والوسواس كما يكون من الجن يكون من الإنس ، ولهذا قال : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } .
والحمد لله رب العالمين أولًا وآخرًا ، وظاهرًا وباطنًا .
ونسأله تعالى أن يتم نعمته ، وأن يعفو عنا ذنوبًا لنا حالت{[1]} بيننا وبين كثير من بركاته ، وخطايا وشهوات ذهبت بقلوبنا عن تدبر آياته .
ونرجوه ونأمل منه أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا ، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، ولا يقنط من رحمته إلا القوم الضالون .
وصلى الله وسلم على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، صلاة وسلامًا دائمين متواصلين أبد الأوقات ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
تم تفسير كتاب الله بعونه وحسن توفيقه ، على يد جامعه وكاتبه ، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله المعروف بابن سعدي ، غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين ، وذلك في غرة ربيع الأول من سنة أربع وأربعين وثلثمائة وألف من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم{[2]} في ب : ووقع النقل في شعبان 1345 ربنا تقبل منا واعف إنك أنت الغفور الرحيم .
ووسوسة الجنة نحن لا ندري كيف تتم ، ولكنا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة . ونعرف أن المعركة بين آدم وإبليس قديمة قديمة ؛ وأن الشيطان قد أعلنها حربا تنبثق من خليقة الشر فيه ، ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان ! وأنه قد استصدر بها من الله إذنا ، فأذن فيها - سبحانه - لحكمة يراها ! ولم يترك الإنسان فيها مجردا من العدة . فقد جعل له من الإيمان جنة ، وجعل له من الذكر عدة ، وجعل له من الاستعاذة سلاحا . . فإذا أغفل الإنسان جنته وعدته وسلاحه فهو إذن وحده الملوم !
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " .
وأما الناس فنحن نعرف عن وسوستهم الشيء الكثير . ونعرف منها ما هو أشد من وسوسة الشياطين !
رفيق السوء الذي يتدسس بالشر إلى قلب رفيقه وعقله من حيث لا يحتسب ومن حيث لا يحترس ، لأنه الرفيق المأمون !
وحاشية الشر التي توسوس لكل ذي سلطان حتى تتركه طاغية جبارا مفسدا في الأرض ، مهلكا للحرث والنسل !
والنمام الواشي الذي يزين الكلام ويزحلقه ، حتى يبدو كأنه الحق الصراح الذي لا مرية فيه .
وبائع الشهوات الذي يتدسس من منافذ الغريزة في إغراء لا تدفعه إلا يقظة القلب وعون الله .
وعشرات من الموسوسين الخناسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها ، ويدخلون بها من منافذ القلوب الخفية التي يعرفونها أو يتحسسونها . . وهم شر من الجنة وأخفى منهم دبيبا !
والإنسان عاجز عن دفع الوسوسة الخفية . ومن ثم يدله الله على عدته وجنته وسلاحه في المعركة الرهيبة !
وهناك لفتة ذات مغزى في وصف الوسواس بأنه( الخناس ) . . فهذه الصفة تدل من جهة على تخفيه واختبائه حتى يجد الفرصة سانحة فيدب ويوسوس . ولكنها من جهة أخرى توحي بضعفه أمام من يستيقظ لمكره ، ويحمي مداخل صدره . فهو - سواء كان من الجنة أم كان من الناس - إذا ووجه خنس ، وعاد من حيث أتى ، وقبع واختفى . أو كما قال الرسول الكريم في تمثيله المصور الدقيق : " فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " . .
وهذه اللفتة تقوي القلب على مواجهة الوسواس . فهو خناس . ضعيف أمام عدة المؤمن في المعركة .
ولكنها - من ناحية أخرى - معركة طويلة لا تنتهي أبدا . فهو أبدا قابع خانس ، مترقب للغفلة . واليقظة مرة لا تغني عن اليقظات . . والحرب سجال إلى يوم القيامة ؛ كما صورها القرآن الكريم في مواضع شتى ، ومنها هذه الصورة العجيبة في سورة الإسراء :
" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس ، قال : أأسجد لمن خلقت طينا ؟ قال : أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . قال : اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا . واستفزز من استطعت منهم بصوتك ، وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد ، وعدهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " . .
