الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

قوله : { مِنَ الْجِنَّةِ } : فيه أوجهٌ :

أحدُها : أنه بدلٌ من " شَرِّ " بإعادة العاملِ ، أي : مِنْ شَرِّ الجِنة .

الثاني : أنه بدلٌ مِنْ ذي الوَسواس ؛ لأنَّ المُوَسْوِسَ من الجنِّ والإِنس .

الثالث : أنَّه حالٌ من الضمير في " يُوَسْوِسُ " ، أي : يُوَسْوِس حالَ كونِه مِنْ هذين الجنسَيْنِ .

الرابع : أنه بدلٌ من " الناس " ، وجَعَلَ " مِنْ " تَبْييناً . وأَطْلَقَ على الجِنِّ اسمَ الناس ؛ لأنهم يتحرَّكون في مُراداتهم ، قاله أبو البقاء ، إلاَّ أنَّ الزمخشري أبطلَ فقال بعد أَنْ حكاه : " واسْتَدَلُّوا ب{ نَفَرٌ } [ الجن : 1 ] و { رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] ما أحقَّه ؛ لأن الجنَّ سُمُّوا جِنَّاً لاجتنانِهم ، والناسَ ناساً لظهورِهم ، من الإِيناس وهو الإِبصار ، كما سُمُّوا بَشَراً . ولو كان يقع الناسُ على القبيلَيْنِ وصَحَّ وثَبَتَ لم يكن مناسِباً لفصاحةِ القرآن وبعده مِنَ التَصَنُّع ، وأَجْوَدَ من أن يرادَ بالناس الناسي كقولِه : { يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ } القمر : 6 ] ، وكما قرئ { مِنْ حيث أفاضَ الناسي } ، ثم بُيِّنَ بالجِنة والناس ؛ لأنَّ الثَّقَلَيْن هما النوعان الموصوفانِ بنِسْيان حَقِّ اللَّهِ تعالى " . قلت : يعني أنه اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء ، والمرادُ اسمُ الفاعلِ ، وقد تقدَّم تحقيق هذا في البقرة ، وأَنْشَدْتُ عليه هناك شيئاً من الشواهد .

الخامس : أنه بيانٌ للذي يوسوِسُ ، على أن الشيطان ضربان : إنسِيُّ وجنيُّ ، كما قال { شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ } [ الأنعام : 112 ] ، وعن أبي ذر : أنه قال لرجل : هل اسْتَعَذْتَ من شياطينِ الإِنس ؟

السادس : أنَّه يتعلَّق ب " يُوَسْوِس " ، و " مِنْ " لابتداءِ الغاية ، أي : يُوَسْوِسُ في صدورِهم من جهة الجنِّ ومِنْ جهة الإِنس .

السابع : أنَّ " والناس " عطفٌ على " الوَسْواس " ، أي : مِنْ شَرِّ الوَسْواس والناس . ولا يجوزُ عطفُه على الجِنَّةِ ؛ لأنَّ الناسَ لا يُوَسْوِسُوْنَ في صدورِ الناس ، إنما يُوَسْوِس الجنُّ ، فلمَّا استحالَ المعنى حُمِل على العطف على الوَسْواس ، قاله مكي ، وفيه بُعْدٌ كبيرٌ لِلَّبْسِ الحاصلِ . وقد تقدَّم أنَّ الناسَ يُوَسْوِسون أيضاً بمعنىً يليقُ بهم .

الثامن : أنَّ { مِنَ الْجِنَّةِ } حالٌ من " الناس " ، أي : كائنين من القبيلين ، قاله أبو البقاء ، ولم يُبَيِّنْ : أيُّ الناسِ المتقدمُ أنه صاحبُ الحالِ ؟ وعلى كلِّ تقديرٍ فلا يَصِحُّ معنى الحاليةِ [ في شيءٍ منها ] ، لا الأولُ ولا ما بعدَه . ثم قال : " .

وقيل : هو معطوف على الجِنَّة " يريد " والناسِ " الأخيرَ معطوفٌ على " الجِنة " وهذا الكلامُ يَسْتدعي تقدُّمَ شيءٍ قبلَه : وهو أَنْ يكونَ " الناس " عطفاً على غير الجِنة كما قال به مكي ثم يقول : " وقيل هو معطوفٌ على " الجِنة " ، وفي الجملة فهو كلامٌ متسامَحٌ فيه [ سامَحَنا الله ] وإياه وجميعَ خلقِه بمنِّة وكَرَمِه وخَتَمَ لنا منه بخيرٍ ، وخَتَم لنا رِضاه عنَّا وعن جميع المسلمين .

وهذا آخِرُ ما تَيَسَّر لي من إملاءِ هذا الموضوعِ ، وحَصْرِ ما في هذا المجموعِ متوسِّلاً إليه بكلامِه ، متشفِّعاً لديه برسولِه محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم في أن يجعلَه خالصاً لوجهِه ، مُوْجِباً للفوز لديه ، فإنه حسبي ونِعْمَ الوكيلُ .

ووافق الفراغُ منه تصنيفاً وكتابة في العُشْرِ الأوسط من شهر رجبٍ الفردِ من شهورِ سنةِ أربعٍ وثلاثين وسبعمئة أحسنَ الله تقضِّيَها بمَنِّه وكَرَمِه . قاله وكتبه أفقرُ عبيدِه إليه أحمدُ بنُ يوسفَ بنِ محمدِ مسعودٍ الشافعيُّ الحلبيُّ حامداً لله ربِّ العالمين ، ومُصَلِّياً على رسولِه الأمين وآلهِ وصحبِه أجمعين وسلَّم .