محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

وقوله تعالى : { من الجنة والناس } بيان للذي يوسوس على أنه ضربان : ضرب من الجنة وهم الخلق المستثرون الذين لا نعرفهم ، وإنما نجد في أنفسنا أثرا ينسب إليهم ، وضرب من الإنس كالمضللين من أفراد الإنسان ، كما قال تعالى{[7599]} { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } وإيحاؤهم هو وسوستهم .

قال ابن تيمية : فإن قيل : فإن كان أصل الشر كله من الوسواس الخناس ، فلا حاجة إلى ذكر الاستعاذة من وسواس الناس ، فإنه تابع لوسواس الجن ، وقيل : بل الوسوسة نوعان : نوع من الجن ، ونوع من نفوس الإنس ، كما قال :{[7600]} { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } ، فالشر من الجهتين جميعا ، والإنس لهم شياطين ، كما للجن شياطين .

وقال أيضا : { الذي يوسوس في صدور الناس } نفسه لنفسه ، وشياطين الجن وشياطين الإنس ، فليس من شرط الموسوس أن يكون مستترا عن البصر ؛ بل قد يشاهد .

ختام السورة:

لطائف :

الأولى : قال ابن تيمية : إنما خص الناس بالذكر لأنهم المستعيذون ، فيستعيذون بربهم الذي يصونهم ويملكهم ، الذي أمرهم ونهاهم ، وبإلههم الذي يعبدونه من شر الذي يحول بينهم وبين عبادته ، ويستعيذون أيضا من شر الوسواس الذي يحصل في نفوس منهم ومن الجنة ، فإنه أصل الشر الذي يصدر منهم ، والذي يرد عليهم .

وقال الناصر : في ( التخصيص ) جري على عادة الاستعطاف ، فإنه معه أتم .

الثانية : تكرير المضاف إليه وهو { الناس } باللفظ الظاهر لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة ، فإن الإظهار أنسب بالإيضاح المسوق له عطف البيان ، وأدل على شرف الإنسان . وقيل : لا تكرار ، لجواز أن يراد بالعام بعض أفراده ، ف { الناس } الأول بمعنى الجنة والأطفال المحتاجين للتربية ، والثاني الكهول والشبان ؛ لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم ، والثالث الشيوخ ؛ لأنهم المتعبدون المتوجهون لله .

قال الشهاب : وفيه تأمل .

الثالثة : في تعداد الصفات العليا هنا ، إشارة إلى عظم المستعاذ منه ، وأن الآفة النفسانية أعظم من المضار البدنية ، حيث لم يكرر ذلك المستعاذ به في السورة قبل ، وكرره هنا إظهارا للاهتمام في هذه دون تلك ، نقله الشهاب .

الرابعة : قال ابن تيمية : الوسواس من جنس الحديث والكلام ، ولهذا قال المفسرون في قوله { ما توسوس به نفسه } ، قالوا : ما تحدث به نفسه ، وقد قال{[1]} : " إن الله تجاوز لأمتي ما تحدث به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به " ، وهو نوعان : خبر وإنشاء ، فالخبر إما عن ماض ، وإما عن مستقبل ، فالماضي يذكره ، والمستقبل يحدثه بأن يفعل هو أمورا ، أو أن أمورا ستكون بقدر الله ، أو فعل غيره ، فهذه الأماني والمواعيد الكاذبة والإنشاء نهي وإباحة .

الخامسة : قال ابن تيمية : الفرق بين الإلهام المحمود وبين الوسوسة المذمومة هو الكتاب والسنة ، فإن كان مما ألقي في النفس مما دل الكتاب والسنة على أنه تقوى لله فهو من الإلهام المحمود ، وإن كان مما دل على أنه فجور فهو من الوسواس المذموم ، وهذا الفرق مطرد لا ينتقض .

وقد ذكر أبو حازم في الفرق بين وسوسة النفس والشيطان فقال : ما كرهته نفسك لنفسك فهو من الشيطان ، فاستعذ بالله منه ، وما أحبته نفسك لنفسك فهو من نفسك ، فانهها عنه .

السادسة : قال الإمام الغزالي في ( الإحياء ) في بيان تفصيل ما ينبغي أن يحضر في القلب عند كل ركن وشرط من أعمال الصلاة ، ما مثاله : وإذا قلت ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) فاعلم أنه عدوك ومترصد لصرف قلبك عن الله عز وجل حسدا لك على مناجاتك مع الله عز وجل ، وسجودك له ، مع أنه لعن بسبب سجدة واحدة تركها ، ولم يوفق لها ، وإن استعاذتك بالله سبحانه منه بترك ما يحبه ، وتبديله بما يحب الله عز وجل لا بمجرد قولك ، فإن من قصده سبع أو عدو ليفترسه أو ليقتله فقال ( أعوذ منك بهذا الحصن الحصين ) ، وهو ثابت على مكانه ذلك لا ينفعه ؛ بل لا يفيده إلا بتبديل المكان ، فكذلك من يتبع الشهوات التي هي محاب الشيطان ومكاره الرحمن فلا يغنيه مجرد القول ، فليقترن قوله بالعزم على التعوذ بحصن الله عز وجل عن شر الشيطان ، وحصنه ( لا إله إلا الله ) ؛ إذ قال عز وجل فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم : " لا إله إلا الله حصني ، فمن دخل حصني أمن من عذابي " ، والمتحصن به من لا معبود له سوى الله سبحانه ، فأما من اتخذ إلهه هواه فهو من ميدان الشيطان ، لا في حصن الله عز وجل ، انتهى .

