184- وفرض الله عليكم الصيام في أيام معدودة قليلة لو شاء سبحانه لأطال مدته ولكنه لم يطلها ، ولم يكلفكم في الصوم ما لا تطيقون ، فمن كان مريضاً مرضاً يضر معه الصوم ، أو كان في سفر ، فله أن يفطر ويقضي الصوم بعد برئه من المرض أو رجوعه من السفر ، أما غير المريض والمسافر ممن لا يستطيع الصوم إلا بمشقة لعذر دائم كشيخوخة ومرض لا يرجى برؤه فله الفطر حينئذٍ ، وعليه أن يطعم مسكيناً لا يجد قوت يومه ، ومن صام متطوعاً زيادة على الفرض فهو خير له ، لأن الصيام خير دائماً لمن يعلم حقائق العبادات .
ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام ، أخبر أنه أيام معدودات ، أي : قليلة في غاية السهولة .
ثم سهل تسهيلا آخر . فقال : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وذلك للمشقة ، في الغالب ، رخص الله لهما ، في الفطر .
ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن ، أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض ، وانقضى السفر ، وحصلت الراحة .
وفي قوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ } فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان ، كاملا كان ، أو ناقصا ، وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة ، عن أيام طويلة حارة كالعكس .
وقوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يطيقون الصيام { فِدْيَةٌ } عن كل يوم يفطرونه { طَعَامُ مِسْكِينٍ } وهذا في ابتداء فرض الصيام ، لما كانوا غير معتادين للصيام ، وكان فرضه حتما ، فيه مشقة عليهم ، درجهم الرب الحكيم ، بأسهل طريق ، وخيَّر المطيق للصوم بين أن يصوم ، وهو أفضل ، أو يطعم ، ولهذا قال : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }
ثم بعد ذلك ، جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق ، يفطر ويقضيه في أيام أخر [ وقيل : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يتكلفونه ، ويشق عليهم مشقة غير محتملة ، كالشيخ الكبير ، فدية عن كل يوم مسكين{[123]} وهذا هو الصحيح ]{[124]} .
ثم يثني بتقرير أن الصوم أيام معدودات ، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر . ومع هذا فقد أعفي من أدائه المرضى حتى يصحوا ، والمسافرون حتى يقيموا ، تحقيقا وتيسيرا :
( أياما معدودات . فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . .
وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد . فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر ، على أن يقضي المريض حين يصح والمسافر حين يقيم . وهذا هو الأولى في فهم هذا النص القرآني المطلق ، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر . فليست شدة المرض ولا مشقة السفر هي التي يتعلق بها الحكم إنما هي المرض والسفر إطلاقا ، لإرادة اليسر بالناس لا العسر . ونحن لا ندري حكمة الله كلها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر ؛ فقد تكون هناك اعتبارات أخرى يعلمها الله ويجهلها البشر في المرض والسفر ؛ وقد تكون هناك مشقات أخرى لا تظهر للحظتها ، أو لا تظهر للتقدير البشري . . وما دام الله لم يكشف عن علة الحكم فنحن لا نتأولها ؛ ولكن نطيع النصوص ولو خفيت علينا حكمتها . فوراءها قطعا حكمة . وليس من الضروري أن نكون نحن ندركها .
يبقى أن القول بهذا يخشى أن يحمل المترخصين على شدة الترخص ، وأن تهمل العبادات المفروضة لأدنى سبب . مما جعل الفقهاء يتشددون ويشترطون . ولكن هذا - في اعتقادي - لا يبرر التقييد فيما أطلقه النص . فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات ، إنما يقودهم بالتقوى . وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوى . والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء ، لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق . وهذا الدين دين الله لا دين الناس . والله أعلم بتكامل هذا الدين ، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد ؛ وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها . بل لا بد أن يكون الأمر كذلك . ومن ثم أمر رسول الله [ ص ] أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخصها لهم . وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن إصلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام ؛ ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم . وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع ، وسد للذرائع ، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف ، إذ هي حساب بين العبد والرب ، لا تتعلق به مصالح العباد تعلقا مباشرا كأحكام المعاملات التي يراعى فيها الظاهر . والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب . وإذا وجدت التقوى لم يتفلت متفلت ، ولم يستخدم الرخصة إلا حيث يرتضيها قلبه ، ويراها هي الأولى ، ويحس أن طاعة الله في أن يأخذ بها في الحالة التي يواجهها . أما تشديد الأحكام جملة في العبادات أو الميل إلى التضييق من إطلاق الرخص التي أطلقتها النصوص ، فقد ينشيء حرجا لبعض المتحرجين . في الوقت الذي لا يجدي كثيرا في تقويم المتفلتين . . والأولى على كل حال أن نأخذ الأمور بالصورة التي أرادها الله في هذا الدين . فهو أحكم منا وأعلم بما وراء رخصه وعزائمه من مصالح قريبة وبعيدة . . وهذا هو جماع القول في هذا المجال .
