{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } أي : يوم القيامة الذي وعد الله بإتيانه ، ووعده حق وصدق ، ففي ذلك اليوم ترى أبصار الكفار شاخصة ، من شدة الأفزاع والأهوال المزعجة ، والقلاقل المفظعة ، وما كانوا يعرفون من جناياتهم وذنوبهم ، وأنهم يدعون بالويل والثبور ، والندم والحسرة ، على ما فات ويقولون ل : { قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } اليوم العظيم ، فلم نزل فيها مستغرقين ، وفي لهو الدنيا متمتعين ، حتى أتانا اليقين ، ووردنا القيامة ، فلو كان يموت أحد من الندم والحسرة ، لماتوا . { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } اعترفوا بظلمهم ، وعدل الله فيهم ، فحينئذ يؤمر بهم إلى النار ، هم وما كانوا يعبدون ، ولهذا قال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ }
وقد قلنا من قبل عند الكلام على يأجوج ومأجوج في قصة ذي القرنين في سورة الكهف : اقتراب الوعد الحق الذي يقرنه السياق بفتح يأجوج ومأجوج ، ربما يكون قد وقع بانسياح التتار وتدفقهم شرقا وغربا ، وتحطيم الممالك والعروش . . لأن القرآن قد قال منذ أيام الرسول [ ص ] ( اقتربت الساعة ) . غير أن اقتراب الوعد الحق لا يحدد زمانا معينا للساعة . فحساب الزمن في تقدير الله غيره في تقدير البشر ، ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) .
إنما المقصود هنا هو وصف ذلك اليوم حين يجيء ، والتقديم له بصورة مصغرة من مشاهد الأرض ، هي تدفق يأجوج ومأجوج من كل حدب في سرعة واضطراب . على طريقة القرآن الكريم في الاستعانة بمشاهدات البشر والترقي بهم من تصوراتهم الأرضية إلى المشاهد الأخروية .
وفي المشهد المعروض هنا يبرز عنصر المفاجأة التي تبهت المفجوئين !
( فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ) . .
لا تطرف من الهول الذي فوجئوا به . ويقدم في التعبير كلمة( شاخصة )لترسم المشهد وتبرزه !
ثم يميل السياق عن حكاية حالهم إلى إبرازهم يتكلمون ، وبذلك يحيي المشهد ويستحضره :
( يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا ، بل كنا ظالمين ) . .
وهو تفجع المفجوء الذي تنكشف له الحقيقة المروعة بغتة ؛ فيذهل ويشخص بصره فلا يطرف ، ويدعو بالويل والهلاك ، ويعترف ويندم ، ولكن بعد فوات الأوان !
وقوله : { وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } يعني : يوم القيامة ، إذا وُجدت هذه الأهوال والزلازل والبلابل ، أزفت الساعة واقتربت ، فإذا كانت ووقعت قال الكافرون : { هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [ القمر : 8 ] . ولهذا قال تعالى : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام : { يَا وَيْلَنَا } أي : يقولون : { يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } أي : في الدنيا ، { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } ، يعترفون بظلمهم لأنفسهم ، حيث لا ينفعهم ذلك .
وقوله تعالى : { واقترب الوعد الحق } يريد يوم القيامة ، وروي في الحديث «أن الرجل ليتخذ الفلو بعد يأجوج ومأجوج فلا يبلغ منفعته حتى تقوم الساعة »{[8282]} ، وقوله تعالى : { هي } ، مذهب سيبويه أنها ضمير القصة كأنه قال فإذا القصة أو الحادثة { شاخصة أبصار } وجوز الفراء أن تكون ضمير الإبصار تقدمت لدلالة الكلام ويجيء ما يفسرها وأنشد على ذلك : [ الطويل ]
فلا وأبيها لا تقول حليلتي . . . ألا فرَّعني مالك بن أبي كعب{[8283]}
والشخوص بالعين إحداد النظر دون أن يطرف ، وذلك يعتري من الخوف المفرط أو علة أو نحوه ، وقوله : { يا ويلنا } تقديره يا ويلنا لقد كانت بنا غفلة عما وجدنا الآن وتبينا الآن من الحقائق ثم تركوا الكلام الأول ورجعوا إلى نقد ما كان يداخلهم من تعهد الكفر وقصد الإعراض فقالوا { بل كنا ظالمين } .
