هذا مع أن الله تعالى قد أدر عليهم النعم العظيمة فلم يشكروه ولا ذكروه ولهذا قال : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ } أي : مكناهم في الأرض يتناولون طيباتها ويتمتعون بشهواتها
وعمرناهم عمرا يتذكر فيه من تذكر ، ويتعظ فيه المهتدي ، أي : ولقد مكنا عادا كما مكناكم يا هؤلاء المخاطبون أي : فلا تحسبوا أن ما مكناكم فيه مختص بكم وأنه سيدفع عنكم من عذاب الله شيئا ، بل غيركم أعظم منكم تمكينا فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا جنودهم من الله شيئا .
{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً } أي : لا قصور في أسماعهم ولا أبصارهم ولا أذهانهم حتى يقال إنهم تركوا الحق جهلا منهم وعدم تمكن من العلم به ولا خلل في عقولهم ولكن التوفيق بيد الله . { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ } لا قليل ولا كثير ، وذلك بسبب أنهم { يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } الدالة على توحيده وإفراده بالعبادة .
{ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : نزل بهم العذاب الذي يكذبون بوقوعه ويستهزئون بالرسل الذين حذروهم منه .
وعلى مشهد الدمار والخراب يلتفت إلى أمثالهم الحاضرين ، يلمس قلوبهم بما ترتعش منه القلوب : ( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه . وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة . فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء . إذ كانوا يجحدون بآيات الله . وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ) . .
هؤلاء الذين دمرتهم الريح المأمورة بالتدمير . مكناهم فيما لم نمكنكم فيه . . إجمالا . . من القوة والمال والعلم والمتاع . وآتيناهم أسماعا وأبصارا وأفئدة - والقرآن يعبر عن قوة الإدراك مرة بالقلب ومرة بالفؤاد ومرة باللب ومرة بالعقل . وكلها تعني الإدراك في صورة من صوره - ولكن هذه الحواس والمدارك لم تنفعهم في شيء . إذ أنهم عطلوها وحجبوها ( إذ كانوا يجحدون بآيات الله ) . . والجحود بآيات الله يطمس الحواس والقلوب ، ويفقدها الحساسية والإشراق والنور والإدراك . ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) . . من العذاب والبلاء . .
والعبرة التي يفيدها كل ذي سمع وبصر وقلب ، ألا يغتر ذو قوة بقوته ، ولا ذو مال بماله ، ولا ذو علم بعلمه . فهذه قوة من قوى الكون تسلط على أصحاب القوة والمال والعلم والمتاع ، فتدمر كل شيء ، وتتركهم ( لا يرى إلا مساكنهم )حين يأخذهم الله بسنته التي يأخذ بها المجرمين .
والريح قوة دائبة العمل ، وفق النظام الكوني الذي قدره الله ، وهو يسلطها حين يسلطها للتدمير وهي ماضية في طريقها الكوني ، تعمل وفق الناموس المرسوم . فلا حاجة لخرق النواميس الكونية - كما يعترض المعترضون واهمين - فصاحب الناموس المرسوم هو صاحب القدر المعلوم . وكل حادث وكل حركة ، وكل اتجاه ، وكل شخص ، وكل شيء ، محسوب حسابه ، داخل في تصميم الناموس .
والريح كغيرها من القوى الكونية مسخرة بأمر ربها ، ماضية تؤدي ما قدره لها في نطاق الناموس المرسوم لها وللوجود كله . ومثلها قوة البشر المسخرة لما يريده الله بها . المسخر لها من قوى الكون ما أراد الله تسخيره لها . وحين يتحرك البشر فإنما يؤدون دورهم في هذا الوجود ، ليتم ما أراده الله بهم وفق ما يريد . وحرية إرادتهم في الحركة والاختيار جزء من الناموس الكلي ينتهي إلى التناسق الكوني العام . وكل شيء مقدر تقديرا لا يناله نقص ولا اضطراب .
يقول تعالى : ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد ، وأعطيناهم منها {[26465]} ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه ، { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : وأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه ، أي : فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم ، فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة .
{ ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } { إن } نافية وهي أحسن من ما ههنا لأنها توجب التكرير لفظا ولذلك قلبت ألفها هاء في مهما ، أو شرطية محذوفة الجواب والتقدير ، ولقد مكناهم في الذي أوفي شيء إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر ، أو صلة كما في قوله :
يرجي المرء ما إن لا يراه *** ويعرض دون أدناه الخطوب
والأول أظهر وأوفق لقوله : { هم أحسن أثاثا } { كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا } . { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على مانحها تعالى ويواظبوا على شكرها . { فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء } من الإغناء وهو القليل . { إذ كانوا يجحدون بآيات الله } صلة { فما أغنى } وهو ظرف جرى مجرى التعليل من حيث إن الحكم مرتب على ما أضيف إليه وكذلك حيث . { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } من العذاب .
ثم خاطب تعالى قريشاً على جهة الموعظة بقوله : { ولقد مكناهم في ما إن مكناهم فيه } ف { ما } ، بمعنى الذي ، و { إن } نافية وقعت مكان { ما } ليختلف اللفظ ، ولا تتصل { ما } ب { ما } ، لأن الكلام كأنه قال : في الذي ما مكناكم فيه . ومعنى الآية : ولقد أعطيناهم من القوة والغنى والبسط في الأموال والأجسام ما لم نعطكم ، ونالهم بسبب كفرهم هذا العذاب ، فأنتم أحرى بذلك إذا كفرتم . وقالت فرقة : { إن } شرطية ، والجواب محذوف تقديره : في الذي إن مكناكم فيه طغيتم ، وهذا تنطع في التأويل{[10328]} .
ثم عدد تعالى عليهم نعم الحواس والإدراك ، وأخبر أنها لم تغن حين لم تستعمل على ما يجب . و » ما « : نافية في قوله : { فما أغنى عنهم } ويقوي ذلك دخول { من } في قوله : { من شيء } .
وقالت فرقة : » ما «في قوله : { فما أغنى عنهم } استفهام بمعنى التقرير ، و » { من شيء } على هذا تأكيد ، وهذا على غير مذهب سيبويه في دخول من في الواجب . { وحاق } معناه : وجب ولزم ، وهو مستعمل في المكاره ، والمعنى جزاء { ما كانوا به يستهزئون } .