الآيتان 5و6 : ( والثالث : جائز ){[24253]} أن يكون قوله تعالى{ الذي يوسوس في صدور الناس } { من الجنة والناس }{[24254]} صير الموسوس في صدور الناس من الجنة والناس .
( والرابع : ){[24255]} على التقديم والتأخير ، معناه : { قل أعوذ برب الناس } من الجنة والناس الذي يوسوس في صدور الناس .
أما الوسوسة فهو أمر معروف ، وذلك مما يلقى من الكلمات التي تشغل القلب ، وتحيره لما في أمر الدين ما{[24256]} لا يعرف الذي يلقى إليه المخرج من ذلك .
وعلى ذلك أمر أهل الأهواء وأصناف الكفرة كقوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن } ( الأنعام : 112 ) ، وقوله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } ( الأنعام : 121 ) .
وأما شياطين الجن فهو أمر ظاهر عند جميع أهل الأديان ومن آمن بالرسل عليهم الصلاة والسلام ، لكن الدهرية ومنكري ( الرسل ){[24257]} يقولون : ليس في الجن شياطين ، وإنما هو أمر يخوف به مدعو الرسالة ، ليلزموا الخلق الاستماع إليهم في تعريف الجهل ، وما عندهم في دعواهم من العلوم والمعارف ( شيء ){[24258]} ، وهذا لسفههم قالوه{[24259]} . ولو أنهم تأملوا في ذلك لعرفوا أنهم على غير بحث عما ألزمهم ضرورة الفعل الطلب ، ودعتهم إلى البحث عنه ما مسهم من الحاجة ، وهي الخواطر التي تقع في القلوب والخيالات التي تعرض في الصدور / 660 أ/ ( منها ما ){[24260]} إذا صورت وجدت قباحا ، ومنها {[24261]} ما إذا صورت وجدت حسانا .
ولا يجوز وقوع أمر أو كون شيء بعد أن لم يكن من قبل نفسه للإحالة في أن يصير ، لا شيء بنفسه ، شيئا قبيحا أو حسنا بلا مدبر ، وقد علم جميع الإنسان بالذي ذكرت من الابتلاء به مما يعلم أنه لم يكن من نفسه معنى يحدث له ذلك .
فثبت أن قد كانت الضرورة تلزم البحث عن ذلك . ثم لا يعلم من حيث الأبدان الموجبة لها ، ولا في العقول دركها ، فيجب بها أمران منعاهم عن العلم بهما ، ( هما ){[24262]} القنوع بالجهل وحب الراحة : أحدهما القول بالصانع ، ودخول العالم تحت تدبير حكيم عليم قدير . والآخر القول بالرسالة ، تأتيهم من عند علام الغيوب . وإذا كان ذلك بحيث لا يبلغه علم البشر ، فيعرف حقيقة ذلك ، فيعلم عند النظر والبحث أمرين عظيمين :
أحدهما : الرسل بما معهم من المعجزات ، فيقولون بهم وبالتوحيد بما رأوا من الآيات الصدق ، وإذ قد علموا أن في الأخبار صدقا ، لولا ذلك لكانوا لا يدعون شيئا ، إذ هو خير لهم{[24263]} .
والثاني : يلزمهم بما يعانون من خروج الأمر من غير الحكماء أنها تقع متفاوتة مضطربة ، والعالم بما خرج منشقا على الحكمة والمصلحة ، فعلموا أنه كان يعلم{[24264]} ما به الصالح ، فيلزمهم به أمران أيضا : التوحيد والرسالة ، ولا قوة إلا بالله تعالى .
والأصل عندنا بتمكين الشيطان ما ذكرنا من الوسوسة : أن الشيطان والملك خلقان لله تعالى ، عرفناهما بالرسل عليهم السلام ، وبما بينا من ضرورة الحاجة إلى العلم بمن بالغاية يصير عند التصوير قبيحا أو حسنا ، فيأتيان جميعا بما مكنهما الله تعالى من الأمرين جميعا : أمر الملائكة الخير والحكمة ، فيسهل عليه سبيله بتيسير الله تعالى وفضله ، وأمر الشيطان الضلال والشر ، فييسر عليه ، حتى صار الخير للأول كالطبع ، والشر للثاني كذلك .