الاقتراب على هذا اقتراب نسبي على نسبة ما بقي من أجل الدنيا بما مضى منه كقوله تعالى : { اقتربت الساعة وانشقّ القمر } [ القمر : 1 ] .
ويجوز أن يكون المراد بفتح ياجوج وماجوج تمثيلَ إخراج الأموات إلى الحَشر ، فالفتح معنى الشق كقوله تعالى : { يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير } [ ق : 44 ] ، ويكون اسم ياجوج وماجوج تشبيهاً بليغاً .
وتخصيصهما بالذكر لشهرة كثرة عددهما عند العرب من خبر ذي القرنين . ويدلّ لهذا حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يقول الله لآدم ( يوم القيامة ) أخرج بَعث النار ، فيقول : يا رب ، وما بعث النار{[275]} ؟ فيقول الله : من كل ألف تُسعمائة وتسعة وتسعون . قالوا : يا رسول الله وأيُّنا ذلك الواحد{[276]} ؟ قال : أبشروا ، فإن منكم رجلاً ومن يأجوج وماجوج تسعمائة وتسعة وتسعين » . أو يكون اسم يأجوج ومأجوج استعمل مثلاً للكثرة كما في قول ذي الرمة :
لوَ أنَ ياجوج وماجوجَ معاً *** وعادَ عادٌ واستجاشوا تُبّعا
أي : حتى إذا أخرجت الأموات كيَأجوج ومأجوج على نحو قوله تعالى : { يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر } [ القمر : 7 ] ، فيكون تشبيهاً بليغاً من تشبيه المعقول بالمعقول . ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مسعود ومجاهد ، ( جدث ) بجيم ومثلثة ، أي من كل قبر في معنى قوله تعالى : { وإذا القبور بعثرت } [ الانفطار : 4 ] فيكون ضميرا { وهم من كل حدب ينسلون } عائدَيْننِ إلى مفهوممٍ من المقام دلّت عليه قرينة الرجوع من قوله تعالى : { لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ] أي أهلُ كل قرية أهلكناها .
والاقتراب ، على هذا الوجه : القرب الشديد وهو المشارفة ، أي اقترب الوعد الذي وُعده المشركون ، وهو العذاب بأن رأوا النار والحساب .
وعلامة التأنيث في فعل { فُتحت } لتأويل ياجوج وماجوج بالأمة . ثم يقدر المضاف وهو سُدٌّ فيكتسب التأنيث من المضاف إليه .
وياجوج وماجوج هم قبيلتان من أمةٍ واحدة مثل طَسم وجديس .
وإسناد فعل { فتحت } إلى { ياجوج وماجوج } بتقدير مضاف ، أي فُتح رَدْمهما أو سُدّهما . وفعل الفتح قرينة على المفعول .
وقرأ الجمهور { فتحت } بتخفيف التاء الفوقية التي بعد الفاء . وقرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بتشديدها .
وتقدم الكلام على ياجوج وماجوج في سورة الكهف .
والحدب : النَشَز من الأرض ، وهو ما ارتفع منها .
و { ينسِلون } يمشون النّسَلانَ بفتحتين وفعله من باب ضرب ، وأصله : مشي الذئب . والمراد : المشي السريع . وإيثار التعبير به هنا من نكت القرآن الغيبية ، لأن ياجوج وماجوج لما انتشروا في الأرض انتشروا كالذئاب جياعاً مفسدين .
هذا حاصل ما تفرق من كلام المفسرين وما فرضوه من الوجوه ، وهي تدور حول محوَر التزام أنّ ( حتى ) الابتدائية تفيد أن ما بعدها غاية لما قبلها مع تقدير مفعول { فُتحت } بأنه سدّ ياجوج وماجوج . ومع حمل ياجوج وماجوج على حقيقة مدلول الاسم ، وذلك ما زج بهم في مضيق تعاصى عليهم فيه تبيين انتظام الكلام فألجئوا إلى تعيين المغيّا وإلى تعيين غاية مناسبة له ولهاته المحامل كما علمت مما سبق .
