فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ} (6)

ثم بين سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان : جني وإنسي ، فقال { من الجنة والناس } أما الشيطان الجني فيوسوس في صدور الناس ، وأما الشيطان الإنس فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته كما قال سبحانه { شياطين الإنس والجن } ويجوز أن يكون متعلقا بيوسوس ، أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ، ومن جهة الناس ، ويجوز أن يكون بيانا للناس .

قال الرازي : وقال قوم : من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله { في صدور الناس } ؛ لأن القدر المشترك بين الجن والإنس سمي إنسانا ، والإنسان أيضا سمى إنسانا ، فيكون لفظ الإنسان واقعا على الجنس والنوع بالإشتراك .

والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجن ما روي أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم : من أنتم ؟ قالوا : ناس من الجن . وأيضا قد سماهم الله تعالى رجالا في قوله { وإنه كان رجالا من الإنس يعوذون برجال من الجن } ، وقيل يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ، كأنه استعاذ من ذلك الشيطان ، والواحد ، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس .

وقيل : المراد بالناس " الناسي " ، وسقطت الياء كسقوطها في قوله { يوم يدع الداع } ، ثم بين بالجنة والناس ؛ لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان .

وأحسن من هذا أن يكون قوله { والناس } معطوفا على الوسواس ، أي من شر الوسواس ومن شر الناس ، كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس ، قال الحسن : أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس مباشرة ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية .

وقال قتادة : إن من الجن شياطين ، وإن من الإنس شياطين ، فنعوذ بالله من شياطين الجن والإنس .

وقيل : إن إبليس يوسوس في صدور الإنس .

وواحد الجنة جني ، كما أن واحد الإنس إنسي .

والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال ، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلا بالمعنى الذي قدمنا ، ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة .

وعن ابن عباس قال : قيل : يا رسول الله ، أي الأعمال أحب إلى الله تعالى ؟ قال : " الحال المرتحل " ، قيل : وما الحال المرتحل ؟ قال : " الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل " ، أخرجه الترمذي .

ختام السورة:

الخاتمة

يقول العبد الضعيف الخامل المتواري ، مؤلف هذا التفسير صديق بن حسن بن نعلي الحسيني القنوجي البخاري ، ختم الله له بالحسنى ، وأذاقه حلاوة رضوانه الأسنى .

وإلى هنا انتهى هذا التفسير الجامع بين فني الرواية والدراية ، الرافع من ألوية التحقيق والتنقيح أعظم راية ، وكان الفراغ منه في ضحوة يوم الجمعة لعله التاسع والعشرون من شهر ذي الحجة أحد شهور سنة تسع وثمانين بعد مائتين وألف من الهجرة النبوية ، على صاحبها الصلاة والسلام والتحية ، وقد تم بتمامه ، وانتهى بانتهائه الأسبوع والشهر والسنة ، اللهم كما مننت علي بإكمال هذا التفسير وأعنتني على تحصيله وتفضلت علي بالفراغ منه على ما أردت فامنن علي بقبوله ، واجعله لي ذخيرة خير عندك ، وأجزل لي المثوبة بما صرفت الوقت في تحريره ، كما قلت في كتابك { إني لا أضيع عمل عامل منكم } ، وكما قلت في هذا الباب .

كل يجيء بكسبه وكتابه *** *** يوم القيامة آخر الأزمان

في حضرة الرحمان جل جلاله *** عم الورى بالعفو والغفران

ويجيء هذا العبد وهو مقصر *** بكتابه التفسير فتح بيان

ثم اللهم انفع به من أخلفه من بعدي من ولدي ، ومن شئت من عبادك المؤمنين ، ليدوم لي الانتفاع به بعد موتي ، فإن هذا هو المقصد الجليل ، والمطلب الجميل ، من هذا الجمع والتأليف واجعله خالصا لوجهك الكريم ، وتجاوز عني إذا خطر لي من خواطر السوء ما فيه شائبة تخالف الإخلاص والتوحيد ، واغفر لي مالا يطابق مرادك ، فإني لم أقصد في جميع أبحاثي فيه إلا إصابة الحق وموافقة ما ترضاه ، فإن أخطأت فأنت غافر الخطيآت ، ومسبل ذيل الستر على الهفوات ، وإن أصبت فأنت قابل الطاعات ، ومانح العطيات ، يا بارئ الباريات ، وقد جمعته في زمن أهله بغير الكتاب والسنة يفخرون ، وصنعته كما صنع نوح عليه السلام الفلك ومنه يسخرون ، ولله در من يقول :

إذا رضيت علي كرام عشيرتي *** فلا زال غضبانا علي لئامها

ثم اللهم أحمدك على ما أوليتني من نعمك الوافرة من الأموال والأولاد ، والعلم النافع من الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، لا أحصى حمدا لك ، وأشكرك على ما رزقتني من خلوص النية في القول والعمل والاعتقاد ، لا أحصي شكرك ، أنت كما أثنيت على نفسك .

وقد رويت في صحيح مسلم بن الحجاج بسنده المتصل إلى أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله عليه وآله وسلم : " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " .

اللهم فهذا علم ينتفع به ، وقد علمت نيتي وعدم انتصاري في تفسير كتابك لمذهب ذاهب ، أو قول قائل ، ما عدا قولك ، وما صح عن رسولك{[1]} . صلى الله عليه وآله وسلم ، فانفعني به في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وأجزني بما أنت له أهل ، يا أهل التقوى وأهل المغفرة ، وهذه أولادي فاجعلهم من عبادك الصالحين ، وممن يدعو لي بعد مماتي ، ووفقهم للعلم النافع ، والعمل الصالح ، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم مما لا تحبه ولا ترضاه ، واجعل لي ولهم لسان صدق في الآخرين . { رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين } ، وقد طعنت في العشر الخامس من عمري ، و { وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا } ، فاعذرني ، { فلم أكن بدعائك رب شقيا } .

ولنختتم الكلام بالحمد لله رب العالمين كما بدأنا به أول مرة ، وصلى الله تعالى وسلم ، وبارك على خير خلقه محمد وآله وصحبه كرة بعد كرة .

انتهى الكتاب بعون الله

خاتمة الجزء الخامس عشر

تم بعونه تعالى الجزء الخامس عشر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ، وبذلك نكون قد أتممنا الكتاب بأجزائه الخمسة عشر .


[1]:ثم بفتح الثاء أي هناك.