بقي أن نثبت هنا بعض ما روي من السنة في حالات متعددة من حالات السفر ، في بعضها كان التوجيه إلى الفطر وفي بعضها لم يقع نهي عن الصيام . . وهي بمجموعها تساعد على تصور ما كان عليه السلف الصالح من إدراك للأمر ، قبل أن تأخذ الأحكام شكل التقعيد الفقهي على أيدي الفقهاء المتأخرين . وصورة سلوك أولئك السلف - رضوان الله عليهم - املأ بالحيوية ، وألصق بروح هذا الدين وطبيعته ، من البحوث الفقهية ؛ ومن شأن الحياة معها وفي جوها أن تنشيء في القلب مذاقا حيا لهذه العقيدة وخصائصها :
1 - عن جابر - رضي الله عنه - قال : خرج رسول الله [ ص ] عام الفتح إلى مكة في رمضان ، فصام حتى بلغ " كراع الغميم " فصام الناس . ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ، ثم شرب . فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام ، فقال : " أولئك العصاة . أولئك العصاة " . . [ أخرجه مسلم والترمذي ] .
2 - وعن أنس رضي الله عنه - قال : كنا مع النبي [ ص ] في سفر فمنا الصائم ومنا المفطر . فنزلنا منزلا في يوم حار ، أكثرنا ظلا صاحب الكساء ، ومنا من يتقي الشمس بيده . فسقط الصوام وقام المفطرون ، فضربوا الأبنية ، وسقوا الركاب ، فقال النبي [ ص ] " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " . . [ أخرجه الشيخان والنسائي ] .
3 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال : كان النبي [ ص ] في سفر ، فرأى رجلا قد اجتمع عليه الناس ، وقد ظلل عليه . فقال : ما له ؟ فقالوا : رجل صائم . فقال رسول الله [ ص ] : " ليس من البر الصوم في السفر " . . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والنسائي ] .
4 - وعن عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - قال : قدمت على رسول الله [ ص ] من سفر . فقال : انتظر الغداء يا أبا أمية . قلت : يا رسول الله إني صائم . قال : " إذا أخبرك عن المسافر . إنالله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة " . [ أخرجه النسائي ] . .
5 - وعن رجل من بني عبد الله بن كعب بن مالك اسمه أنس بن مالك . قال : قال رسول الله [ ص ] " إن الله تعالى وضع شطر الصلاة عن المسافر وأرخص له في الإفطار وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما " . [ أخرجه أصحاب السنن ] .
6 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : سأل حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - رسول الله [ ص ] عن الصوم في السفر . [ وكان كثير الصيام ] فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي ] وفي رواية أخرى وكان جلدا على الصوم .
7 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال : كنا مع النبي [ ص ] فمنا الصائم ومنا المفطر . فلا الصائم يعيب على المفطر ، ولا المفطر يعيب على الصائم " . . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود ] .
8 - وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع رسول الله [ ص ] في رمضان في حر شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر ؛ وما فينا صائم إلا رسول الله [ ص ] وابن رواحة رضي الله عنه . . [ أخرجه الشيخان وأبو داود ] .
9 - وعن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك - رضي الله عنه - في رمضان وهو يريد سفرا . وقد رحلت له راحلته ، ولبس ثياب سفره ، فدعا بطعام فأكل . فقلت له : سنة ؟ قال : نعم . ثم ركب . . [ أخرجه الترمذي ] .
10 - وعن عبيد بن جبير قال : كنت مع أبي بصرة الغفاري - صاحب رسول الله [ ص ] - رضي الله عنه في سفينة من الفسطاط في رمضان . فدفع فقرب غداؤه ، فقال : اقترب . قلت : ألست ترى البيوت ؟ قال : أترغب عن سنة رسول الله [ ص ] ؟ فأكل وأكلت . . [ أخرجه أبو داود ]
11 - وعن منصور الكلبي : أن دحية بن خليفة - رضي الله عنه - خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفساط ، وذلك ثلاثة أميال ، في رمضان . فأفطر وأفطر معه ناس كثير . وكره آخرون أن يفطروا . فلما رجع إلى قريته قال : والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أن أراه . إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله [ ص ] وأصحابه . اللهم أقبضني إليك . . [ أخرجه أبو داود ] . .