ولا أرى متابعتهم في الأمور الثلاثة .
فأما دلالة ( حتى ) الابتدائية على معنى الغاية ، أي كون ما بعدها غاية لمضمون ما قبلها ، فلا أراه لازماً . ولأمر ما فرق العرب بين استعمالها جارّة وعاطفة وبين استعمالها ابتدائية ، أليس قد صرح النحاة بأن الابتدائية يكون الكلام بعدها جملة مستأنفة تصريحاً جرى مجرى الصواب على ألسنتهم فما رَعَوه حق رعايته فإن معنى الغاية في ( حتى ) الجارّة ( وهي الأصل في استعمال هذا الحرف ) ظاهر لأنها بمعنى ( إلى ) .
وفي ( حتّى ) العاطفة لأنها تفيد التشريك في الحكم وبين أن يكون المعطوف بها نهاية للمعطوف عليه في المعنى المراد .
فأما ( حتى ) الابتدائية فإن وجود معنى الغاية معها في مواقعها غير منضبط ولا مطرّد ، ولما كان ما بعدها كلاماً مستقلاً تعيّن أن يكون وجودها بين الكلامين لمجرد الربط بين الكلامين فقد نقلت من معنى تنهية مدلول ما قبلها بما بعدها إلى الدلالة على تنهية المتكلم غرض كلامه بما يورده بعد ( حتى ) ولا يقصد تنهية مدلول ما قبل ( حتى ) بما عند حصول ما بعدها ( الذي هو المعنى الأصل للغاية ) . وانظر إلى استعمال ( حتى ) في مواقع من معلقة لبيد{[277]} .
وفي قوله تعالى : { وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } [ البقرة : 214 ] فإن قول الرسول ليس غاية للزلزلة ولكنه ناشىء عنها ، وقد مُثلت حالة الكافرين في ذلك الحين بأبلغ تمثيل وأشدّه وقعاً في نفس السامع ، إذ جعلت مفرعة على فتح ياجوج وماجوج واقتراببِ الوعد الحقّ للإشارة إلى سرعة حصول تلك الحالة لهم ثم بتصدير الجملة بحرف المفاجأة والمجازاة الذي يفيد الحصول دَفعة بلا تدرّج ولا مهلة ، ثم بالإتيان بضمير القصة ليحصل للسامع علم مجمل يفصله ما يفسِّر ضمير القصة فقال تعالى : { فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } إلى آخره .
والشخوص : إحداد البصر دون تحرك كما يقع للمبهوت .
وجملة : { يا ويلنا } مقول قول محذوف كما هو ظاهر ، أي يقولون حينئذ : يا ويلنا .
ودلت ( في ) على تمكن الغفلة منهم حتى كأنها محيطة بهم إحاطة الظرف بالمظروف ، أي كانت لنا غفلة عظيمة ، وهي غفلة الإعراض عن أدلة الجزاء والبعث .
و { يا ويلنا } دعاء على أنفسهم من شدة ما لحقهم .
و { بل } للإضراب الإبطالي ، أي ما كنا في غفلة لأننا قد دُعينا وأُنذرنا وإنما كنا ظالمين أنفسنا بمكابرتنا وإعراضنا .
والمشار إليه ب ( هذا ) هو مجموع تلك الأحوال من الحشر والحساب والجزاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واقترب الوعد الحق} يعني: وعد البعث أنه حق كائن، {فإذا هي شاخصة} يعنى فاتحة {أبصار الذين كفروا} بالبعث لا يطرفون مما يرون من العجائب التي كانوا يكفرون بها في الدنيا، قالوا: {يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا} اليوم، ثم ذكر قول الرسل لهم في الدنيا أن البعث كائن، فقالوا: {بل كنا ظالمين} أخبرنا بهذا اليوم فكذبنا به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج، اقترب الوعد الحقّ، وذلك وعد الله الذي وعد عباده أنه يبعثهم من قبورهم للجزاء والثواب والعقاب، وهو لا شكّ حق كما قال جلّ ثناؤه...
