نعم أخبرنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : من أي المرض أفطر ؟ قال : من أي مرض كان كما قال الله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً } وقيل : إذا لم يقدر المريض على الصلاة قائماً أفطر ، وإنما هذه حالة خاصة تصلح مثالاً ولا تكون شرطاً ، وعزي إلى الحسن والنخعي ولا يخفى ضعفه ؛ إذ أين القيام في الصلاة من الإفطار في الصيام ، وفي هذا الخلاف مجال للنظر في تحديد مدى الانحراف والمرض المسوغين إفطار الصائم ، فعلى الفقيه الإحاطة بكل ذلك ونقربه من المشقة الحاصلة للمسافر وللمرأة الحائض .
وقوله : { أو على سفر } أي أو كان بحالة السفر وأصل ( على ) الدلالة على الاستعلاء ثم استعملت مجازاً في التمكن كما تقدم في قوله تعالى : { على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] ثم شاع في كلام العرب أن يقولوا فلان على سفر أي مسافر ليكون نصاً في التلبس ، لأن اسم الفاعل يحتمل الاستقبال فلا يقولون على سفر للعازم عليه وأما قول . . . . . . :
ماذَا على البدر المحجَّبِ لو سَفَر *** إِن المعذَّب في هواه على سفر
أراد أنه على وشك الممات فخطأ من أخطاء المولدين في العربية ، فنبه الله تعالى بهذا اللفظ المستعمل في التلبس بالفعل ، على أن المسافر لا يفطر حتى يأخذ في السير في السفر دون مجرد النية ، والمسألة مختلف فيها فعن أنس بن مالك أنه أراد السفر في رمضان فرُحِّلتْ دابتُه وَلِبسَ ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه ثم رَكِب وقال : هذه السنة ، رواه الدارقطني ، وهو قول الحسن البصري ، وقال جماعة : إذا أصبح مقيماً ثم سافر بعد ذلك فلا يفطر يومه ذلك وهو قول الزهري ، ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور ، فإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة ، وبالغ بعض المالكية فقال : عليه الكفارة وهو قول ابن كنانة والمخزومي ، ومن العجب اختيار ابن العربي إياه ، وقال أبو عمر بن عبد البر : ليس هذا بشيء لأن الله أباح له الفطر بنص الكتاب ، ولقد أجاد أبو عمر ، وقال أحمد وإسحاق والشَّعْبي : يفطر إذا سافر بعد الصبح ورووه عن ابن عمر وهو الصحيح الذي يشهد له حديث ابن عباس في « صحيحي البخاري ومسلم » : « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فصام حتى بلغ عُسْفَانَ ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليُرِيَه فأَفْطَرَ حتى قدِم مكة » قال القرطبي : وهذا نص في الباب فسقط ما يخالفه .
وإنما قال تعالى : { فعدة من أيام أُخر } ولم يقل : فصيام أيام أخر ، تنصيصاً على وجوب صوم أيام بعدد أيام الفطر في المرض والسفر ؛ إذ العدد لا يكون إلاّ على مقدار مماثل . فمن للتبعيض إن اعتبر أيام أعم من أيام العدة أي من أيام الدهر أو السنة ، أو تكون من تمييز عدة أي عدة هي أيام مثل قوله : { بخمسة ألف من الملائكة } [ آل عمران : 125 ] .
ووصف الأيام بأُخر وهو جمع الأُخرى اعتباراً بتأنيث الجمع ؛ إذ كل جمع مؤنث ، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى آنفاً { أياماً معدودات } قال أبو حيَّان : واختير في الوصف صيغة الجمع دون أن يقال أخرى لئلا يظن أنه وصف لعدة ، وفيه نظر ؛ لأن هذا الظن لا يوقع في لَبس ؛ لأن عدة الأيام هي أيام فلا يعتني بدفع مثل هذا الظن ، فالظاهر أن العدول عن أخرى لمراعاة صيغة الجمع في الموصوف مع طلب خفة اللفظ .
ولفظ ( أخر ) ممنوع من الصرف في كلام العرب . وعلل جمهور النحويين منعه من الصرف على أصولهم بأن فيه الوصفية والعدل ، أما الوصفية ظاهرة وأما العدل فقالوا : لما كان جمع آخَر ومفرده بصيغة اسم التفضيل وكان غير معرَّف باللام كان حقه أن يلزم الإفرادَ والتذكير جريا على سَنن أصله وهو اسم التفضيل إذا جرد من التعريف باللام ومن الإضافة إلى المعرفة أَنه يَلزَمُ الإفرادَ والتذكير فلما نطقَ به العرب مطابقاً لموصوفه في التثنية والجمع علمنا أنهم عدلوا به عن أصله ( والعدول عن الأصل يوجب الثقل على اللسان ؛ لأنه غير معتاد الاستعمال ) فخففوه لمنعه من الصرف وكأنهم لم يفعلوا ذلك في تثنيته وجمعه بالألف والنون لقلة وقوعهما ، وفيه ما فيه .
