فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا ، ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم ، المعاندين للرسول فقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يخبر تعالى أن الذين كفروا ، أي : اتصفوا بالكفر ، وانصبغوا به ، وصار وصفا لهم لازما ، لا يردعهم عنه رادع ، ولا ينجع فيهم وعظ ، إنهم مستمرون على كفرهم ، فسواء عليهم أأنذرتهم ، أم لم تنذرهم لا يؤمنون .
وحقيقة الكفر : هو الجحود لما جاء به الرسول ، أو جحد بعضه ، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة ، وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول صلى الله عليه وسلم في إيمانهم ، وأنك لا تأس عليهم ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات .
فأما الصورة الثانية فهي صورة الكافرين . وهي تمثل مقومات الكفر في كل أرض وفي كل حين :
( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، ولهم عذاب عظيم ) . .
وهنا نجد التقابل تاما بين صورة المتقين وصورة الكافرين . . فإذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين ، فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء بالقياس إلى الكافرين . إن النوافذ المفتوحة في أرواح المتقين ، والوشائج التي تربطهم بالوجود وبخالق الوجود ، وبالظاهر والباطن والغيب والحاضر . . إن هذه النوافذ المفتحة كلها هناك ، مغلقة كلها هنا . وإن الوشائج الموصولة كلها هناك ، مقطوعة كلها هنا :
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : غَطوا الحق وستروه ، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك ، سواء عليهم إنذارك وعدمه ، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] وقال في حق المعاندين من أهل الكتاب : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } الآية [ البقرة : 145 ] أي : إن من{[1225]} كتب الله عليه الشقاوة فلا مُسْعِد له ، ومن أضلَّه فلا هادي له ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وبلّغهم الرّسالة ، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يُهْمِدَنَّك ذلك ؛ { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] ، و{ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ هود : 12 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرصُ أن يؤمن جميع النَّاس ويُتَابعوه على الهدى ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأوّل ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بما أنزل إليك ، وإن قالوا : إنَّا قد آمنا بما جاءنا قبلك { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق ، فقد{[1226]} كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟ !
وقال أبو جعفر الرّازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب ، وهم الذين قال الله فيهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } [ إبراهيم : 28 ، 29 ] .
والمعنى الذي ذكرناه أوّلا وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة ، أظهر ، ويفسر{[1227]} ببقية الآيات التي في معناها ، والله أعلم .
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني عبد الله بن المغيرة ، عن أبي الهيثم{[1228]} عن عبد الله بن عمرو ، قال : قيل : يا رسول الله ، إنَّا نقرأ من القرآن فنرجو ، ونقرأ فنكاد أن نيأس ، فقال : «ألا أخبركم » ، ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } هؤلاء أهل النار » . قالوا : لسنا منهم يا رسول الله ؟ قال : «أجل »{[1229]} .
وقوله : { لا يُؤْمِنُونَ } محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي هم كفار في كلا الحالين ؛ فلهذا أكد ذلك بقوله : { لا يُؤْمِنُونَ } ويحتمل أن يكون { لا يُؤْمِنُونَ } خبرًا لأن تقديره : إن الذين كفروا لا يؤمنون ، ويكون قوله : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } جملة معترضة ، والله أعلم ]{[1230]} .
{ إن الذين كفروا } لما ذكر خاصة عباده ، وخلاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح ، عقبهم بأضدادهم العتاة المردة ، الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر ، ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين كما عطف في قوله تعالى ؛ { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } لتباينهما في الغرض ، فإن الأولى سيقت لذكر الكتاب وبيان شأنه والأخرى مسوقة لشرح تمردهم ، وانهماكهم في الضلال ، و( إن ) من الحروف التي تشابه الفعل في عدد الحروف والبناء على الفتح ولزوم الأسماء وإعطاء معانيه ، والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين . ولذلك أعملت عمله الفرعي وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني إيذانا بأنه فرع في العمل دخيل فيه .
وقال الكوفيون : الخبر قبل دخولها كان مرفوعا بالخبرية ، وهي بعد باقية مقتضية للرفع قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف . وأجيب بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خبر كان ، وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف . وفائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها ، ولذلك يتلقى بها القسم ويصدر بها الأجوبة ، وتذكر في معرض الشك مثل قوله تعالى : { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض } ، { وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين } قال المبرد ( قولك عبد الله قائم ، إخبار عن قيامه ، وإن عبد الله قائم ، جواب سائل عن قيامه ، وإن عبد الله لقائم ، جواب منكر لقيامه ) . وتعريف الموصول : إما للعهد ، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب ، وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة ، وأحبار اليهود . أو للجنس ، متناولا من صمم على الكفر ، وغيرهم فخص منهم غير المصرين بما أسند إليه . والكفر لغة : ستر النعمة ، وأصله الكفر بالفتح وهو الستر ، ومنه قيل للزارع ولليل كافر ، ولكمام الثمرة كافور . وفي الشرع : إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به ، وإنما عد لبس الغيار وشد الزنار ونحوهما كفرا لأنها تدل على التكذيب ، فإن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجترئ عليها ظاهرا لا أنها كفر في أنفسها . واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه لاستدعائه سابقة المخبر عنه ، وأجيب بأنه مقتضى التعلق وحدوثه لا يستلزم حدوث الكلام كما في العلم .
{ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } خبر إن وسواء اسم بمعنى الاستواء ، نعت به كما نعت بالمصادر قال الله تعالى : { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } رفع بأنه خبر إن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل : إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه ، أو بأنه خبر لما بعده بمعنى : إنذارك وعدمه سيان عليهم ، والفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له ، أما لو أطلق وأريد به اللفظ ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع فهو كالاسم في الإضافة ، والإسناد إليه كقوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا } وقوله : { يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه .
وإنما عدل ههنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد وحسن دخول الهمزة ، وأم عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده ، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء ، كما جردت حروف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة .
والإنذار : التخويف أريد به التخويف من عذاب الله ، وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيرا في النفس ، من حيث إن دفع الضر أهم من جلب النفع ، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى ، وقرئ { أأنذرتهم } بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين ، وقلبها ألفا وهو لحن لأن المتحركة لا تقلب ، ولأنه يؤدي إلى جمع الساكنين على غير حده ، وبتوسيط ألف بينهما محققتين ، وبتوسيطها والثانية بين بين وبحذف الاستفهامية ، وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها .
{ لا يؤمنون } جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة . أو بدل عنه . أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم .
والآية مما احتج به من جوز تكليف ما لا يطاق ، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان ، فلو آمنوا انقلب خبره كذبا . وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان . والحق أن التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلا من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضا سيما الامتثال ، لكنه غير واقع للاستقراء ، والإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره ، وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجح إلزام الحجة ، وحيازة الرسول فضل الإبلاغ ، ولذلك قال { سواء عليهم } ولم يقل سواء عليك . كما قال لعبدة الأصنام { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } وفي الآية إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } .
هذا انتقال من الثناء على الكِتَاب ومتقلِّديه ووصفِ هديه وأَثَرِ ذلك الهدى في الذين اهتدوا به والثناء عليهم الراجع إلى الثناء على الكتاب لمَّا كان الثناء إنما يظهر إذا تحققت آثار الصفة التي استحق بها الثناء ، ولما كان الشيء قد يقَدَّر بضده انتقل إلى الكلام على الذين لا يحصل لهم الاهتداء بهذا الكتاب ، وسجل أن حرمانهم من الاهتداء بهديه إنما كان من خبث أنفسهم إذ نَبَوْا بها عن ذلك ، فما كانوا من الذين يفكرون في عاقبة أمورهم ويحذرون من سوء العواقب فلم يكونوا من المتقين ، وكان سواء عندهم الإنذار وعدمه فلم يتلقوا الإنذار بالتأمل بل كان سواء والعدم عندهم ، وقد قرنت الآيات فريقين فريقاً أضمر الكفر وأعلنه وهم من المشركين كما هو غالب اصطلاح القرآن في لفظ { الذين كفروا } وفريقاً أظهر الإيمان وهو مخادع وهم المنافقون المشار إليهم بقوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا } [ البقرة : 8 ] . وإنما قطعت هاته الجملة عن التي قبلها لأن بينهما كمال الانقطاع إذ الجمل السابقة لذكر الهدى والمهتدين ، وهذه لذكر الضالين فبينهما الانقطاع لأجل التضاد ، ويعلم أن هؤلاء قسم مضاد للقسمين المذكورين قبله من سياق المقابلة . وتصدير الجملة بحرف التأكيد إما لمجرد الاهتمام بالخبر وغرابته دون رَدِّ الإنكار أو الشك ؛ لأن الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وللأمة وهو خطاب أُنُف بحيث لم يسبق شك في وقوعه ، ومجيء ( إن ) للاهتمام كثير في الكلام وهو في القرآن كثير . وقد تكون ( إن ) هنا لرد الشك تخريجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر ؛ لأن حرص النبيء صلى الله عليه وسلم على هداية الكافرين تجعله لا يقطع الرجاء في نفع الإنذار لهم وحاله كحال من شك في نفع الإنذار ، أو لأن السامعين لما أجرى على الكتاب من الثناء ببلوغه الدرجة القصوى في الهداية يطمعهم أن تؤثر هدايته في الكافرين المعرضين وتجعلهم كالذين يشكون في أن يكون الإنذار وعدمه سواء فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ونزل غير الشاك منزلة الشاك . وقد نقل عن المبرد أن ( إنَّ ) لا تأتي لرد الإنكار بل لرد الشك .
وقد تبين أن ( الذين كفروا ) المذكورين هنا هم فريق من المشركين الذين هم مأيوس من إيمانهم ، فالإتيان في ذكرهم بالتعريف بالموصول إما أن يكون لتعريف العهد مراداً منه قوم معهودون كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم من رؤوس الشرك وزعماء العناد دون من كان مشركاً في أيام نزول هذه الآية ثم من آمن بعد مثل أبي سفيان بن حرب وغيره من مُسْلِمة الفتح وإما أن يكون الموصول لتعريف الجنس المفيد للاستغراق على أن المراد من الكفر أبلغ أنواعه بقرينة قوله : { لا يؤمنون } فيكون عاماً مخصوصاً بالحس لمشاهدة من آمن منهم أو يكون عاماً مراداً به الخصوص بالقرينة وهذان الوجهان هما اللذان اقتصر عليهما المحققون من المفسرين وهما ناظران إلى أن الله أخبر عن هؤلاء بأنهم لا يؤمنون فتعيَّن أن يكونوا ممن تبين بعد أنه مات على الكفر .