والواو في قوله:"وَاقْتَرَب الْوَعْدُ الحَقّ" مقحمة، ومعنى الكلام: حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحقّ،...
"فإذَا هِيَ شاخِصَةٌ أبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُوا "ففي (هي) التي في قوله (فإذا هي) وجهان: أحدهما أن تكون كناية عن الأبصار وتكون الأبصار الظاهرة بيانا عنها،... فيكون تأويل الكلام حينئذٍ: فإذا الأبصار شاخصة أبصار الذين كفروا. والثاني: أن تكون عمادا كما قال جلّ ثناؤه: "فإنّها لا تَعْمَى الأبْصَارُ"...
"يا وَيْلَنا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا" يقول تعالى ذكره: فإذا أبصار الذين كفروا قد شخصت عند مجيء الوعد الحقّ بأهواله وقيام الساعة بحقائقها، وهم يقولون: يا ويلنا قد كنا قبل هذا الوقت في الدنيا في غفلة من هذا الذي نرى ونعاين ونزل بنا من عظيم البلاء. وفي الكلام متروك تُرِك ذكره استغناء بدلالة ما ذُكر عليه عنه، وذلك «يقولون» من قوله: فإذَا هِيَ شاخصَةٌ أبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُوا يقولون: يا ويلنا.
"بَلْ كُنّا ظالِمِينَ" يقول مخبرا عن قيل الذين كفروا بالله يومئذٍ: ما كنا نعمل لهذا اليوم ما ينجينا من شدائده، بل كنا ظالمين بمعصيتنا ربنا، وطاعتنا إبليس وجنده في عبادة غير الله عزّ وجلّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا ويلنا} أي يقولون: {يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا} كأنهم تذاكروا في ما بينهم أنا {قد كنا في غفلة من هذا} ثم تداركوا أنهم لم يكونوا في غفلة، ولكن قالوا: {بل كنا ظالمين} في ذلك ضالين. اعترفوا بالظلم والضلال.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تأخذهم القيامةُ بغتةً، وتظهر أشراطُ الساعة فجأة، ويُقِرُّ الكاذبون بأنَّ الذنبَ عليهم، ولكن في وقتٍ لا تُقْبَلُ فيه مَعْذِرَتُهم، وأوانٍ لا ينفعهم فيه إيمانهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والشخوص بالعين إحداد النظر دون أن يطرف، وذلك يعتري من الخوف المفرط أو علة أو نحوه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دلت صيغة "افتعل "على شدة القرب كما في الحديث أن الساعة إذ ذاك مثل الحامل المتمّ، علم أن التقدير جواباً ل "إذا": كان ذلك الوعد فقام الناس من قبورهم: {فإذا هي شاخصة} أي واقفة جامدة لا تطرف لما دهمهم من الشدة، ويجوز وهو أقرب أن تكون إذا هذه الفجائية هي جواب إذا الشرطية... قائلين: {يا ويلنا} أي حضرنا الويل فهو نديمنا فلا مدعو لنا غيره.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{واقترب الوعد الحق} عطف على فُتحت، والمرادُ به ما بعد النفخة الثانية من البعث والحسابِ والجزاء لا النفخةُ الأولى.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وصفوة القول: إن الناس لا يرجعون إلى الحياة حتى تزلزل الأرض زلزالها، ويختل نظام هذا العالم، فتموج الأمم بعضها في بعض بتفريق أجزائها، لا فرق بين يأجوج ومأجوج وغيرهما، فذكرهما رمز لاختلال الأرض وخرابها، فكأنه قيل إنهم لا يرجعون إلى الحياة إلا إذا اختل نظام العالم ورجت الأرض رجا، وماجت الأمم بعضها في بعض، وخرج الكفار من قبورهم شاخصة أبصارهم من الهول الذي هم فيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا، بل كنا ظالمين).. وهو تفجع المفجوء الذي تنكشف له الحقيقة المروعة بغتة؛ فيذهل ويشخص بصره فلا يطرف، ويدعو بالويل والهلاك، ويعترف ويندم، ولكن بعد فوات الأوان!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد مُثلت حالة الكافرين في ذلك الحين بأبلغ تمثيل وأشدّه وقعاً في نفس السامع، إذ جعلت مفرعة على فتح ياجوج وماجوج واقترابِ الوعد الحقّ للإشارة إلى سرعة حصول تلك الحالة لهم، ثم بتصدير الجملة بحرف المفاجأة والمجازاة الذي يفيد الحصول دَفعة بلا تدرّج ولا مهلة، ثم بالإتيان بضمير القصة ليحصل للسامع علم مجمل يفصله ما يفسِّر ضمير القصة فقال تعالى: {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} إلى آخره...