ولم تبين الآية صفة قضاء صوم رمضان ، فأطلقت ( عدة من أيام أخر ) ، فلم تبين أتكون متتابعة أم يجوز تفريقها ؟ ولا وجوبَ المبادرة بها أو جوازَ تأخيرها ، ولا وجوبَ الكفارة على الفطر متعمداً في بعض أيام القضاء ، ويتجاذب النظر في هذه الثلاثة دليلُ التمسك بالإطلاق لعدم وجود ما يقيده كما يتمسك بالعام إذا لم يظهر المخصص ، ودليل أن الأصل في قضاء العبادة أن يكون على صفة العبادة المقضية .
فأما حكم تتابع أيام القضاء ، فروى الدارقطني بسند صحيح قالت عائشة نزلت { فعدة من أيام أُخر متتابعات } متتابعات فسقطت متتابعات ، تريد نسخت وهو قول الأئمة الأربعة وبه قال من الصحابة أبو هريرة ، وأبو عبيدة ، ومعاذ بن جبل ، وابن عباس ، وتلك رخصة من الله ، ولأجل التنبيه عليها أطلق قوله : { من أيام أُخر } ولم يقيد بالتتابع كما قال في كفارة الظهار وفي كفارة قتل الخطأ .
فلذلك ألغى الجمهور إعمال قاعدة جريان قضاء العبادة على صفة المقضي ولم يقيدوا مطلق آية قضاء الصوم بما قُيِّدَت به آية كفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ . وفي « الموطأ » عن ابن عمر أنه يقول : يصوم قضاء رمضان متتابعاً من أفطره من مرض أو سفر ، قال الباجي في « المنتقى » : يحتمل أن يريد به الوجوب وأن يريد الاستحباب .
وأما المبادرة بالقضاء ، فليس في الكتاب ولا في السنة ما يقتضيها ، وقوله هنا : { فعدة من أيام أُخر } مراد به الأمر بالقضاء ، وأصل الأمر لا يقتضي الفور ، ومضت السنة على أن قضاء رمضان لا يجب فيه الفور بل هو موسَّع إلى شهر شعبان من السنة الموالية للشهر الذي أفطر فيه ، وفي « الصحيح » عن عائشة قالت : يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلاّ في شعبان . وهذا واضح الدلالة على عدم وجوب الفور ، وبذلك قال جمهور العلماء وشذ داود الظاهري فقال : يشرع في قضاء رمضان ثاني يوم من شوال المعاقب له .
وأما من أفطر متعمداً في يوم من أيام قضاء رمضان فالجمهور على أنه لا كفارة عليه ؛ لأن الكفارة شرعت حفظاً لحرمة شهر رمضان وليس لأيام القضاء حرمة وقال قتادة : تجب عليه الكفارة بناء على أن قضاء العبادة يساوي أصله .
عطف على قوله : { عليكم الصيام } والمعطوف بعض المعطوف عليه فهو في المعنى كبدل البعض أي وكتب على الذين يطيقونه فدية ؛ فإن الذين يطيقونه بعض المخاطبين بقوله : { كتب عليكم الصيام } .
والمطيق هو الذي أطاق الفعل أي كان في طوقه أن يفعله ، والطاقة أقرب درجات القدرة إلى مرتبة العجز ، ولذلك يقولون فيما فوق الطاقة : هذا ما لا يطاق ، وفسرها الفراء بالجَهد بفتح الجيم وهو المشقة ، وفي بعض روايات « صحيح البخاري » عن ابن عباس قرأ : ( وعلى الذين يُطَوَّقونه فلا يطيقونه ) . وهي تفسير فيما أحسب ، وقد صدر منه نظائر من هذه القراءة ، وقيل الطاقة القدرة مطلقاً .
فعلى تفسير الإطاقة بالجَهد فالآية مراد منها الرخصة على من تشتد به مشقة الصوم في الإفطار والفِدْية .