ومن المفسرين من تأوّل قوله تعالى : { الذين كفروا } على معنى الذين قُضي عليهم بالكفر والشقاء ونَظره بقوله تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون } [ يونس : 96 ] وهو تأويل بعيد من اللفظ وشتان بينه وبين تنظيره . ومن المفسرين من حمل { الذين كفروا } على رؤساء اليهود مثل حيي بن أخطب وأبي رافع يعني بناء على أن السورة نزلت في المدينة وليس فيها من الكافرين سوى اليهود والمنافقين وهذا بعيد من عادة القرآن وإعراض عن السياق المقصود منه ذكر من حرم من هدي القرآن في مقابلة من حصل لهم الاهتداء به ، وأيّاً ما كان فالمعنى عند الجميع أن فريقاً خاصاً من الكفار لا يرجى إيمانهم وهم الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وروي ذلك عن ابن عباس والمقصود من ذلك أن عدم اهتدائهم بالقرآن كان لعدم قابليتهم لا لنقص في دلالة القرآن على الخير وهديه إليه .
والكفر بالضم : إخفاء النعمة ، وبالفتح : الستر مطلقاً وهو مشتق من كفر إذا ستر . ولما كان إنكار الخالق أو إنكار كماله أو إنكار ما جاءت به رسله ضرباً من كفران نعمته على جاحدها ، أطلق عليه اسم الكفر وغلب استعماله في هذا المعنى . وهو في الشرع إنكار ما دلت عليه الأدلة القاطعة وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت عقولهم إلى البحث عنه ونصبت عليه الأدلة كوحدانية الله تعالى ووجوده ولذلك عد أهل الشرك فيما بين الفترة كفاراً . وإنكار ما علم بالضرورة مجيء النبيء صلى الله عليه وسلم به ودعوته إليه وعده في أصول الإسلام أو المكابرة في الاعتراف بذلك ولو مع اعتقاد صدقه ولذلك عبر بالإنكار دون التكذيب . ويلحق بالكفر في إجراء أحكام الكفر عليه كل قول أو فعل لا يجترىء عليه مؤمن مصدق بحيث يدل على قلة اكتراث فاعله بالإيمان وعلى إضماره الطعن في الدين وتوسله بذلك إلى نقض أصوله وإهانته بوجه لا يقبل التأويل الظاهر وفي هذا النوع الأخير مجال لاجتهاد الفقهاء وفتاوى أساطين العلماء إثباتاً ونفياً بحسب مبلغ دلالة القول والفعل على طعن أو شك . ومن اعتبر الأعمال أو بعضها المعين في الإيمان اعتبر فقدها أو فقد بعضها المعين في الكفر .
قال القاضي أبو بكر الباقلاني : القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده والإيمان بالله هو العلم بوجوده فالكفر لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور أحدها الجهل بالله تعالى ، الثاني أن يأتي بفعل أو قول أخبر الله ورسوله أو أجمع المؤمنون على أنه لا يكون إلا من كافر كالسجود للصنم ، الثالث أن يكون له قول أو فعل لا يمكن معه العلم بالله تعالى .
ونقل ابن راشد في « الفائق » عن الأشعري رحمه الله أن الكفر خصلة واحدة . قال القرافي في الفرق 241 أصل الكفر هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية ويكون بالجهل بالله وبصفاته أو بالجرأة عليه وهذا النوع هو المجال الصعب لأن جميع المعاصي جرأة على الله .
وقوله : { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } خبر { إن الذين كفروا } و ( سواء ) اسم بمعنى الاستواء فهو اسم مصدر دل على ذلك لزوم إفراده وتذكيره مع اختلاف موصوفاته ومخبراته فإذا أخبر به أو وصف كان ذلك كالمصدر في أن المراد به معنى اسم الفاعل لقصد المبالغة . وقد قيل إن ( سواء ) اسم بمعنى المثل فيكون التزام إفراده وتذكيره لأن المثلية لا تتعدد ، وإن تعدد موصوفها تقول هم رجال سواء لزيد بمعنى مثل لزيد .
وإنما عدي سواء بعلى هنا وفي غير موضعٍ ولم يعلق بعند ونحوها مع أنه المقصود من الاستعلاء في مثله ، للإشارة إلى تمكن الاستواء عند المتكلم وأنه لا مصرف له عنه ولا تردد له فيه فالمعنى سواء عندهم الإنذار وعدمه .
واعلم أن للعرب في سواء استعمالين : أحدهما أن يأتوا بسواء على أصل وضعه من الدلالة على معنى التساوي في وصف بين متعدد فيقع معه ( سواء ) ما يدل على متعدد نحو ضمير الجمع في قوله تعالى : { فهم فيه سواء } [ النحل : 71 ] ونحو العطف في قول بثينة :
سواء علينا يا جميل بن معمر *** إذا مت بأساء الحياة ولينها
ويجري إعرابه على ما يقتضيه موقعه من التركيب ، وثانيهما أن يقع مع همزة التسوية وما هي إلا همزة استفهام كثر وقوعها بعد كلمة { سواء } ومعها { أم } العاطفة التي تسمى المتصلة كقوله تعالى : { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } وهذا أكثر استعماليها وتردد النحاة في إعرابه وأظهر ما قالوه وأسلِّمُه أن { سواء } خبر مقدم وأن الفعل الواقع بعده مقترناً بالهمزة في تأويل مبتدأ لأنه صار بمنزلة المصدر إذ تجرد عن النسبة وعن الزمان ، فالتقدير في الآية سواء عليهم إنذارك وعدمه .
