ولهذا قال : { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ } أي : جمعوا بين الكفر بالله وبرسوله ، ومعصيةِ الرسول { لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ } أي : تبتلعهم ويكونون ترابا وعدما ، كما قال تعالى : { وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } . { وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } أي : بل يقرون له بما عملوا ، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله جزاءهم الحق ، ويعلمون أن الله هو الحق المبين .
فأما ما ورد من أن الكفار يكتمون كفرهم وجحودهم ، فإن ذلك يكون في بعض مواضع القيامة ، حين يظنون أن جحودهم ينفعهم من عذاب الله ، فإذا عرفوا الحقائق وشهدت عليهم جوارحهم حينئذ ينجلي الأمر ، ولا يبقى للكتمان موضع ، ولا نفع ولا فائدة .
وعندئذ يرتسم المشهد شاخصا . . ساحة العرض الواسعة . وكل أمة حاضرة . وعلى كل أمة شهيد بأعمالها . . وهؤلاء الكافرون المختالون الفخورون الباخلون المبخلون ، الكاتمون لفضل الله ، المراءون الذين لم يبتغوا وجه الله . . هؤلاء هم نكاد نراهم من خلال التعبير ! واقفين في الساحة وقد انتدب الرسول [ ص ] للشهادة ! هؤلاء هم بكل ما أضمروا وأظهروا . بكل ما كفروا وما أنكروا . بكل ما اختالوا وما افتخروا . بكل ما بخلوا وبخلوا . بكل ما راءوا وتظاهروا . . هؤلاء هم في حضرة الخالق الذي كفروا به ، الرازق الذي كتموا فضله وبخلوا بالإنفاق مما أعطاهم . في اليوم الآخر الذي لم يؤمنوا به . في مواجهة الرسول الذي عصوه . . فكيف ؟ ؟ ؟
إنها المهانة والخزي ، والخجل والندامة . . مع الاعتراف حيث لا جدوى من الإنكار . .
والسياق القرآني لا يصف هذا كله من الظاهر . إنما يرسم " صورة نفسية " تتضح بهذا كله ؛ وترتسم حواليها تلك الظلال كلها . ظلال الخزي والمهانة ، والخجل والندامة :
( يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ، ولا يكتمون الله حديثًا ) !
ومن خلال اللمسات المعبرة في الصورة الحية ، نحس بكل تلك المعاني ، وبكل تلك الانفعالات ، وهي تتحرك في هذه النفوس . . نحس بها عميقة حية مؤثرة . كما لا نحس من خلال أي تعبير آخر . . وصفي أو تحليلي . . وتلك طريقة القرآن في مشاهد القيامة ، وفي غيرها من مواضع التعبير بالتصوير .
{ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } بيان لحالهم حينئذ ، أي يود الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الأمر ، أو الكفرة والعصاة في ذلك الوقت أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كالموتى ، أو لم يبعثوا أو لم يخلقوا وكانوا هم والأرض سواء . { ولا يكتمون الله حديثا } ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم . وقيل الواو لحال أي يودون أن تسوى بهم الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثا ولا يكذبونه بقولهم { والله ربنا ما كنا مشركين } إذ روي : أنهم إذا قالوا ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم ، فيشتد الأمر عليهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض . وقرأ نافع وابن عامر { تسوى بهم } على أن أصله تتسوى فأدغمت التاء في السين . وقرأ حمزة والكسائي { تسوى } على حذف التاء الثانية يقال سويته فتسوى .