وقد سمَّوا من هؤلاء الشيخَ الهرم والمرأةَ المرضعَ والحاملَ فهؤلاء يفطرون ويطعمون عن كل يوم يفطرونه وهذا قول ابن عباس وأنس بن مالك والحسن البصري وإبراهيم النخعي وهو مذهب مالك والشافعي ، ثم من استطاع منهم القضاء قضى ومن لم يستطعه لم يقض مثل الهرم ، ووافق أبو حنيفة في الفطر ؛ إلاّ أنّه لم ير الفدية إلاّ على الهرم لأنه لا يقضي بخلاف الحامل والمرضع ، ومرجع الاختلاف إلى أن قوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية } هل هي لأجل الفطر أم لأجل سقوط القضاء ؟ والآية تحتملهما إلاّ أنها في الأول أظهر ، ويؤيد ذلك فعل السلف ، فقد كان أنس بن مالك حين هرم وبلغ عَشْراً بعد المائة يفطر ويطعم لكل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً .
وعلى تفسير الطاقة بالقدرة فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام ، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع قالوا في حمل الآية عليه : إنها حينئذٍ تضمنت حكماً كان فيه توسعة ورخصة ثم انعقد الإجماع على نسخه ، وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فُرِض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم ثم نسخ بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] ونقل ذلك عن ابن عباس وفي البخاري عن ابن عمر وسلَمةَ بن الأكْوَع نسختْها آية { شهر رمضان } [ البقرة : 185 ] ثم أخرج عن ابن أبي ليلى قال : حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نَزَل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكيناً تركَ الصوم من يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسَختها : { وأن تصوموا خير لكم } ، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم كما تدرج في تشريع منع الخمر .
ونلحق بالهرم والمرضع والحامل كلَّ من تلحقه مشقة أو توقُّع ضر مثلهم وذلك يختلف باختلاف الأمزجة واختلاف أزمان الصوم من اعتدال أو شدة برد أو حَر ، وباختلاف أعمال الصائم التي يعملها لاكتسابه من الصنائع كالصائغ والحدَّاد والحمامي وخدمة الأرض وسير البريد وحَمْل الأمتعة وتعبيد الطرقات والظِّئْرِ .
وقد فسرت الفدية بالإطعام إما بإضافة المبيَّن إلى بيانه كما قرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وأبو جعفر : ( فديةُ طعام مساكين ) ، بإضافة فدية إلى طعام ، وقرأه الباقون بتنوين ( فدية ) وإبدال ( طعام ) من ( فدية ) .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ( مساكين ) بصيغة الجمع جمع مسكين ، وقرأه الباقون بصيغة المفرد ، والإجماع على أن الواجب إطعام مسكين ، فقراءة الجمع مبنية على اعتبار جَمْع الذين يطيقونه من مقابلة الجمع بالجمع مثل ركب الناس دوابهم ، وقراءة الإفراد اعتبار بالواجب على آحاد المفطرين .
والإطعام هو ما يشبع عادةً من الطعام المتغذى به في البلد ، وقدره فقهاء المدينة مُدّاً بمد النبي صلى الله عليه وسلم من بُرّ أو شعير أو تمر .
تفريع على قوله : { وعلى الذين يطيقونه فدية } الخ ، والتطوع : السعي في أن يكون طائعاً غير مكره أي طاع طوعاً من تلقاء نفسه . والخير مصدر خار إذا حَسُن وشَرُف وهو منصوب لتضمين { تطوَّعَ } معنى أَتى ، أو يكون { خيراً } صفةً لمصدر محذوف أي تطوعاً خيراً .
ولا شك أن الخير هنا متطوع به فهو الزيادة من الأمر الذي الكلام بصدده وهو الإطعام لا محالة ، وذلك إطعام غير واجب فيحتمل أن يكون المراد : فمن زاد على إطعام مسكينٍ واحد فهو خير ، وهذا قول ابن عباس ، أو أن يكون : مَن أراد الإطعام مع الصيام ، قاله ابن شهاب ، وعن مجاهد : مَن زاد في الإطعام على المُدّ وهو بعيد ؛ إذ ليس المُدّ مصرحاً به في الآية ، وقد أطعم أنس بن مالك خبزاً ولحماً عن كل يوم أفطره حين شاخ .
و { خير } الثاني في قوله : { فهو خير له } يجوز أن يكون مصدراً كالأول ويكون المراد به خيراً آخر أي خير الآخرة . ويجوز أن يكون خير الثاني تفضيلاً أي فالتطوع بالزيادة أفضل من تركها وحذف المفضل عليه لظهوره .