وأظهر عندي مما قالوه أن المبتدأ بعد { سواء } مقدر يدل عليه الاستفهام الواقع معه وأن التقدير سواء جواب { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } وهذا يجري على نحو قول القائل علمت أزيد قائم إذ تقديره علمت جواب هذا السؤال ، ولك أن تجعل { سواء } مبتدأ رافعاً لفاعل سد مسد الخبر لأن { سواء } في معنى مستو فهو في قوة اسم الفاعل فيرفع فاعلاً ساداً مسد خبر المبتدأ وجواب مثل هذا الاستفهام لما كان واحداً من أمرين كان الإخبار باستوائهما عند المخبر مشيراً إلى أمرين متساويين ولأجل كون الأصل في خبره الإفراد كان الفعل بعد { سواء } مؤولاً بمصدر ووجه الأبلغية فيه أن هذين الأمرين لخفاءِ الاستواء بينهما حتى ليسأل السائلون أفعل فلان كذا وكذا فيقال إن الأمرين سواء في عدم الاكتراث بهما وعدم تطلب الجواب على الاستفهام من أحدهما فيكون قوله تعالى : { سواء عليهم أأنذرتهم } مشيراً إلى أن الناس لتعجبهم في دوام الكفار على كفرهم مع ما جاءهم من الآيات بحيث يسأل السائلون أأنذرهم النبي أم لم ينذرهم متيقنين أنه لو أنذرهم لما ترددوا في الإيمان فقيل إنهم سواء عليهم جواب تساؤل الناس عن إحدى الأمرين ، وبهذا انتفى جميع التكلفات التي فرضها النحاة هنا ونبرأ مما ورد عليها من الأبحاث ككون الهمزة خارجة عن معنى الاستفهام ، وكيف يصح عمل ما بعد الاستفهام فيما قبله إذا أعرب { سواء } خبراً والفعل بعد الهمزة مبتدأ مجرداً عن الزمان ، وككون الفعل مراداً منه مجرد الحدث ، وكدعوى كون الهمزة في التسوية مجازاً بعلاقة اللزوم ، وكون أم بمعنى الواو ليكون الكلام لشيئين لا لأحد شيئين ونحو ذلك ، ولا نحتاج إلى تكلف الجواب عن الإيراد الذي أورد على جعل الهمزة بمعنى سواء إذ يؤول إلى معنى استوى الإنذار وعدمه عندهم سواء فيكون تكراراً خالياً من الفائدة فيجاب بما نقل عن صاحب « الكشاف » أنه قال معناه أن الإنذار وعدمه المستويين في علم المخاطب هما مستويان في عدم النفع ، فاختلفت جهة المساواة كما نقله التفتزاني في « شرح الكشاف » .
ويتعين إعراب { سواء } في مثله مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الاستفهام تقديره جواب هذا الاستفهام فسواء في الآية مبتدأ ثان والجملة خبر { الذين كفروا } . ودع عنك كل ما خاض فيه الكاتبون على « الكشاف » ، وحرف { على } الذي يلازم كلمة { سواء } غالباً هو للاستعلاء المجازي المراد به التمكن أي إن هذا الاستواء متمكن منهم لا يزول عن نفوسهم ولذلك قد يجيء بعض الظروف في موضع على مع كلمة سواء مثل عند ، ولدي ، قال أبو الشغب العَبسي{[82]} :
لا تَعذِلي في جُنْدُجٍ إنَّ جُنْدُجاً *** وليثَ كِفرّينِ لَدَىَّ سواء
وسيأتي تحقيق لنظير هذا التركيب عند قوله تعالى في سورة الأعراف ( 193 ) : { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } ، وقرأ ابن كثير : { أأنذرتهم } بهمزتين أولهما محققة والثانية مسهلة . وقرأ قالون عن نافع وورش عنه في روايَة البغداديين وأبو عمرو وأبو جعفر كذلك مع إدخال ألف بيْن الهمزتين ، وكلتا القراءتين لغة حجازية . وقرأهُ حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين وهي لغة تميم . وروى أهل مصر عن ورش إبدال الهمزة الثانية ألفاً . قال الزمخشري : وهو لحن ، وهذا يضعّف رواية المصريين عن ورش ، وهذا اختلاف في كيفية الأداء فلا ينافي التواتر .
الأظهر أن هاته الجملة مسوقة لتقرير معنى الجملة التي قبلها وهي { سواء عليهم أأنذرتهم } الخ فلك أن تجعلها خبراً ثانياً عن ( إنّ ) واستفادة التأكيد من السياق ولك أن تجعلها تأكيداً وعلى الوجهين فقد فصلت إما جوازاً على الأول وإما وجوباً على الثاني ، وقد فرضوا في إعرابها وجوهاً أُخر لا نكثر بها لضعفها ، وقد جوز في « الكشاف » جعْل جملة { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } اعتراضاً لجملة { لا يؤمنون } وهو مرجوح لم يرتضه السعد والسيد ، إذ ليس محل الإخبار هو { لا يؤمنون } إنما المهم أن يخبر عنهم باستواء الإنذار وعدمه عندهم ، فإن في ذلك نداء على مكابرتهم وغباوتهم ، وعذراً للنبيء صلى الله عليه وسلم في الحرص على إيمانهم ، وتسجيلاً بأن من لم يفتح سمعه وقلبه لتلقي الحق والرشاد لا ينفع فيه حرص ولا ارتياد ، وهذا وإن كان يحصل على تقديره جعل { لا يؤمنون } خبراً إلا أن المقصود من الكلام هو الأوْلى بالإخبار ، ولأنه يصير الخبر غير معتبر إذ يصير بمثابة أن يقال إن الذين كفروا لا يؤمنون ، فقد عُلم أنهم كفروا فعدم إيمانهم حاصل ، وإن كان المراد من { لا يؤمنون } استمرار الكفر في المستقبل إلا أنه خبر غريب بخلاف ما إذا جعل تفسيراً للخبر .