فإذن كان كل واحد ممكنا من الأمرين : قال الله تعالى : { فأما من أعطى واتقى } ، { وصدق بالحسنى } إلى قوله تعالى : { فسنيسره للعسرى } ( الليل : 5 10 ) ، وقال الله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه } إلى قوله تعالى : { كأنما يصعد في السماء } ( الأنعام : 125 ) .
ثم الأصل في الإنس أنهم امتحنوا بحقوق بينهم وبين الله تعالى وبحقوق في ما بينهم ، وكلفوا بتثبيت الملائكة إياهم ( بقوله ){[24265]} تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } ( الأنفال : 12 ) ، وأمروا برد ما يوسوس إليهم الشيطان بقوله تعالى : { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } ( فاطر : 6 ) وغير ذلك .
وعلى ذلك خلقت الملائكة ممتحنين بالكتابة على البشر بقوله : { كراما كاتبين } ( الانفطار : 11 ) ، فتكون الحكمة في تكليف التمكين لما وصف من محنة الله تعالى إياهم طاعتهم في أنفسهم ، وفي ما مكنوا من غيرهم على ما ذكرت من أمر الإنس .
وحكمة ذلك للإنسان{[24266]} إلزام التيقظ والنظر في ما يقع في قلبه من الخواطر ، ليعلم الذي له من الذي عليه ، وكذلك في تكليف الملائكة كتابة قوله وفعله ليكون متيقظا ومنتبها في كل أفعاله وأحواله ، كتيقظه في ما كان الأولياء والأعداء من الكاتبين الظاهرين عليه أنه يحذر كل الحذر عما يؤذي وليه ، ويقبل على كل أمر فيه يطمع بما أمل ، ويحذر عدوه أشد الحذر لئلا يؤذيه من حيث لا يعلم ، فيتهمه كل تهمة .
ثم معلوم ألا يمل الكتبة إلا بعد إحكامه وإصلاحه غاية ما يحتمل الوسع .
فعلى ذلك في ما خفي ، إذ هم في العقول في ( درك ){[24267]} ما منهم وما عليهم ، كالذين ذكر منهم ممن ظهر وألا يضارهم ، والله الموفق .
وكذلك صلحت المحنة والأمر في صحبة الأولياء والأعداء بحق الولاية والعداوة في ما لا يرون صلاحها ، وفي ما يرون ، إذ من الوجه الذي فيه الولاية والعداوة مزينة لأبصار القلوب والعقول ، فيمكن الحذر والمعاملة جميعا .
وعلى هذا التقدير لم يمكن الله أعداءه الذين لا يرون من معاداتهم بأفعال من أبدانهم وأموالهم بالسلب والتنجيس والإفساد ، وقد مكن أعداءهم من الإنس ذلك لتمكنهم الدفع عن ذلك والحذر عنه بما وقع الوقوف على حيل بعض ، والصرف عن ذلك .
وما هذا إلا كدرك الحواس بأفعالها وأسبابها بالحس ، وكذلك أمر الملائكة .
لكن من لا يحتمل عقله معرفة الصانع والتوحيد مع شهادة العقل وكل شيء فجهله بالشيطان غير مستبعد ولا مستنكر ، والله اعلم .
قال رضي الله عنه : ثم اختلف في وجه تمكن الشيطان من الإنس في ما يوسوس إليه : قد روي في بعض الأخبار " أنه يجري فيه مجرى الدم " ( مسلم 2174 ) ، فأنكر ذلك قوم ، وليس ذلك مما ينكر بعد العلم باحتمال جري الدم فيه ، وجري قوة الطعام والشراب وما به حياة الأبدان مما لطف مجراه في جميع العروق والأعصاب . وكل شيء بلطافة ذلك ( فعل ذلك ){[24268]} الشيطان .
وعلى ما روي في أمر الملك مما يكتب ما لا يعلم موضع تعوذه ، ولا يسمع صرير قلمه ، ولا ما يكتب علينا من ذلك أمر الذي ذكرت .
