ثم بيّن سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان : جني وإنسي ، فقال : { مِنَ الجنة والناس } أما شيطان الجنّ فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق ، فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته كما قال سبحانه : { شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] ويجوز أن يكون متعلقاً ب { يوسوس } أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ، ومن جهة الناس ، ويجوز أن يكون بياناً للناس . قال الرازي وقال قوم : من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله : { فِي صُدُورِ الناس } لأن القدر المشترك بين الجنّ والإنس يسمى إنساناً ، والإنسان أيضاً يسمى إنساناً ، فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس والنوع بالاشتراك . والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجنّ ما روي أنه جاء نفر من الجنّ ، فقيل لهم : من أنتم ؟ قالوا : ناس من الجنّ . وأيضاً قد سماهم الله رجالاً في قوله : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجِنّ } [ الجن : 6 ] . وقيل : يجوز أن يكون المراد أعوذ بربّ الناس من الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس ومن الجنة والناس ، كأنه استعاذ ربّه من ذلك الشيطان الواحد ، ثم استعاذ بربّه من جميع الجنة والناس . وقيل : المراد بالناس الناسي وسقطت الياء كسقوطها في قوله : { يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ } [ القمر : 6 ] ثم بيّن بالجنة والناس لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان ، وأحسن من هذا أن يكون قوله : { والناس } معطوفاً على الوسواس : أي من شرّ الوسواس ومن شرّ الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شرّ الجنّ والإنس . قال الحسن : أما شيطان الجنّ فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية . وقال قتادة : إن من الجنّ شياطين ، وإن من الإنس شياطين ، فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس . وقيل : إن إبليس يوسوس في صدور الجنّ ، كما يوسوس في صدور الإنس ، وواحد الجنة جنيّ كما أن واحد الإنس إنسيّ . والقول الأوّل هو أرجح هذه الأقوال ، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلاّ بالمعنى الذي قدّمنا ، ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة .
وقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عباس في قوله : { الوسواس الخناس } قال : مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب فيوسوس إليه ، فإن ذكر الله خنس ، وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخنّاس .
وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى وابن شاهين والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإن ذكر الله خنس ، وإن نسيه التقم قلبه ، فذلك الوسواس الخنّاس » . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { الوسواس الخناس } قال : الشيطان جاث على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس . وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة والبيهقي عنه قال : ما من مولود يولد إلاّ على قلبه الوسواس ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا غفل وسوس ، فذلك قوله : { الوسواس الخناس } . وقد ورد في معنى هذا غيره ، وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان ، وإن لم يكن على طريق الاستعاذة ، ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.