وقد احتج بهاته الآية الذين قالوا بوقوع التكليف بما لا يطاق احتجاجاً على الجملة إذ مسألة التكليف بما لا يطاق بقيت زماناً غير محررة ، وكانَ كل من لاح له فيها دليل استدل به ، وكان التعبير عنها بعبارات فمنهم من يعنْوِنُها التكليف بالمحال ، ومنهم من يعبر بالتكليف بما ليس بمقدور ، ومنهم من يعبر بالتكليف بما لا يطاق ، ثم إنهم ينظرون مرة للاستحالة الذاتية العقلية ، ومرة للذاتية العادية ، ومرة للعرضية ، ومرة للمشقة القوية المحرجة للمكلف فيخلطونها بما لا يطاق ولقد أفصح أبو حامد الإسفراييني وأبو حامد الغزالي وأضرابهما عما يرفع القناع عن وجه المسألة فصارت لا تحير أفهاماً وانقلب قتادها ثماماً ، وذلك أن المحال منه محال لذاته عقلاً كجمع النقيضين ومنه محال عادة كصعود السماء ومنه ما فيه حرج وإعنات كذبح المرء وَلده ووقوف الواحد لعشرة من أقرانه ، ومنه محال عرضت له الاستحالة بالنظر إلى شيء آخر كإيمان من علم الله عدم إيمانه وحج من علم الله أنه لا يحج ، وكل هاته أطلق عليها ما لا يطاق كما في قوله تعالى : { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } إذ المراد ما يشق مشقة عظيمة ، وأطلق عليها المحال حقيقةً ومطابقة في بعضها والتزاماً في البعض ، ومجازاً في البعض ، وأطلق عليها عدم المقدور كذلك ، كما أطلق الجواز على الإمكان ، وعلى الإمكان للحكمة ، وعلى الوقوع ، فنشأ من تفاوت هاته الأقسام واختلاف هاته الإطلاقات مقالات ملأت الفضاء ، وكانت للمخالفين كحجر المضاء ، فلما قيض الله أعلاماً نفَوْا ما شاكها ، وفتحوا أغلاقها ، تبين أن الجواز الإمكاني في الجميع ثابت لأن الله تعالى يفعل ما يشاء لو شاء ، لا يخالفُ في ذلك مسلم .
وثبت أن الجواز الملائم للحكمة منتف عندنا وعند المعتزلة وإن اختلفنا في تفسير الحكمة لاتفاق الكل على أن فائدة التكليف تنعدم إذا كان المكلف به متعذر الوقوع . وثبت أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه مكلف به جوازاً ووقوعاً ، وجل التكاليف لا تخلو من ذلك ، وثبت ما هو أخص وهو رفعُ الحرج الخارجي عن الحد المتعارفِ ، تفضلاً من الله لقوله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ( الحج 78 ) وقوله : { علم أن لن تحصوه فتاب عليكم } [ المزمل : 20 ] أي لا تطيقونه كما أشار إليه ابن العربي في « الأحكام » .
هذا ملاك هاته المسألة على وجه يلتئم به متناثرها ، ويستأنس متنافرها . وبقي أن نبين لكم وجه تعلق التكليف بمن علم الله عدم امتثاله أو بمن أخبر الله تعالى بأنه لا يمتثل كما في هاته الآية ، وهي أخص من مسألة العلم بعدم الوقوع إذ قد انضم الإخبار إلى العلم كما هو وجه استدلال المستدل بها ، فالجواب أن من علم الله عدم فعله لم يكلفه بخصوصه ولا وَجَّه له دعوة تخصه إذ لم يثبت أن النبيء صلى الله عليه وسلم خص أفراداً بالدعوة إلاَّ وقد آمنوا كما خص عمر بن الخطاب حين جاءه ، بقوله : « أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول لا إله إلا الله » وقوله لأبي سفيان يوم الفتح قريباً من تلكم المقالة ، وخص عمه أبا طالب بمثلها ، ولم تكن يومئذٍ قد نزلت هذه الآية ، فلما كانت الدعوة عامة وهم شملهم العموم بطل الاستدلال بالآية وبالدليل العقلي ، فلم يبق إلا أن يقال لماذا لم يخصَّص مَن عُلم عدم امتثاله من عموم الدعوة ، ودَفْعُ ذلك أن تخصيص هؤلاء يطيل الشريعة ويجرىء غيرهم ويضعف إقامة الحجة عليهم ، ويوهم عدم عموم الرسالة ، على أن الله تعالى قد اقتضت حكمته الفصل بين ما في قدَره وعلمه ، وبين ما يقتضيه التشريع والتكليف ، وسِرّ الحكمة في ذلك بيناه في مواضع يطول الكلام بجلبها ويخرج من غرض التفسير ، وأحسب أن تفطنكم إلى مجمله ليس بعسير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت، فكان ابن عباس يقول "إنّ الّذِينَ كَفَرُوا "أي بما أنزل إليك من ربك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك. وكان يرى أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم توبيخا لهم في جحودهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم به، مع علمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وإلى الناس كافة...
