مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

أما قوله تعالى : { من الجنة والناس } ففيه وجوه :

أحدها : كأنه يقول الوسواس الخناس قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس كما قال : { شياطين الإنس والجن } وكما أن شيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى فشيطان الإنس يكون كذلك ، وذلك لأنه يرى نفسه كالناصح المشفق ، فإن زجره السامع يخنس ، ويترك الوسوسة ، وإن قبل السامع كلامه بالغ فيه ( وثانيها ) قال قوم قوله : { من الجنة والناس } قسمان مندرجان تحت قوله في : { صدور الناس } كأن القدر المشترك بين الجن والإنس ، يسمى إنسانا والإنسان أيضا يسمى إنسانا فيكون لفظ الإنسان واقعا على الجنس والنوع بالاشتراك ، والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه الجن والإنس ما روي أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم : من أنتم فقالوا : أناس من الجن ، أيضا قد سماهم الله رجالا في قوله : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } فجاز أيضا أن يسميهم ههنا ناسا ، فمعنى الآية على هذا التقدير أن هذا الوسواس الخناس شديد الخنث لا يقتصر على إضلال الإنس بل يضل جنسه وهم الجن ، فجدير أن يحذر العاقل شره ، وهذا القول ضعيف ، لأن جعل الإنسان اسما للجنس الذي يندرج فيه الجن والإنس بعيد من اللغة لأن الجن سموا جنا لاجتنانهم والإنسان إنسانا لظهوره من الإيناس وهو الإبصار ، وقال صاحب الكشاف : من أراد تقرير هذا الوجه ، فالأولى أن يقول : المراد من قوله : { يوسوس في صدور الناس } أي في صدور الناسي كقوله : { يوم يدعو الداع } وإذا كان المراد من الناس الناسي ، فحينئذ يمكن تقسيمه إلى الجن والإنس لأنهما هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله تعالى ( وثالثها ) : أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس ومن الجنة والناس كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد ، ثم استعاذ بربه من الجميع الجنة والناس .

ختام السورة:

واعلم أن لهذه السورة لطيفة أخرى : وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه رب الفلق ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات ، وهي الغاسق والنفاثات والحاسد ، وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة : وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة ، وهي الوسوسة ، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب ، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن ، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين ، وهذا تنبيه على أن مضرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت ، والله سبحانه وتعالى أعلم .