ثم قد ثبت القول بأمر الله تعالى نبيه أن يتعوذ به من همزه ونزغه وحضوره بقوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } الآية ( الأعراف : 200 ، وفصلت 36 ) ، وقوله تعالى : { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } ( المؤمنون : 97 ) ، وقوله{[24269]} تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا } ( الأعراف : 201 ) ، وقوله : {[24270]} { الذي يتخبطه الشيطان من المس } الآية ( البقرة : 275 ) ، فثبت أن أمره على ما يشاء .
ثم القول في أي موضع لوقت ما له من الوحي والمس والنزغ أمر لا يحتاج إليه بحق ؛ لأن الله تعالى أخبرنا أنا لا نراه بقوله : { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } ( الأعراف : 27 ) .
ولكن الذي رجعت المحنة إلى أفعاله التي يقع لها آثار في الصدور ، وقد مكنا بحمد الله تعالى منه{[24271]} لندرك منّه .
وإنما علينا التيقظ لما يقع في الصدور من أفعاله ووساوسه لندفع بما مكننا الله تعالى من الأسباب ، وعرفنا من الحجج نقض الباطل ، والتمسك بالحق ، كقوله تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا } ( الأعراف : 301 ) .
ورجعوا إلى الله تعالى بالتعوذ في طلب اللطف الذي جعله الله تعالى للدفاع ، كقول يوسف عليه السلام { وإلا تصرف عن كيدهن أصب إليهن } الآية ( يوسف : 33 ) ، على العلم فيه بطوائف الأشياء من المجعول لدفع كيدهن .
وكذلك قول الراسخين في العلم : { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة } الآية ( آل عمران : 8 ) .
لكن من الناس من يقول : هو يعلم في ما تهوى ، فيزين لها ذلك ، والعقل في ما يدعو إلى ذلك ، يمنعه{[24272]} عن ذلك .
ومنهم من يقول : لا ، لكن في ذلك آثار من الظلمة والنور ، والطيب والخبيث ، فتعرف بالآثار ، وفيها موقع وسواسه حتى يصل إلى العقل . وقد يكون عمل الهوى والعقل جميعا في الجسد وخارج منه ، وبخاصة آثار الأعمال .
ومنهم من يقول : ليس له من ذلك علم / 660 ب/ ، لكن بكل ما يرجو العمل من التغرير ، أو في التمويه والتلبيس كالأعمى في ما يمس ، ويطلب المضار من المنافع ونحو ذلك ، لكن ذلك كله طريق عمل الشيطان ، وطريق إمكانه وحيله ، وذلك من لم يؤمن بمعرفته ، وإنما علينا مجاهدته في منع ذلك بالتيقظ أو بدفعه بما نتذكر ، هكذا ذكرت في الآيات ، أو بالفزع إلى الله تعالى في دفعه ومنعه إن حضر بما عنده من اللطائف التي لديها يقع الأمن عن الزيغ والظفر بالرشد .
ويؤول كثير منهم أنه يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الناس ، وذلك ممكن بما يكون من كل جنس ضلال وغواة وأخيار وأبرار .
فأما حق تأويل السورة ( فهو ){[24273]} على ما وصفنا في ذكر وسواس الجن والإنس .
ثم القول في المعوذتين : إنهما من القرآن ، أو ليستا من القرآن .
قال الفقيه ، رحمه الله : لنا من أمرهما أنهما أنبهتا بما أنبهت إلى أهل هذا العصر معرفة القرآن في الجميع بين اللوحين بتوارث الأمة . ولسنا نحن ممن يعرف بالمحنة والسر بما به نعلم أنهما معجزتان أو لا . وإنما حق ذلك ( الأخذ عن أهل ذلك العصر ){[24274]} ){[24275]} ، والشهادة بعد ذلك أنهما من القرآن ، وأنه معجز ، حق أمثالنا فيه الاتباع ، وقد اتضح بما به جرى التعارف في جميع الشرائع التي بها يشهد أنها عن الله تعالى ، وأنها حق . فعلى ذلك هذا .
