اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

قوله : { مِنَ الجنة } . فيه أوجه :

أحدها : أنه بدل من «شرّ » بإعادة العامل ، أي : من شر الجنة .

الثاني : أنه بدل من ذي الوسواس ؛ لأن الموسوس من الجن والإنس .

الثالث : أنه حال من الضمير في «يُوسْوِسُ » حال كونه من هذين الجنسين .

الرابع : أنه بدل من «النَّاس » ، وجعل «مِنْ » تبييناً ، وأطلق على الجن اسم النَّاس ؛ لأنهم يتحركون في مراداتهم . قاله أبو البقاء{[61183]} : إلا أنَّ الزمخشري أبطله ، فقال بعد أن حكاه{[61184]} : «واستدلوا بنفر ورجال في سورة «الجنِّ » ، وما أحقه ؛ لأن الجنَّ سموا جنًّا لاجتنانهم ، والناس ناساً لظهورهم من الإيناس ، وهو الإبصار ، كما سموا بشراً ، ولو كان يقع الناس على القبيلين ، وصح ذلك ، وثبت لم يكن مناسباً لفصاحة القرآن ، وبعده عن التصنُّع ، وأجود منه أن يراد بالنَّاس : الناسي ، كقوله : { يَوْمَ يَدْعُ الداع } [ القمر : 6 ] ، ثم يبين بالجنة والناس ؛ لأن الثقلين هما النوعان الموصفان بنسيان حق الله عز وجل » .

الخامس : أنه بيان ل { الذي يُوَسْوِسُ } على أنَّ الشيطان ضربان : جني ، وإنسي ، كما قال : { شَيَاطِينَ الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] ، وعن أبي ذر ، أنه قال لرجل : هلاَّ استعذت من شياطين الإنس .

السادس : أن يتعلق ب «وسوس » ، و«مِنْ » لابتداء الغاية ، أي : يوسوس في صدورهم من جهة الإنس ، ومن جهة الجن .

السابع : أن «الناس » عطف على «الوسواس » ، أي : من شر الوسواس والناس ، ولا يجوز عطفه على «الجنَّة » ؛ لأن النَّاس لا يوسوسون في صدور النَّاس ، إنما يوسوس الجن ، فلما استحال المعنى حمل على العطف على الوسواس ، قاله مكي .

الثامن : أن «مِنْ الجنَّةِ » ؛ حال من «النَّاس » أي : كائنين من القبيلين ، قاله أبو البقاء{[61185]} ، ولم يبين أي الناس المتقدم أنه صاحب الحال ، وعلى كل تقدير فلا يصح معنى الحالية في شيء منها ، لا الأول ، ولا ما بعده ، ثم قال : «وقيل : هو معطوف على الجنة » ، يريد : «والنَّاس » الأخير معطوف على الجنة ، وهذا الكلام يستدعي تقدير شيء قبله ، وهو أن يكون الناس عطفاً على غير الجنة ؛ وفي الجملة فهو كلام يتسامح فيه .

فصل في شياطين الإنس والجن

قال الحسن : هما شيطانان لنا : أما شيطان الجن ، فيوسوسُ في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية{[61186]} .

وقال قتادةُ : إن من الجن شياطين ، وإنَّ من الإنس شياطين ، فتعوذ بالله من شياطين الجن والإنس{[61187]} .

وعن أبي ذر : أنه قال لرجل : هل تعوَّذتَ بالله من شياطين الإنس ؟ .

قال : أو من الإنس شياطين ؟ قال : نعم ، لقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن }{[61188]} [ الأنعام : 112 ] .

وذهب قوم : أنَّ المراد بالناس هنا الجن ، سموا بذلك ناساً كما سموا رجالاً في قوله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن } [ الجن : 6 ] ، وكما سموا نفراً في قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن } [ الأحقاف : 29 ] .

فعلى هذا يكون «والنَّاس » عطفاً على «الجنَّةِ » ، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين .

وقيل : معنى : { مِن شَرِّ الوسواس } ، أي : الوسوسة التي تكون من الجنة والناس ، وهو حديث النفس .

قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ اللهَ - عزَّ وجلَّ - تجَاوَزَ لأمَّتِي مَا حدَّثتْ بِهِ أنفُسهَا ، مَا لَمْ تَعْمَلْ أو تَتَكلَّمْ بِهِ » والله أعلم .

[ تم ]

ختام السورة:

روى [ الثعلبي عن أبيّ ]{[1]} - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ المعوذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلها » .

وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ألا أخْبرُكَ بأفضل ما تعوَّذ بهِ المتعوِّذُونَ » ؟ قلت : بلى يا رسُول اللهِ ، قال : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس }{[2]} والله أعلم .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[61183]:الإملاء 2/298.
[61184]:ينظر: الكشاف 4/824.
[61185]:الإملاء: 2/298.
[61186]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/180).
[61187]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/722)، وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر.
[61188]:تقدم في سورة الأنعام.