[وعن] ابن عباس أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم، وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر...؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.
وقال آخرون: آيتان في قادة الأحزاب: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) إلى قوله: (ولهم عذاب عظيم) قال وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار "قال: فهم الذين قتلوا يوم بدر.
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل ابن عباس، وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب.
وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك فهي أن قول الله جل ثناؤه "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله، فأولى الأمور بحكمة الله أن يتلى ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم وذم أسبابهم وأحوالهم، وإظهار شتمهم والبراءة منهم لان مؤمنيهم ومشركيهم وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو إسرائيل. وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه صلى الله عليه وسلم على مشركي اليهود من أحبار بني إسرائيل الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته بإظهار نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تسره الأحبار منهم وتكتمه فيجهله [معظم] اليهود وتعلمه الأحبار منهم، ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك هو الذي أنزل الكتاب على موسى إذ كان ذلك من الأمور التي لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم، فيمكنهم ادعاء اللبس في أمره عليه السلام أنه نبي وأن ما جاء به من عند الله، وأنى يمكنهم ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب، فيقال قرأ الكتب فعلم أو حسب فنجم وانبعث على أحبار قراء كتبة قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم يخبرهم عن مستور عيوبهم ومصون علومهم ومكتوم أخبارهم وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم، أن أمر من كان كذلك لغير مشكل وأن صدقه والحمد لله لبين.
ومما ينبئ عن صحة ما قلنا من أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه، اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم، وتذكيره إياهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمد عليه الصلاة والسلام بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس وآدم في قوله "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم..." الآيات، واحتجاجه لنبيه عليهم بما احتج به عليهم فيها بعد جحودهم نبوته؛ فإذا كان الخبر أولا عن مؤمني أهل الكتاب وآخرا عن مشركيهم، فأولى أن يكون وسطا عنهم إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع إلا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدئ به من معانيه فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه.
وأما معنى الكفر في قوله "إن الذين كفروا" فإنه الجحود، وذلك أن الأحبار من يهود المدينة جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وستروه عن الناس، وكتموا أمره وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم...
(سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) وتأويل سواء: معتدل، مأخوذ من التساوي، كقولك متساو هذان الأمران عندي، وهما عندي سواء، أي هما متعادلان عندي، ومنه قول الله جل ثناؤه: "فانبذ إليهم على سواء: يعني أعلمهم وآذنهم بالحرب حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر. فكذلك قوله: "سواء عليهم" معتدل عندهم أي الأمرين كان منك إليهم الإنذار أم ترك الإنذار، لأنهم كانوا لا يؤمنون وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما قدّم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلتهم لإصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أثره بذكر أضدادهم؛ وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يجدي عليهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه، وإنذار الرسول وسكوته. والتعريف في {الذين كَفَرُواْ} يجوز أن يكون للعهد وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وأن يكون للجنس متناولاً كلّ من صمم على كفره تصميماً لا يرعوي بعده وغيرهم.
والإنذار: التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
معنى الكفر مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى وستر، ومنه سمي الليل كافراً لأنه يغطي كل شيء بسواده. ومنه قيل للزراع كفار، لأنهم يغطون الحب. ف «كفر» في الدين معناه غطى على قلبه بالرِّين عن الإيمان، أو غطى الحق بأقواله وأفعاله.
وقوله تعالى: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" الإنذار: الإبلاغ والإعلام، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز، كان إشعارا ولم يكن إنذارا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أردف البيان لأوصاف المؤمنين التعريف بأحوال الكافرين، وكانوا قد انقسموا على مصارحين ومنافقين، وكان المنافقون قسمين؛ جهالاً من مشركي العرب، وعلماء من كفار بني إسرائيل. كان الأنسب ليفرغ من قسم برأسه على عجل البداءة أولاً بالمصارحين؛ فذكر ما أراد من أمرهم في آيتين، لأن أمرهم أهون وشأنهم أيسر لقصدهم بما يوهنهم بالكلام أو بالسيف، على أن ذكرهم على وجه يعم جميع الأقسام، فقال مخاطباً لأعظم المنعم عليهم على وجه التسلية والإعجاز في معرض الجواب لسؤال منه كأنه قال: هذا حال الكتاب للمؤمنين فما حاله للكافرين؟
{إن الذين كفروا} أي حكم، بكفرهم دائماً حكماً نفذ ومضى فستروا ما أقيم من الأدلة على الوحدانية عن العقول التي هيئت لإدراكه والفطر الأولى التي خلصت عن مانع يعوقها عن الانقياد له وداموا على ذلك بما دل عليه السياق بالتعبير عن أضدادهم بما يدل على تجديد الإيمان على الدوام واللحاق بالختم والعذاب، ولعله عبر بالماضي والموضع للوصف تنفيراً من مجرد إيقاع الكفر ولو للنعمة وليشمل المنافقين وغيرهم.
ولما دل هذا الحال على أنهم عملوا ضد ما عمله المؤمنون من الانقياد كان المعنى {سواء عليهم أأنذرتهم} أي إنذارك في هذا الوقت بهذا الكتاب {أم لم تنذرهم} أي وعدم إنذارك فيه و بعده.