قوله : { يومئذٍ يود الذين كفروا } الآية استئناف بياني ، لأنّ السامع يَتساءل عن الحالة المبهمة المدلولة لقوله : { كيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } ويتطلّب بيانها ، فجاءت هذه الجملة مبيّنة لبعض تلك الحالة العجيبة ، وهو حال الذين كفروا حين يرون بوارق الشرّ : من شهادة شهداء الأمم على مؤمنهم وكافرهم ، ويوقنون بأنّ المشهود عليهم بالكفر مأخوذون إلى العذاب ، فينالهم من الخوف ما يودّون منه لو تَسَّوى بهم الأرض
وجملة { لو تسوى بهم الأرض } بيان لجملة يودّ أي يودّون وُدَّا يبيّنه قوله : { لو تسوى بهم الأرض } ، ولكون مضمونها أفاد معنى الشيء المودود صارت الجملة الشرطية بمنزلة مفعول ( يودّ ) ، فصار فعلها بمنزلة المصدر ، وصارت لو بمنزلة حرف المصدر ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } في سورة البقرة ( 96 ) .
وقوله : { تسوى } قرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد السين فهو مضارع تَسَوَّى الذي هو مطاوع سَوَّاه إذا جعله سَواءً لشيءٍ آخر ؛ أي مماثلا ، لأنّ السواء المثل فأدْغِمت إحدى التاءين في السين ؛ وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف بفتح التاء وتخفيف السين على معنى القرَاءة السابقة لكن بحذف إحدى التاءين للتخفيف ؛ وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب { تسوى } بضمّ التاء وتخفيف السين مبنيّا للمجهول ، أي تُمَاثَل .
والمماثلة المستفادة من التسوية تحتمل أن تكون مماثلة في الذات ، فيكون المعنى أنّهم يصيرون تُراباً مثل الأرض لظهور أن لا يقصد أن تصير الأرض ناسا ، فيكون المعنى على هذا هو معنى قوله تعالى : { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } [ النبأ : 40 ] . وهذا تفسير الجمهور ، وعلى هذا فالكلام إطناب ، قصد من إطنابه سلوك طريقة الكناية عن صيرورتهم تراباً بالكناية المطلوب بها نِسبةٌ ، كقولهم : المجدُ بين ثوبيْه ، وقول زياد الأعجم :
إنَّ السَّماحةَ والمُرُوءَة والنَّدى *** في قُبَّة ضُربت على ابن الحشرج
أي أنّه سمح ذو مروءة كريم ؛ ويحتمل أن تكون مماثلة في المقدار ، فقيل : يودّون أنّهم لم يبعثوا وبَقُوا مستوين مع الأرض في بطنها ، وقيل : يودّون أن يُدفنوا حينئذ كما كانوا قبل البعث .
والأظهر عندي : أنّ المعنى التسويةُ في البروز والظهور ، أي أن ترتفع الأرض فتُسَوَّى في الارتفاع بأجسادهم ، فلا يظهروا ، وذلك كناية عن شدّة خوفهم وذلّهم ، فينقبضون ويتضاءلون حتّى يودّوا أن يصيروا غير ظَاهرين على الأرض ، كما وَصف أحدُ الأعراب يهجو قوماً من طَيّءٍ أنشده المبرّد في الكامل :
إذَا ما قيل أيُّهُمُ لأَي *** تَشَابَهَتْ المَنَاكِبُ والرُّؤُوسُ
وهذا أحسن في معنى الآية وأنسب بالكناية .
وجملة { ولا يكتمون الله حديثاً } يجوز أن تكون مستأنفة والواو عاطفة لها على جملة { يود } ؛ ويجوز أن تكون حالية ، أي يودّون لو تسوّى بهم الأرض في حال عدم كتمانهم ، فكأنّهم لمّا رأوا استشهاد الرسل ، ورأوا جزاء المشهود عليهم من الأمم السالفة ، ورأوا عاقبة كذب المرسَل إليهم حتّى احتيج إلى إشهاد رسلهم ، علموا أنّ النَّوبة مفضية إليهم ، وخامرهم أن يكتموا الله أمْرَهم إذا سألَهم الله ، ولم تساعدهم نفوسهم على الاعتراف بالصدق ، لِمَا رأوا من عواقب ثبوت الكفر ، من شدّة هلعهم ، فوقعوا بين المقتضي والمانع ، فتمنّوا أن يَخفَوْا ولا يظهروا حتّى لا يُسألوا فلا يضطرّوا إلى الاعتراف الموبِق ولا إلى الكتمان المهلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.