الظاهر رجوعه لقوله : { وعلى الذين يطيقونه فدية } فإن كان قوله ذلك نازلاً في إباحة الفطر للقادر فقوله : { وأن تصوموا } ترغيب في الصوم وتأنيس به ، وإن كان نازلاً في إباحته لصاحب المشقة كالهَرِم فكذلك ، ويحتمل أن يرجع إلى قوله : { ومن كان مريضاً } وما بعده ، فيكون تفضيلاً للصوم على الفطر إلاّ أن هذا في السفر مختلف فيه بين الأئمة ، ومذهب مالك رحمه الله أن الصوم أفضل من الفطر وأما في المرض ففيه تفصيل بحسب شدة المرض .
وقوله : { إن كنتم تعلمون } تذييل أي تَعْلَمون فوائدَ الصوم على رجوعه لقوله : { وعلى الذين يطيقونه } إن كان المراد بهم القادرين أي إن كنتم تعلمون فوائد الصوم دنيا وثوابَه أُخرى ، أو إن كنتم تعلمون ثوابه على الاحتمالات الأخر . وجيء في الشرط بكلمة ( إنْ ) لأن علمهم بالأمرين من شأنه ألاّ يكون محققاً ؛ لخفاء الفائدتين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وكان ذلك على الذين من قبلنا {أياما معدودات}: وهي دون الأربعين، فإذا كانت فوق الأربعين فلا يقال لهم: {معدودات}.
{فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية}: أي ومن كان يطيق الصوم، وليس بمريض ولا مسافر، فإن شاء صام، وإن شاء أفطر، وعليه فدية {طعام مسكين}: لكل مسكين نصف صاع حنطة.
{فمن تطوع خيرا}: فزاد على مسكين فأطعم مسكينين أو ثلاثة مكان كل يوم.
{فهو خير له}: من أن يطعم مسكينا واحدا.
{وأن تصوموا خير}: ولأن تصوموا خير {لكم} من الطعام.
{إن كنتم تعلمون}: وكان المؤمنون قبل رمضان يصومون عاشوراء ولا يصومون غيره، ثم أنزل الله عز وجل صوم رمضان بعد، فنسخ الطعام، وثبت الصوم، إلا على من لا يطيق الصوم، فليفطر وليطعم مكان كل يوم مسكينا نصف صاع حنطة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"كتب عليكم "أيها الذين آمنوا الصيام أياما معدودات. ونصب «أياما» بمضمر من الفعل، كأنه قيل: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم أن تصوموا أياما معدودات.
{كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: من الصيام، كأنه قيل: كتب عليكم الذي هو مثل الذي كتب على الذين من قبلكم أن تصوموا أياما معدودات.
ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى الله جل وعز بقوله: {أيّاما مَعْدُودَاتٍ} فقال بعضهم: الأيام المعدودات: صوم ثلاثة أيام من كل شهر... وكان ذلك الذي فرض على الناس من الصيام قبل أن يفرض عليهم شهر رمضان. ثم نسخ ذلك بالذي أنزل من صيام رمضان، فهذا الصوم الأول من العتمة.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم أنزل الله جل وعز فرض شهر رمضان، فأنزل الله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكم الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} حتى بلغ: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ}.
وقال آخرون: بل الأيام الثلاثة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومها قبل أن يفرض رمضان كان تطوّعا صومهن، وإنما عنى الله جل وعز بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... أيّاما مَعْدُوداتٍ} أيام شهر رمضان، لا الأيام التي كان يصومهن قبل وجوب فرض صوم شهر رمضان.
وأولى ذلك بالصواب عندي قول من قال: عنى الله جل ثناؤه بقوله: {أيّاما مَعْدُودَاتٍ}: أيام شهر رمضان، وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوما فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان، ثم نسخ بصوم شهر رمضان، وأن الله تعالى قد بين في سياق الآية أن الصيام الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات بإبانته، عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومها بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرآنُ} فمن ادعى أن صوما كان قد لزم المسلمين فرضه غير صوم شهر رمضان الذين هم مجمعون على وجوب فرض صومه ثم نسخ ذلك، سئل البرهان على ذلك من خبر تقوم به حجة، إذ كان لا يعلم ذلك إلا بخبر يقطع العذر. وإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا للذي بينا، فتأويل الآية: كتب عليكم أيها المؤمنون الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات، هي شهر رمضان.
وجائز أيضا أن يكون معناه: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ": كتب عليكم شهر رمضان.