وقد انسلخ عن أم والهمزة معنى الاستفهام... ولعله عبر بصورة الاستفهام وقد سلخت عن معناه إفهاماً لأنهم توغلوا في الكفر توغل من وصل في الحمق إلى أنه لو شاهد الملك يستفهمك عنه ما آمن.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وفائدةُ الإنذار بعد العلم بأنه لا يفيد إلزامَ الحجةِ وإحرازَ الرسول صلى الله عليه وسلم فضل الإبلاغ، ولذلك قيل: سواء عليهم، ولم يقل: عليك، كما قيل لعبَدة الأصنام {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون} [الأعراف، الآية 193] وفي الآية الكريمة إخبارٌ بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ثم فائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا يثمر استخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء في المكلفين {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] فإن الله تعالى لو أدخل ابتداء كلا داره التي سبق العلم بأنه داره لكان شأن المعذب منهم ما وصف الله تعالى بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} [طه: 134] فأرسل رسلاً مبشرين ومنذرين ليتخرج ما في استعدادهم من الطوع والإباء فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة فإن الذكرى تنفع المؤمنين وتقوم به الحجة على الآخرين إذ بعد الذكرى وتبليغ الرسالة تتحرك الدواعي للطوع والإباء بحسب الاستعداد الأزلي فيترتب عليه الفعل أو الترك بالمشيئة السابقة للعلم التابع للمعلوم الثابت الأزلي فيترتب عليه النفع والضرّ من الثواب والعقل وإنما قامت الحجة على الكافر لأن ما امتنع من الإتيان به بعد بلوغ الدعوة وظهور المعجزة من الإيمان لو كان ممتنعاً لذاته مطلقاً لما وقع من أحد لكنه قد وقع فعلم أن عدم وقوعه منه كان عن إباء ناشئ من استعداده الأزلي باختياره السيئ... والمستعد للغواية تعلق به على ما هو عليه من عدم قبوله لها فلم يشأ إلا ما سبق به العلم من مقتضيات الاستعداد فلم تبرز القدرة إلا ما شاء الله تعالى فصح أن لله الحجة البالغة سبحانه إذا نوزع لأن الله تعالى: {قَدْ أعطى كُلَّ شيء خَلْقَهُ} وما يقتضيه استعداده وما نقص منه شيئاً ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فمن وجد خيراً فليحمد الله» فإن الله متفضل بالإيجاد ولا واجب عليه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأنه ما أبرز قدرته بجوده ورحمته مما اقتضته الحكمة من الأمر الذي لا خير فيه له إلا لكونه مقتضى استعداده فالحمد لله على كل حال ونعوذ به من أحوال أهل الزيغ والضلال، وإنما قال سبحانه: {سَوَاء عَلَيْهِمْ} ولم يقل عليك لأن الإنذار وعدمه ليسا سواء لديه صلى الله عليه وسلم لفضيلة الإنذار الواجب عليه على تركه، وإذا أريد بالموصول ناس معينون على أنه تعريف عهدي كما مر كان فيه معجزة لإخباره بالغيب وهو موت أولئك على الكفر كما كان.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{(6) إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (7) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}. قال الأستاذ: كان الذي تقدم بيانا من الله تعالى لصنفين من الناس لهم في القرآن هداية ولنفوسهم إلى الاهتداء به انبعاث:
(الأول من الصنفين): أولئك الذين [بلغهم] لأول مرة، وهم ممن يخشى الله ويهاب سلطانه، وفي أصول اعتقادهم الإيمان بما وراء الحس...
(والثاني): أولئك الذين آمنوا بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله [وهذا الصنف قد يجتمع مع الذي قبله فيمن كانوا متقين مؤمنين بالغيب، ثم آمنوا بالنبي وبما جاء به، وقد يفترق الصنفان فيمن بقي إلى اليوم لم تبلغه الدعوة، وهو على تلك الأوصاف، ومن ولد من آباء مؤمنين ثم صدق إيمانه بعد أن بلغ رشده وملك عقله].
أما هاتان الآيتان فقد بينتا حال طائفة ثالثة من الناس، وهم الكافرون، ثم يبين قوله تعالى {ومن الناس من يقول} الخ حال طائفة أخرى أخص منها وهم المنافقون، الذين يظهر من أقوالهم وفي بعض أفعالهم أنهم مؤمنون، ولكنهم في حقيقة أمرهم كافرون، بل شر من الكافرين [فهذه أقسام أربعة ينقسم إليها الناس إذا بلغهم القرآن ونظروا فيه، ودعوا إلى الإيمان به والأخذ بهديه]. بين الله تعالى لنبيه أنه إذا كان يوجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن فليس هذا عيبا وتقصيرا في هداية الكتاب، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب، لأنه هداية كسائر الهدايات الطبيعية التي أعرض الناس وعموا عنها [كهداية العقل والسمع والبصر ونحوها مما أكرم الله به هذا النوع البشري.
وقد يحكم الرجل بأن في العمل مضرة تلحق به، ومع ذلك يعدل عن حكمه انتهازا للذة زينها له حسه أو همه؛ ويأتي ذلك العمل على ما يعلم من سوء مغبته، فاحتقار الرجل لعقل نفسه لا يعد عيبا في تلك الموهبة الإلهية، ولا يحط من شأن النعمة فيها. انظر إلى رجل يغمض عينيه ويمشي في طريق لا يعرفها فيسقط في حفرة وتتحطم عظامه، هل ينقص ذلك من قدر بصره، ويبخس من حق الله في الإحسان به، على هذا الذي لم يرد أن يستعمله فيما خلق له] ففي الكلام تسلية لأهل الحق، وسيدهم هو النبي صلى الله عليه وسلم فهو تسلية له أولا وبالأول.
