{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }
تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن ، وأن القتل من الكفر العملي ، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا ، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة ، وتنزعج منه أولو العقول .
فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد ، بل ولا مثله ، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم ، أي : فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم ، بما فيها من العذاب العظيم ، والخزي المهين ، وسخط الجبار ، وفوات الفوز والفلاح ، وحصول الخيبة والخسار . فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته .
وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد ، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار ، أو حرمان الجنة .
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين . والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق : شمس الدين بن القيم رحمه الله في " المدارج " فإنه قال - بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال : وقالت فِرقَة : هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة ، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده ، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه .
وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها ، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع ، وبعضها بالنص .
فالتوبة مانع بالإجماع ، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها ، والحسنات العظيمة الماحية مانعة ، والمصائب الكبار المكفرة مانعة ، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص ، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين .
ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات ، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه ، وإعمالا لأرجحها .
قالوا : وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما . وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية ، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود ، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا ، وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه ، ويكون الحكم للأغلب منهما .
فالقوة مقتضية للصحة والعافية ، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة ، وفعل القوة والحكم للغالب منهما ، وكذلك قوى الأدوية والأمراض . والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب ، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه ، فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له .
ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل الجنة ولا يدخل النار ، وعكسه ، ومَنْ يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه . ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله ، حتى كأنه يشاهده رأي عين .
ويعلم أن هذا هو مقتضي إلهيته سبحانه ، وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك ، ونسبة ذلك إليه نسبة ما لا يليق به إليه ، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره .
وهذا يقين الإيمان ، وهو الذي يحرق السيئات ، كما تحرق النار الحطب ، وصاحب هذا المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات ، وإن وقعت منه وكثرت ، فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه ، وهذا من أحب الخلق إلى الله . انتهى كلامه قدس الله روحه ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا .
ذلك القتل الخطأ . فأما القتل العمد ، فهو الكبيرة التي لا ترتكب مع إيمان ؛ والتي لا تكفر عنها دية ولا عتق رقبة ؛ وإنما يوكل جزاؤها إلى عذاب الله :
( من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه . وأعد له عذابا عظيمًا ) . .
إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب - بغير حق - ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة ، التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم . إنها تنكر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها .
ومن ثم قرنت بالشرك في مواضع كثيرة ؛ واتجه بعضهم - ومنهم ابن عباس - إلى أنه لا توبة منها . . ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) . . فرجا للقاتل التائب المغفرة . . وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل .
والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى ، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم ، - قبل إسلامهم - يمشون على الأرض - وقد دخلوا في الإسلام - فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة . ولكنهم لا يفكرون في قتلهم . لا يفكرون مرة واحدة ؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجدا ولذعا ومرارة . بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقا واحدا من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام .
{ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } لما فيه من التهديد العظيم . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . " لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا " . ولعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه . والجمهور على أنه مخصوص بمن لم يتب لقوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب } ونحوه وهو عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة وغيره ، ويؤيده أنه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدا ، أو المراد بالخلود المكث الطويل فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم .
«المتعمد » في لغة العرب القاصد إلى الشيء ، واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل ، فقال عطاء وإبراهيم النخعي وغيرهما : هو من قتل بحديدة كالسيف أو الخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقيل الحجارة ونحوه ،
وقالت فرقة : «المتعمد » كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك ، وهذا قول الجمهور وهو الأصح ، ورأى الشافعي وغيره أن القتل بغير الحديد المشحوذ هو شبه العمد ، ورأوا فيه تغليظ الدية ، ومالك رحمه الله لا يرى شبه العمد ولا يقول به في شيء ، وإنما القتل عنده ما ذكره الله تعالى عمداً وخطأ لا غير ، والقتل بالسم عنده عمد ، وإن قال ما أردت إلا سكره ، وقوله :
{ فجزاؤه جهنم } تقديره عند أهل السنة ، فجزاؤه أن جازاه بذلك أي هو أهل ذلك ومستحقه لعظم ذنبه ، ونص على هذا أبو مجلز وأبو صالح وغيرهما وهذا مبني على القول بالمشيئة في جميع العصاة قاتل وغيره ، وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية ، وأنها مخصصة بعمومها لقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[4201]} وتوركوا في ذلك على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال : نزلت الشديدة بعد الهينة ، يرد نزلت { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } بعد { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء 48-116 ] فهم يرون أن هذا الوعيد نافذ حتماً على كل قاتل يقتل مؤمناً ، ويرونه عموماً ماضياً لوجهه ، مخصصاً للعموم في قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 و 116 ] كأنه قال : إلا من قتل عمداً{[4202]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وأهل الحق يقولون لهم : هذا العموم منكسر غير ماض لوجهه من جهتين ، إحداهما ما أنتم معنا مجمعون عليه من الرجل الذي بشهد عليه أو يقرأ بالقتل عمداً ويأتي السلطان أو الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قوداً ، فهذا غير متبع في الآخرة ، والوعيد غير نافذ عليه إجماعاً متركباً . على الحديث الصحيح من طريق عبادة بن الصامت ، ( أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له ){[4203]} ، وهذا نقض للعموم ، والجهة الأخرى أن لفظ هذه الآية ليس بلفظ عموم ، بل لفظ مشترك يقع كثيراً للخصوص ، كقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }{[4204]} وليس حكام المؤمنين إذا حكموا بغير الحق في أمر بكفرة بوجه ، وكقول الشاعر [ زهير بن أبي سلمى ] : [ الطويل ]
وَمَنْ لا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاَحِهِ *** يُهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ{[4205]}
وهذا إنما معناه الخصوص ، لأنه ليس كل من لا يظلم يظلم ، فهذه جهة أخرى تدل على أن العموم غير مترتب ، وما احتجوا به من قول زيد بن ثابت فليس كما ذكروه ، وإنما أراد زيد أن هذه الآية نزلت بعد سورة الفرقان ، ومراده باللينة قوله تعالى : { ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق }{[4206]} ، وإن كان المهدوي قد حكى عنه أنه قال : أنزلت الآية { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } بعد قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 48 -116 ] بأربعة أشهر فإذا دخله التخصيص ، فالوجه أن هذه الآية مخصوصة في الكافر يقتل المؤمن ، أما على ما روي أنها نزلت في شأن مقيس بن صبابة{[4207]} ، حين قتل أخاه هشام بن حبابة رجل من الأنصار ، فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية ، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما ، فعدا عليه مقيس فقتله ورجع إلى مكة مرتداً ، وجعل ينشد : [ الطويل ]
قَتَلْتُ بِهِ فِهْراً وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ . . . سراةَ بني النَّجَّارِ أربابَ فَارِعِ
حَللْتُ بِهِ وِتْرِي وأدْرَكْتُ ثورتي *** وكنتُ إلى الأوثانِ أَوَّلَ راجِعِ{[4208]}
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أؤمنه في حل ولا في حرم » وأمر بقتله يوم فتح مكة ، وهو متعلق بالكعبة ، وإما{[4209]} أن يكون على ما حكي عن ابن عباس أنه قال { متعمداً } معناه مستحلاً لقتله . فهذا يؤول أيضاً إلى الكفر ، وفي المؤمن الذي قد سبق في علم الله أنه يعذبه بمعصيته على ما قدمنا من تأويل ، فجزاؤه_إن جازاه_ ويكون قوله { خالداً } إذا كانت في المؤمن بمعنى باق مدة طويلة على نحو دعائهم للملوك بالتخليد ونحو ذلك ، ويدل على هذا سقوط قوله «أبداً » فإن التأبيد لا يقترن بالخلود إلا في ذكر الكفار .
واختلف العلماء في قبول توبة القاتل ، فجماعة على أن لا تقبل توبته ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر ، وكان ابن عباس يقول : الشرك والقتل مبهمان{[4210]} ، من مات عليهما خلد ، وكان يقول : هذه الآية مدنية نسخت الآية التي في الفرقان ، إذ الفرقان مكية{[4211]} والجمهور على قبول توبته ، وروي عن بعض العلماء أنهم كانوا يقصدون الإغلاظ والتخويف أحياناً ، فيطلقون : لا تقبل توبة القاتل ، منهم ابن شهاب كان إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل قال له : توبتك مقبولة ، وإذا سأله من لم يفعل ، قال له : لا توبة للقاتل ، ومنهم ابن عباس وقع عنه في تفسير عبد بن حميد أن رجلاً سأله أللقاتل توبة ؟ فقال له : لا توبة للقاتل وجزاؤه جهنم ، فلما مضى السائل قال له أصحابه : ما هكذا كنا نعرفك تقول إلا أن للقاتل التوبة ، فقال لهم : إني رأيته مغضباً وأظنه يريد أن يقتل ، فقاموا فطلبوه وسألوا عنه ، فإذا هو كذلك . وذكر هبة الله في كتاب الناسخ والمنسوخ له : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 - 116 ] وقال : هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر ، فإنهما قالا : هي محكمة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفيما قاله هبة الله نظر ، لأنه موضع عموم وتخصيص ، لا موضع نسخ ، وإنما ركب كلامه على اختلاف الناس في قبول توبة القاتل ، والله أعلم .