وملخصه أن التعوذ ليس هو مجرد القول ؛ بل القول عبارة عما كان للمتعوذ من ابتعاده بالفعل عما يتعوذ منه ، فكان ترجمة لحالهم ، وهذا المعنى كان يلوح لي من قبل أن أراه في كلام حجة الإسلام ، حتى رأيته فحمدت الله على الموافقة .

السابعة : قال الإمام الغزالي في ( الإحياء ) أيضا في بيان تسلط الشيطان على القلب بالوسواس : ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها ما مثاله : اعلم أن القلب في مثال قبة مضروبة لها أبواب ، تنصب إليه الأحوال من كل باب ، ومثاله أيضا مثال هدف تنصب إليه السهام من الجوانب ، أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة ، فتتراءى فيها صورة بعد صورة ، ولا يخلو عنها ، أو مثال حوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه ، وإنما مدخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كمل حال إما من الظاهر فالحواس الخمس ، وإما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان ، فإنه إذا أدرك بالحواس شيئا حصل منه أثر في القلب ، وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلا بسبب كثرة الأكل ، وسبب قوة من المزاج حصل منها في القلب أثر ، وإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى ، وينتقل الخيال من شيء إلى شيء ، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر ، والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائما من هذه الأسباب ، وأخص الآثار الحاصلة في هذه الخواطر ، وأعني بالخواطر ما يحصل فيه من الأفكار والأذكار ، وأعني به إدراكاته علوما إما على سبيل التجدد ، وإما على سبيل التذكر ، فإنها تسمى خواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافلا عنها .

والخواطر هي المحركات للإرادات ، فإن النية والعز والإرادة إنما يكون بعد خطور المنوي بالبال لا محالة ، فمبدأ الأفعال الخواطر ، ثم الخاطر يحرك الرغبة ، والرغبة تحرك العزم ، والعزم يحرك النية ، والنية تحرك الأعضاء . والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو للشر ، أعني إلى ما يضره في العاقبة ، وإلى ما يدعو إلى الخير ، أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة ، فهما خاطران مختلفان . فافتقرا إلى اسمين مختلفين : فالخاطر المحمود يسمى إلهاما ، والخاطر المذموم -أعني الداعي إلى الشر- يسمى وسواسا ، ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة ، ثم إن كل حادث فلا بد له من محدث ، ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب ، هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب ، فمهما استثارت حيطان البيت بنور النار ، وأظلم سقفه واسود بالدخان ، علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة ، وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان ، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا ، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا ، واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقا ، والذي به عبارة عن خلق الله تعالى شأنه إفاضة الخير ، وإفادة العلم ، وكشف الحق ، والوعد بالخير ، والأمر بالمعروف ، وقد خلقه وسخره لذلك ، والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك ، وهو الوعد بالشر ، والأمر بالفحشاء ، والتخويف عند الهم بالخير بالفقر ، فالوسوسة في مقابلة الإلهام ، والشيطان في مقابلة الملك ، والتوفيق في مقابلة الخذلان .

ثم قال الغزالي : ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به ؛ لأنه إذا حضر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان من قبل ، ولكن كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضا أن تكون مجالا للشيطان ، وذكر الله هو الذي يؤمن جانبه ، ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال ، ولا يعالج الشيء إلا بضده وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبرؤ عن الحول والقوة ، وهو معنى قولك ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) وذلك لا يقدر عليه إلا المتقون الغالب عليهم ذكر الله تعال ، ى وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة ، قال الله تعالى{[2]} { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } :

ثم قال : فالوسوسة هي هذه الخواطر ، والخواطر معلومة ، فإذن الوسواس معلوم بالمشاهدة ، وكل خاطر فله سبب ، ويفتقر إلى اسم يعرفه ، فاسم سببه الشيطان ، ولا يتصور أن ينفك عنه آدمي ، وإنما يختلفون بعصيانه ، فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام والملك والشيطان والتوفيق والخذلان . انتهى .

وإلى هنا وقف القلم بالمؤلف رضي الله تعالى عنه ، وبه تم كتاب ( محاسن التأويل ) ، والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كانا لنهتدي لولا أن هدانا الله .


[1]:(4 النساء 15 و 16).
[2]:(24 النور 2).
[7599]:6 / الأنعام / 112.
[7600]:50 / ق / 16.