لكن ذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لم يكتبهما في مصحفه . وذلك عندنا يخرج على وجهين :
أحدهما : أنه لم يكن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه ){[24276]} قال فيهما شيئا أنهما من القرآن أو{[24277]} لا .
( والثاني : ){[24278]} لم يكن أيضا رأى على نفسه السؤال عن ذلك حقا واجبا ؛ لأن القرآن وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في ما يلزم علم الشهادة والعمل به واحد ؛ إذ المقصود من كل ذلك القيام بالمقصود من حق الكلفة لا التسمية . ولم يكن النجباء يمتحنون أنفسهم بالسر في الوجود ( التي ){[24279]} بها يعرفون المعجز من غير ذلك أنه قرآن أو غيره . وإنما ذلك من عمل المرتابين الشاكين في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم ليعرفوا أنه مبعوث مرسل .
فأما من تقرر عنده ، واطمأن به قلبه ، وزال عنه الحرج في ما آتاهم ، فقد كفوا ( عن ){[24280]} ذلك .
وكذلك يجوز ترك البحث عن ذلك لما ذكرت ، لا أن عنده أنهما ليستا من القرآن .
وفي خبر عقبة ( ابن عامر ){[24281]} الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " نزل اليوم آيات لم ير مثلهن قط ، قيل : ما هن يا رسول الله ؟ فقال : المعوذتان " ( مسلم 814 / 265 ) دل أنهما من القرآن .
وأيد أيضا ما ذكرت في ترك الكتابة ما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بهما : قال ( لي . . . قال : فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ){[24282]} ( البخاري 4693 ) ، لم نشهد في تلك بأنهما منه ، ولا ليستا منه ، بما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بهما .
فعلى ذلك أمر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
ويؤيد ذلك أيضا استعاذة القرآن أنها مقدمة على القراءة ، وحق هاتين السورتين لو كانتا منه لتعين أن تكونا في افتتاح المصحف كالاستعاذة للقرآن .
فهذا أيضا بعض ( الذي ){[24283]} يمنع ( العلم ){[24284]} بحقيقة ذلك عنه ، وقد بينا جواز وجه الإشكال مع ما كان الإنزال لحاجة العباد . وعلى ذلك جرى العمل بهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره ، فهو أمر لا ( يضره الجهل بالوجه ){[24285]} الذي ذكرت .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : لو علمت أن أحدا أعلم بالقرآن مني ، وحملتني مطيتي ، لأتيته .
وقد روي عمن ذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض ( القرآن ){[24286]} على جبرائيل عليه السلام مرة ( في ){[24287]} العام ، إلا في العام الذي قبض ، عرضه{[24288]} عليه مرتين ، وقد شهدهما جميعا عند الله " ( أحمد 1 / 325 ) .
وإذا كان كذلك ، لم يكن هو ممن يسأل في هذا الباب غيره ليثبت عنده السماع أنهما أثبتتا في المصحف ، فبقي قوله بحيث لا نعرف حقيقته .
ووجه آخر : أن يكون رآهما منه ، لكن لم يكتبهما{[24289]} لوجهين :
أحدهما : لما لم يكن موضع الكتاب والتدبير على ما ذكرنا أن تكونا{[24290]} في أول المصاحف ، فكره أن يكتبهما{[24291]} بتدبيره ، ويتخير لهما{[24292]} موضعا للكتابة ، فلم { يكتبهما لذلك ){[24293]} .
والثاني : أنه يكتب ليحفظ ، ولا ينسى ، وقد أمن عليهما النسيان ؛ لأنهما بحيث يجب تلاوتهما في أوائل النهار ، ومبادئ الليل ، وعند النوازل ، ينفع التعوذ بهما عن كل شر وكيد على نحو الاستعاذة وأنواع الدعوات المدعوة . فلما أمن خفاءهما لم يكتبهما{[24294]}
وعلى ذلك ترك كتابة فاتحة الكتاب ، والله أعلم ، ( والحمد لله رب العالمين ){[24295]} .