وأما "المعدودات ": فهي التي تعد مبالغها وساعات أوقاتها، ويعني بقوله "معدودات: "محصيات.
{فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ، وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين.}: من كان منكم مريضا ممن كلف صومه أو كان صحيحا غير مريض وكان على سفر "فعدة من أيام أخر": فعليه صوم عدّة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره من أيام أخر، يعني من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره.
{وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين" فإن قراءة كافة المسلمين:"وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ "وعلى ذلك خطوط مصاحفهم، وهي القراءة التي لا يجوز لأحد من أهل الإسلام خلافها لنقل جميعهم تصويب ذلك قرنا عن قرن. وكان ابن عباس يقرأها فيما رُوِي عنه: «وعلى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ».
ثم اختلف قرّاء ذلك:"وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ "في معناه، فقال بعضهم: كان ذلك في أوّل ما فرض الصوم، وكان من أطاقه من المقيمين صامه إن شاء، وإن شاء أفطره وافتدى، فأطعم لكل يوم أفطره مسكينا حتى نسخ ذلك.
وقال آخرون: بل كان قوله: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين} حكما خاصا للشيخ الكبير والعجوز اللذين يطيقان الصوم كان مرخصا لهما أن يفديا صومهما بإطعام مسكين ويفطرا، ثم نسخ ذلك بقوله: {فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فلزمهما من الصوم مثل الذي لزم الشاب إلا أن يعجزا عن الصوم فيكون ذلك الحكم الذي كان لهما قبل النسخ ثابتا لهما حينئذ بحاله... وللحبلى والمرضع إذا خافتا.
وقال آخرون ممن قرأ ذلك: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ} لم ينسخ ذلك ولا شيء منه، وهو حكم مثبت من لدن نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة. وقالوا: إنما تأويل ذلك: على الذين يطيقونه في حال شبابهم وحداثتهم، وفي حال صحتهم وقوتهم إذا مرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم فدية طعام مسكين لا أن القوم كان رخص لهم في الإفطار وهم على الصوم قادرون إذا افتدوا...
وقرأ ذلك آخرون: {وَعلى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين} وقالوا: إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه، فلهما أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم أفطراه مسكينا. وقالوا: الآية ثابتة الحكم منذ أنزلت لم تنسخ، وأنكروا قول من قال إنها منسوخة.
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين} منسوخ بقول الله تعالى ذكره: "فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ" لأن الهاء التي في قوله: وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ من ذكر الصيام. ومعناه: وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعام مسكين. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن من كان مطيقا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوم شهر رمضان فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين، كان معلوما أن الآية منسوخة. هذا مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها من أنهم كانوا بعد نزول هذه الآية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه وسقوط الفدية عنهم، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم، وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت: {فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فألزموا فرض صومه، وبطل الخيار والفدية.
فإن قال قائل: وكيف تدعي إجماعا من أهل الإسلام على أن من أطاق صومه وهو بالصفة التي وصفت فغير جائز له إلا صومه، وقد علمت قول من قال: الحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما لهما الإفطار، وإن أطاقتا الصوم بأبدانهما، مع الخبر الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:
حدثنا به هناد بن السري، قال: حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتغدى فقال: «تَعالَ أُحدّثْكَ، إن اللّهَ وَضَعَ عَنِ المُسافِرِ وَالحامِلِ وَالمُرْضِعِ الصّوْمَ وَشَطْرَ الصّلاة».
قيل: إنا لم نّدع إجماعا في الحامل والمرضع، وإنما ادعينا في الرجال الذين وصفنا صفتهم. فأما الحامل والمرضع فإنما علمنا أنهنّ غير معنيات بقوله: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وخلا الرجال أن يكونوا معنيين به لأنهنّ لو كنّ معنيات بذلك دون غيرهن من الرجال لقيل: وعلى اللواتي يطقنه فدية طعام مسكين لأن ذلك كلام العرب إذا أفرد الكلام بالخبر عنهن دون الرجال فلما قيل: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ} كان معلوما أن المعنيّ به الرجال دون النساء، أو الرجال والنساء. فلما صحّ بإجماع الجميع على أن من أطاق من الرجال المقيمين الأصحاء صوم شهر رمضان فغير مرخص له في الإفطار والافتداء، فخرج الرجال من أن يكونوا معنيين بالآية، وعلم أن النساء لم يردن بها لما وصفنا من أن الخبر عن النساء إذا انفرد الكلام بالخبر عنهن وعلى اللواتي يطقنه، والتنزيل بغير ذلك.