ودلت (في) على تمكن الغفلة منهم حتى كأنها محيطة بهم إحاطة الظرف بالمظروف، أي كانت لنا غفلة عظيمة، وهي غفلة الإعراض عن أدلة الجزاء والبعث...
والمشار إليه ب (هذا) هو مجموع تلك الأحوال من الحشر والحساب والجزاء.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ينادون ويلهم، كأنهم ينادون الهلاك، لأن هذا وقته، فهم بهذا يتوقعون الهلاك وينادونه كأنهم يستعجلونه، إذ إن من يكون في حال فزع وهلع يرون أن تزول هذه الحال، ولو بنزول الهلاك العاجل، لأن حال الانتظار أشد على النفس وقعا وبقاءها مرير مع الهم الشديد...
وقد أكدوا ظلمهم بالجملة الاسمية، وبوصفهم بالظلم وبالإضراب بقولهم: {بل} أي أنهم يُضربون عن قول ويصفون أنفسهم بالظلم المؤكد المستمر، لأن {كنا} للاستمرار في ظلمهم في الدنيا.
{اقترب الوعد الحق} والوعد الحق أي: الصادق الذي يملك صاحبه أن ينفذه، فقد تعد وعدا ولا تملك تنفيذه فهو وعد، لكنه وعد باطل، فالوعد يختلف حسب مروءة الواعد وإمكانياته وقدرته على إنفاذ ما وعد به. لكن مهما كانت عندك من إمكانيات، ومهما ملكت من أسباب التنفيذ، أتضمن أن تمكنك الظروف والأحوال من التنفيذ؟ ولا يملك هذا كله إلا الله عز وجل، فإذا وعد حقق ما وعد به، فالوعد الحق- إذن- هو وعد الله...
والغفلة: أن تدرأ عن بالك ما يجب أن يكون على بالك دائما. لكن، أي غفلة هذه والله- عز وجل- يذكرنا بهذا الموقف في كل وقت من ليل أو نهار، ألا ترى أنه سبحانه سمى القرآن ذكرا ليزيح عنا هذه الغفلة، فكلما غفلت ذكرك، وهز مواجيدك، وأثار عواطفك. إذن: المسألة ليست غفلة، لذلك نراهم يستدركون على كلامهم، فيقولون: {بل كنا ظالمين} لأنهم تذكروا أن الله تعالى طالما هز عواطفهم، وحرك مواجيدهم ناحية الإيمان، فلم يستجيبوا. لذلك اعترفوا هنا بظلمهم، ولم يستطيعوا إنكاره في مثل هذا الموقف، فلم يعد الكذب مجديا، ولعلهم يلتمسون بصدقهم هذا نوعا من الرحمة، ويظنون أن الصدق نافعهم، لكن هيهات. وكأن الحق سبحانه يحكي عنهم هذه المواجهة حين تفاجئهم القيامة بأهوالها، فتشخص لها أبصارهم، ويقول بعضهم {يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا} فيرد عليهم إخوانهم: أي غفلة هذه، وقد كان الله يذكرنا بالقيامة وبهذا الموقف في كل وقت {بل كنا ظالمين}. و (بل) حرف إضراب عن الكلام السابق، وإثبات للكلام اللاحق، وهكذا يراجعون أنفسهم، ويواجه بعضهم بعضا، لكن بعد فوات الأوان.