{لا يؤمنون} أقول: هذه جملة مفسرة لتساوي الإنذار وعدمه في حقهم لا في حقه صلى الله عليه وسلم وحق دعاة دينه، فهم يدعون كل كافر إلى دين الله الحق، لأنهم لا يميزون بين المستعد للإيمان وغير المستعد له، إذ هو أمر لا يعلمه إلا الله تعالى...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قال القرافي... أصل الكفر هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، ويكون بالجهل بالله وبصفاته، أو بالجرأة عليه. وهذا النوع هو المجال الصعب، لأن جميع المعاصي جرأة على الله... من علم الله عدم فعله لم يكلفه بخصوصه ولا وَجَّه له دعوة تخصه، إذ لم يثبت أن النبيء صلى الله عليه وسلم خص أفراداً بالدعوة إلاَّ وقد آمنوا كما خص عمر بن الخطاب حين جاءه، بقوله: « أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول لا إله إلا الله» وقوله لأبي سفيان يوم الفتح قريباً من تلكم المقالة، وخص عمه أبا طالب بمثلها، ولم تكن يومئذٍ قد نزلت هذه الآية، فلما كانت الدعوة عامة وهم شملهم العموم بطل الاستدلال بالآية وبالدليل العقلي، فلم يبق إلا أن يقال لماذا لم يخصَّص مَن عُلم عدم امتثاله من عموم الدعوة، ودَفْعُ ذلك أن تخصيص هؤلاء يطيل الشريعة ويجرئ غيرهم ويضعف إقامة الحجة عليهم، ويوهم عدم عموم الرسالة، على أن الله تعالى قد اقتضت حكمته الفصل بين ما في قدَره وعلمه، وبين ما يقتضيه التشريع والتكليف،...
بعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين وصفاتهم.. وجزائهم في الآخرة وما ينتظرهم من خير كبير.. أراد أن يعطينا تبارك وتعالى الصورة المقابلة وهم الكافرون.. وبين لنا أن الإيمان جاء ليهيمن على الجميع يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة.. فلابد أن يكون هناك شر يحاربه الإيمان.. ولولا وجود هذا الشر.. أكان هناك ضرورة للإيمان.. إن الإنسان المؤمن يقي نفسه ومجتمعه وعالمه من شرور يأتي بها الكفر..
والكافرون قسمان.. قسم كفر بالله أولا ثم استمع إلى كلام الله.. واستقبله بفطرته السليمة فاستجاب وآمن.. وصنف آخر مستفيد من الكفر ومن الطغيان ومن الظلم ومن أكل حقوق الناس وغير ذلك.. وهذا الصنف يعرف أن الإيمان إذا جاء فإنه سيسلبه جاها دنيويا ومكاسب يحققها ظلما وعدوانا..
إذن الذين يقفون أمام الإيمان هم المستفيدون من الكفر.. ولكن ماذا عن الذين كانوا كفارا واستقبلوا دين الله استقبالا صحيحا..
هؤلاء قد تتفتح قلوبهم فيؤمنون. والكفر معناه الستر.. ومعنى كفر (أي) ستر.. وكفر بالله أي ستر وجود الله جل جلاله.. والذي يستر لابد أن يستر موجودا، لأن الستر طارئ على الوجود.. والأصل في الكون هو الإيمان بالله.. وجاء الكفار يحاولون ستر وجود الله. فكأن الأصل هو الإيمان ثم طرأت الغفلة على الناس فستروا وجود الله سبحانه وتعالى.. ليبقوا على سلطانهم أو سيطرتهم أو استغلالهم أو استعلائهم على غيرهم من البشر..
ولفظ الكفر في ذاته يدل على أن الإيمان سبق ثم بعد ذلك جاء الكفر.. كيف؟..
لأن الخلق الأول وهو آدم الذي خلقه الله بيديه.. ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة.. وعلمه الأسماء كلها..
سجود الملائكة وتعليم الأسماء أمر مشهدي بالنسبة لآدم.. والكفر ساعتها لم يكن موجودا.. وكان المفروض أن آدم بعد أن نزل إلى الأرض واستقر فيها.. يلقن أبناءه منهج عبادة الله لأنه نزل ومعه المنهج في (افعل ولا تفعل) وكان على أبناء آدم أن يلقنوا أبناءهم المنهج وهكذا..
ولكن بمرور الزمن جاءت الغفلة في أن الإيمان يقيد حركة الناس في الكون.. فبدأ كل من يريد أن يخضع حياته لشهوة بلا قيود يتخذ طريق الكفر.. والعاقل حين يسمع كلمة كفر.. يجب عليه أن يتنبه إلى أن معناها ستر لموجود واجب الوجود.. فكيف يكفر الإنسان ويشارك في ستر ما هو موجود.. لذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يقول: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "28 "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم "29 "}. (سورة البقرة).
وهكذا يأتي هذا السؤال.. ولا يستطيع الكافر له جوابا!! لأن الله هو الذي خلقه وأوجده.. ولا يستطيع أحد منا أن يدعي أنه خلق نفسه أو خلق غيره.. فالوجود بالذات دليل على قضية الإيمان.