وأما الخبر الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه إن كان صحيحا، فإنما معناه أنه وضع عن الحامل والمرضع الصوم ما دامتا عاجزتين عنه حتى تطيقا فتقضيا، كما وضع عن المسافر في سفره حتى يقيم فيقضيه، لا أنهما أمرتا بالفدية والإفطار بغير وجوب قضاء، ولو كان في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ وَضَعَ عَنِ المُسافِرِ وَالمُرْضِعِ وَالحامِلِ الصّوْمَ» دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى أن الله تعالى ذكره وضع عنهم بقوله: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين،} لوجب أن لا يكون على المسافر إذا أفطر في سفره قضاء، وأن لا يلزمه بإفطاره ذلك إلا الفدية لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حكمه وبين حكم الحامل والمرضع، وذلك قول إن قاله قائل خلاف لظاهر كتاب الله ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام.
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَه} وعلى الذين يطيقون الطعام، وذلك لتأويل أهل العلم مخالف.
وأما قراءة من قرأ ذلك: «وَعلى الّذِينَ يُطَوّقُونَه» فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلاف، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأي على ما نقله المسلمون وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم نقلاً ظاهرا قاطعا للعذر، لأن ما جاءت به الحجة من الدين هو الحق الذي لا شك فيه أنه من عند الله، ولا يعترض على ما قد ثبت وقامت به حجة أنه من عند الله بالآراء والظنون والأقوال الشاذة.
وأما معنى «الفدية» فإنه الجزاء من قولك: فديت هذا بهذا: أي جزيته به، وأعطيته بدلاً منه.
ومعنى الكلام: وعلى الذين يطيقون الصيام جزاء طعام مسكين لكل يوم أفطره من أيام صيامه الذي كتب عليه.
"فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين": فإن القرّاء مختلفة في قراءته، فبعض يقرأ بإضافة الفدية إلى الطعام، وخفض الطعام وذلك قراءة معظم قرّاء أهل المدينة بمعنى: وعلى الذين يطيقونه أن يفدوه طعام مسكين، فلما جعل مكان أن يفديه الفدية أضيف إلى الطعام، كما يقال: لزمني غرامة درهم لك بمعنى لزمني أن أغرم لك درهما، وآخرون يقرؤونه بتنوين الفدية ورفع الطعام بمعنى الإبانة في الطعام عن معنى الفدية الواجبة على من أفطر في صومه الواجب، كما يقال لزمني غرامةُ درهمٍ لك، فتبين بالدرهم عن معنى الغرامة ما هي وما حدّها، وذلك قراءة عُظْم قرّاء أهل العراق.
وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: «فِديةُ طعَام» بإضافة الفدية إلى الطعامِ، لأن الفدية اسم للفعل، وهي غير الطعام المفدى به الصوم. وذلك أن الفدية مصدر من قول القائل: فديت صوم هذا اليوم بطعام مسكين، أفديه فدية، كما يقال: جلست جلسة، ومشيت مشية، والفدية فعل والطعام غيرها. فإذا كان ذلك كذلك، فبَيّنٌ أن أصحّ القراءتين إضافة الفدية إلى الطعام، وواضح خطأ قول من قال: إن ترك إضافة الفدية إلى الطعام أصحّ في المعنى من أجل أن الطعام عنده هو الفدية. فيقال لقائل ذلك: قد علمنا أن الفدية مقتضية مفديّا ومفديّا به وفدية، فإن كان الطعام هو الفدية والصوم هو المفدى به، فأين اسم فعل المفتدى الذي هو فدية؟ إن هذا القول خطأ بين غير مشكل.
وأما الطعام فإنه مضاف إلى المسكين والقراء في قراءة ذلك مختلفون، فقرأه بعضهم بتوحيد المسكين بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين واحد لكل يوم أفطره... عن أبي عمرو: أنه قرأ «فديةٌ» رفع منون «طعامُ» رفع بغير تنوين «مسكين». وقال: عن كل يوم مسكين. وعلى ذلك عُظْم قرّاء أهل العراق. وقرأه آخرون بجمع المساكين: «فِدْيَةٌ طَعامُ مَساكِين» بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين عن الشهر إذا أفطر الشهر كله.