وهذا التصور لطبيعة المعركة ودوافع الشر فيها - سواء عن طريق الشيطان مباشرة أو عن طريق عملائه من البشر - من شأنه أن يشعر الإنسان أنه ليس مغلوبا على أمره فيها فإن ربه وملكه وإلهه مسيطر على الخلق كله وإذا كان قد أذن لإبليس بالحرب فهو آخذ بناصيته . وهو لم يسلطه إلا على الذين يغفلون عن ربهم وملكهم وإلهم فأما من يذكرونه فهم في نجوة من الشر ودواعيه الخفية فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها يستند ودواعيه الخفية فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها . يستند إلى الرب الملك الإله . والشر يستند إلى وسواس خناس يضعف عن المواجهة ويخنس عند اللقاء وينهزم أمام العياذ بالله . .
وهذا أكمل تصور للحقيقة القائمة عن الخير والشر كما أنه أفضل تصور يحمي القلب من الهزيمة ويفعمه بالقوة والثقة والطمأنينة . .
والحمد لله أولا وأخيرا . وبه الثقة والتوفيق . . وهو المستعان المعين . . .
و { مِن } في قوله : { من الجنة والناس } بيانية بينَتْ { الذي يوسوس في صدور الناس } بأنه جنس ينحلّ باعتبار إرادة حقيقته ، ومجازه إلى صنفين : صنف من الجنّة وهو أصله ، وصنف من الناس وما هو إلا تبع وولي للصنف الأول ، وجمَع الله هذين الصنفين في قوله : { وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً } [ الأنعام : 112 ] .
ووجه الحاجة إلى هذا البيان خفاءُ ما ينجرّ من وسوسة نوع الإِنسان ، لأن الأمم اعتادوا أن يحذرهم المصلحون من وسوسة الشيطان ، وربما لا يخطر بالبال أن من الوسواس ما هو شر من وسواس الشياطين ، وهو وسوسة أهل نوعهم وهو أشد خطراً وهم بالتعوذ منهم أجدر ، لأنهم منهم أقرب وهو عليهم أخطر ، وأنهم في وسائل الضر أدخل وأقدر .
ولا يستقيم أن يكون { من } بياناً للناس إذ لا يطلق اسم { الناس } على ما يشمل الجن ومن زعم ذلك فقد أبْعَدَ .
وقُدم { الجنة } على { الناس } هنا لأنهم أصل الوسواس كما علمت بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] لأن خُبثاء الناس أشد مُخالطة للأنبياء من الشياطين ، لأن الله عصم أنبياءه من تسلط الشياطين على نفوسهم قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [ الحجر : 42 ] فإن الله أراد إبلاغ وحيه لأنبيائه فزكّى نفوسهم من خبث وسوسة الشياطين ، ولم يعصمهم من لحاق ضر الناس بهم والكيد لهم لضعف خطره ، قال تعالى : { وإذْ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماركين } [ الأنفال : 30 ] ولكنه ضمن لرسله النجاة من كل ما يقطع إبلاغ الرسالة إلى أن يتم مراد الله .
والجنة : اسم جمع جني بياء النسب إلى نوع الجن ، فالجني الواحد من نوع الجن كما يقال : إنسيّ للواحد من الإِنس .
وتكرير كلمة { الناس } في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهارٌ في مقام الإِضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى ومِلكه وإلهيته للناس كلهم كقوله تعالى : { يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب } [ آل عمران : 78 ] .
وأما تكريره المرة الثالثة بقوله : { في صدور الناس } فهو إظهار لأجل بُعد المعاد .
وأما تكريره المرة الرابعة بقوله : { من الجنة والناس } فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس ، وذلك غير ما صَدْق كلمة { الناس } في المرّات السابقة .