وأعجب القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ "طعامُ مِسكين" على الواحد بمعنى: وعلى الذين يطيقونه عن كل يوم أفطروه فدية طعام مسكين لأن في إبانة حكم المفطر يوما واحدا وصولاً إلى معرفة حكم المفطر جميع الشهر، وليس في إبانة حكم المفطر جميع الشهر وصول إلى إبانة حكم المفطر يوما واحدا وأياما هي أقل من أيام جميع الشهر، وأن كل واحد يترجم عن الجميع وأن الجميع لا يترجم به عن الواحد، فلذلك اخترنا قراءة ذلك بالتوحيد.
واختلف أهل العلم في مبلغ الطعام الذي كانوا يطعمون في ذلك إذا أفطروا، فقال بعضهم: كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم الواحد نصف صاع من قمح.
وقال بعضهم: كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم مدّا من قمح ومن سائر أقواتهم.
وقال بعضهم: كان ذلك نصف صاع من قمح أو صاعا من تمر أو زبيب.
وقال بعضهم: ما كان المفطر يتقوّته يومه الذي أفطره.
وقال بعضهم: كان ذلك سحورا وعشاء يكون للمسكين إفطارا.
{فَمِنْ تَطَوّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم:... عن ابن عباس: {فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا} فزاد طعام مسكين آخر فهو خير له. {وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ.}
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوّع خيرا فصام مع الفدية.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوّع خيرا فزاد المسكين على قدر طعامه.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره عمم بقوله: "فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا" فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض، فإن جمع الصوم مع الفدية من تطوّع الخير وزيادة مسكين على جزاء الفدية من تطوّع الخير.
وجائز أن يكون تعالى ذكره عنى بقوله: {فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا} أيُّ هذه المعاني تطوّع به المفتدي من صومه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ لأن كل ذلك من تطوّع الخير ونوافل الفضل.
{وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.}: وأنْ تَصُومُوا ما كتب عليكم من شهر رمضان فهو خير لكم من أن تفطروه وتفتدوا.
{إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: إن كنتم تعلمون خير الأمرين لكم أيها الذين آمنوا من الإفطار والفدية أو الصوم على ما أمركم الله به.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والسفر سفر الطاعة كالحج والجهاد بإجماع، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. وأما سفر التجارة والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز، والقول بالجواز أرجح، وأما سفر المعاصي فمختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح...
أما قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} فالمراد منه أن فرض الصوم في الأيام المعدودات إنما يلزم الأصحاء المقيمين فأما من كان مريضا أو مسافرا فله تأخير الصوم عن هذه الأيام إلى أيام أخر
قال القفال رحمه الله: انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، وأنه تعالى بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمة المتقدمة والغرض منه ما ذكرنا أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت، ثم ثانيا بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم، وهو أنه سبب لحصول التقوى، فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف،
ثم ثالثا: بين أنه مختص بأيام معدودة، فإنه لو جعله أبدا أو في أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة. ثم بين رابعا: أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة. ثم بين خامسا: إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون، فهو سبحانه راعى في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيرا...
أما قوله: {إن كنتم تعلمون} أي أن الصوم عليكم فاعلموا صدق قولنا وأن تصوموا خير لكم.
الثاني: أن آخر الآية متعلق بأولها والتقدير كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون أي أنكم إذا تدبرتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للتقوى وغيرها مما ذكرناه في صدر هذه الآية.
الثالث: أن العالم بالله لا بد وأن يكون في قلبه خشية الله على ما قال: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} فذكر العلم والمراد الخشية، وصاحب الخشية يراعي الاحتياط، والاحتياط في فعل الصوم، فكأنه قيل: إن كنتم تعلمون الله حتى تخشونه كان الصوم خيرا لكم.
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
يقال: إن فريضة رمضان نزلت في السنة الثانية من الهجرة وذلك قبل غزوة بدر بشهر وأيام،... وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان على رأس ثمانية عشر شهراً من الهجرة...
قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً...} [عن] ابن عطية: قال قوم: متى صدق على المكلف أنه مريض صحّ له الفطر، وقاله ابن سيرين فيمن وجعته أصبعه، فأفطر، وحكاه عنه ابن رشد في مقدماته.
والمراد عند الجمهور] المرض الذي يشق معه الصوم. قال ابن عرفة: سبب الخلاف ما يحكيه المازري وابن بشير من الاختلاف في الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها، فظاهر الآية عندي حجة للجمهور لقول الله {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} ولم يقل: فمن مرض، فظاهره أنه لا يفطر بمطلق المرض بل مرض محقق ثابت يصدق أن يقال في صاحبه كان مريضا لأن « كان» تقتضي الدوام...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184]. يقتضي الحضَّ على الصوْمِ، أي: فاعلموا ذلك وصوموا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ساق سبحانه وتعالى الإفطار عند الإطاقة والفدية واجبها ومندوبها مساق الغيبة وترك ذكر الفطر وإن دل السياق عليه إشارة إلى خساسته تنفيراً عنه، جعل أهل الصوم محل حضرة الخطاب إيذاناً بما له من الشرف على ذلك كله ترغيباً فيه وحضاً عليه فقال: {وأن تصوموا} أيها المطيقون {خير لكم} من الفدية وإن زادت.
قال الحرالي: ففيه إشعار بأن الصائم يناله من الخير في جسمه وصحته ورزقه حظ وافر مع عظم الأجر في الآخرة، كما أشار إليه الحديث القدسي:"كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي" وذلك لأنه لما كانت الأعمال أفعالاً وإنفاقاً وسيراً وأحوالاً مما شأن العبد أن يعمله لنفسه ولأهله في دنياه وكان من شأنه كانت له، ولما كان الصوم ليس من شأنه لم يكن له، فالصلاة مثلاً أفعال وأقوال وذلك من شأن المرء والزكاة إنفاق وذلك من شأنه، والحج ضرب في الأرض وذلك من شأنه وليس من شأنه أن لا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا ينتصف ممن يعتدى عليه فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، فليس جملة مقاصد الصوم من شأنه وحقيقته إذبال جسمه وإضعاف نفسه وإماتته، ولذلك كان الصوم كفارة للقتل خطأ لينال بالصوم من قتل نفسه بوجه ما ما جرى على يده خطأ من القتل، فكان في الصوم تنقص ذات الصائم فلذلك قال تعالى: "فإنه لي "حين لم يكن من جنس عمل الآدمي، قال سبحانه وتعالى: "وأنا أجزي به" ففي إشارته أن جزاءه من غيب الله مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كل ذلك في مضمون قوله {إن كنتم تعلمون}
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَوْ على سَفَرٍ} مستمرّين عليه، وفيه تلويحٌ ورمزٌ إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يُفطر...
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما في صومِكم مع تحقّق المبيحِ للإفطار من الفضيلة، والجوابُ محذوفٌ ثقةً بظهوره أي اخترتموه أو سارعتم إليه، وقيل: معناه إن كنتم من أهلِ العلمِ والتدبُّر علمتم أن الصومَ خيرٌ من ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة -في غير سفر ولا مرض -: (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون).. لما في الصوم من خير في هذه الحالة. يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة، وتقوية الاحتمال، وإيثار عبادة الله على الراحة. وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية. كما يبدو لنا منه ما في الصوم من مزايا صحية- لغير المريض -حتى ولو أحس الصائم بالجهد...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والإطاقة كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: الطاقة: اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة..، فقوله تعالى: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به... 286} [البقرة]؛ معناه: ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا...
{فمن تطوع} الفاء هنا للإفصاح، أي إذا كان كتب عليكم الصوم ويسر الله تعالى عليكم بالرخص التي رخص بها فمن تطوع خيرا، أي فمن قصد الطاعة، وتكلفها قاصدا الخير فهو خير يدخره له يوم القيامة، فالتطوع هنا ليس النافلة كما قال الفقهاء فإن ذلك اصطلاح فقهي لا تخضع له عبارات القرآن في دلالاتها، بل تخضع للغة، والآثار النبوية فقط، والتطوع هنا هو المبالغة في الطاعة قاصدا أو طالبا خيرا، فهو خير له...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
"وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تعْلَمُونَ": الظاهر منها بقرينة السياق هو أنها خطاب للذين يجهدهم القضاء، فتباح لهم الفدية، لإعلامهم بأنَّ الفدية، وإن كانت جائزة، إلاَّ أنَّ الصوم خيرٌ لهم إن كانوا يعلمون لما فيه من النتائج الروحية والعملية. وهناك احتمال بأنَّ الفقرة واردة في الحديث عن الصوم، بأنه خير للنّاس في ذاته بحسب فلسفة الصوم في تشريعه من حيث المنافع الكثيرة العائدة إلى النّاس،
وقد جرى أسلوب القرآن على الإتيان بهذه الفقرة بعد كلّ تشريع، لما ورد في قوله سبحانه بعد ذكر وجوب صلاة الجمعة:] يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللّه وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [[الجمعة: 9] وقوله تعالى:] وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللّه وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [[العنكبوت: 16].