فهذه الأحاديث في جملتها تشير إلى تقبل رخصة الإفطار في السفر في سماحة ويسر . وترجح الأخذ بها . ولا تشترط وقوع المشقة للأخذ بها كما يشير إلى ذلك الحديثان الأخيران بوجه خاص ، وإذا كان الحديث الثامن منها يشير إلى أن رسول الله [ ص ] وحده ظل مرة صائما مع المشقة هو وعبد الله بن رواحة ، فقد كانت له [ ص ] خصوصيات في العبادة يعفي منها أصحابه . كنهيه لهم عن مواصلة الصوم وهو كان يواصل أحيانا . أي يصل اليوم باليوم بلا فطر . فلما قالوا له في هذا ، قال : " إني لست مثلكم ، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني " . . [ أخرجه الشيخان ] وثابت من الحديث الأول أنه أفطر وقال عن الذين لم يفطروا : أولئك العصاة . أولئك العصاة . وهذا الحديث متأخر - في سنة الفتح - فهو أحدث من الأحاديث الأخرى . وأكثر دلالة على الاتجاه المختار . .
والصورة التي تنشأ في الحس من مجموع هذه الحالات . . إنه كانت هناك مراعاة لحالات واقعية ، تقتضي توجيها معينا - كما هو الشأن في الأحاديث التي تروى في الموضوع العام الواحد ، ونجد فيها توجيهات متنوعة -
فالرسول [ ص ] كان يربي وكان يواجه حالات حية . ولم يكن يواجهها بقوالب جامدة !
ولكن الانطباع الأخير في الحس في أمر الصوم في السفر هو استحباب الفطر ، دون تقيد بحصول المشقة بالفعل . . أما المرض فلم أجد فيه شيئا إلا أقوال الفقهاء ، والظاهر أنه مطلق في كل ما يثبت له وصف المرض ، بلا تحديد في نوعه وقدره ولا خوف شدته ، على وجوب القضاء يوما بيوم في المرض والسفر ، من غير موالاة في أيام القضاء على الرأي الأرجح .
وقد استطردت هذا الاستطراد لا لأخوض في خلافات فقهية ؛ ولكن لتقرير قاعدة في النظر إلى الشعائر التعبدية ، وارتباطها الوثيق بإنشاء حالة شعورية هي الغاية المقدمة منها . وهذه الحالة هي التي تحكم سلوك المتعبد ؛ وعليها الاعتماد الأول في تربية ضميره ، وحسن أدائه للعبادة وحسن سلوكه في الحياة . . هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى أن نأخذ هذا الدين - كما أراده الله - بتكاليفه كلها ، طاعة وتقوى وأن نأخذه جملة بعزائمه ورخصه ، متكاملا متناسقا ، في طمأنينة إلى الله ، ويقين بحكمته ، وشعور بتقواه .
( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، فمن تطوع خيرا فهو خير له ، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) . .
وفي أول الأمر كان تكليف الصوم شاقا على المسلمين - وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة قبيل فرض الجهاد - فجعل الله فيه رخصة لمن يستطيع الصوم بجهد - وهو مدلول يطيقونه - فالإطاقة الاحتمال بأقصى جهد - جعل الله هذه الرخصة ، وهي الفطر مع إطعام مسكين . . ثم حببهم في التطوع بإطعام المساكين إطلاقا ، إما تطوعا بغير الفدية ، وإما بالإكثار عن حد الفدية ، كأن يطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر بكل يوم من أيام الفطر في رمضان : ( فمن تطوع خيرا فهو خير له ) . . ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة - في غير سفر ولا مرض - : ( وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) . . لما في الصوم من خير في هذه الحالة . يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة ، وتقوية الاحتمال ، وإيثار عبادة الله على الراحة . وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية . كما يبدو لنا منه ما في الصوم من مزايا صحية - لغير المريض - حتى ولو أحس الصائم بالجهد .
وعلى أية حال فقد كان هذا التوجيه تمهيدا لرفع هذه الرخصة عن الصحيح المقيم وإيجاب الصيام إطلاقا . كما جاء فيما بعد . وقد بقيت للشيخ الكبير الذي يجهده الصوم ، ولا ترجى له حالة يكون فيها قادرا على القضاء . . فأخرج الإمام مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي . . وقال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا . . وعن ابن أبي ليلى قال : دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل ، فقال : قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر . فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بالآية الآتية : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه . . . ) .
ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، فقال : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أي : المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر ؛ لما في ذلك من المشقة عليهما ، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر . وأما الصحيح المقيم الذي يُطيق الصيام ، فقد كان مخيَّرًا بين الصيام وبين الإطعام ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ، وأطعم عن كل يوم مسكينا ، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم ، فهو خير ، وإن صام فهو أفضل من الإطعام ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم من السلف ؛ ولهذا قال تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا المسعودي ، حدثنا عمرو بن مُرّة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال ؛ فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، وهو يصلي{[9]} سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ، ثم إن الله عز وجل أنزل عليه : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [ البقرة : 144 ] فوجهَهُ اللهُ إلى مكة . هذا حول .
قال : وكانوا يجتمعون للصلاة ويُؤْذِنُ بها بعضهم بعضا حتى نَقَسُوا أو كادوا يَنْقُسُون . ثم إنّ رجلا من الأنصار ، يقال له : عبد الله بن زيد ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني رأيت فيما يرى النائم - ولو قلتُ : إني لم أكن نائمًا لصدقتُ - أني {[10]}بينا أنا بين النائم واليقظان إذْ رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران ، فاستقبل القبلة ، فقال : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله - مثنى حتى فرغ من الأذان ، ثم أمهل ساعة ، ثم قال مثل الذي قال ، غير أنه يزيد في ذلك : قد قامت الصلاة - مرتين - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علمها بلالا فَلْيؤذن بها " . فكان بلال أول من أذن بها . قال : وجاء عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، [ إنه ]{[11]} قد طاف بي مثل الذي طاف به ، غير أنه سبقني ، فهذان حالان{[12]} .
قال : وكانوا يأتون الصلاة - قد سبقهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ببعضها ، فكان الرجل يشير إلى الرجل إذًا كم صلى ، فيقول : واحدة أو اثنتين ، فيصليهما ، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم . قال : فجاء معاذ فقال : لا أجده على حال أبدًا إلا كنتُ عليها ، ثم قضيتُ ما سبقني . قال : فجاء وقد سَبَقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها ، قال : فثَبَتَ معه ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه قَد سن لكم مُعَاذ ، فهكذا فاصنعوا " . فهذه ثلاثة أحوال{[13]} .
وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، فجعل يصومُ من كل شهر ثلاثة أيام ، وصام عاشوراء ، ثم إن الله فرض عليه الصيام ، وأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } إلى قوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان مَنْ شاء صام ، ومن شاء أطعم مسكينًا ، فأجزأ ذلك عنه . ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } إلى قوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فأثبت اللهُ صيامَه على المقيم الصحيح{[14]} ورخَّصَ فيه للمريض والمسافر ، وثبت الإطعامُ للكبير{[15]} الذي لا يستطيع الصيام ، فهذان حالان{[16]} .
قال : وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا امتنعوا ، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له : صرمة ، كان يعمل صائمًا حتى أمسى ، فجاء إلى أهله فصلى العشاء ، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب ، حتى أصبح فأصبح صائما ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدًا شديدًا ، فقال : ما لي أراك قد جَهِدْت جهدًا شديدا ؟ قال : يا رسول الله ، إني عملت أمس فجئتُ حين جئتُ فألقيتُ نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائمًا . قال : وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأنزل الله عز وجل : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } إلى قوله : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
وأخرجه أبو داود في سننه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث المسعودي ، به{[17]} .
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت : كان عاشوراء يصام ، فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر{[18]} . وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود ، مثله{[19]} .
وقوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كما قال معاذ : كان{[20]} في ابتداء الأمر : من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا . وهكذا روى البخاري عن سَلَمة بن الأكوع أنه قال : لما نزلت : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يُفْطر يفتدي ، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها{[21]} .
وروي أيضًا من حديث عبيد الله{[22]} عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : هي منسوخة .
وقال السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : لما نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قال : يقول : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يتجشمونه ، قال عبد الله : فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا { فَمَنْ تَطَوَّعَ } قال : يقول : أطعم مسكينا آخر { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فكانوا كذلك حتى نسختها : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
وقال البخاري أيضًا : حدثنا إسحاق ، أخبرنا روح ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، حدثنا عَمْرو بن دينار ، عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ : " وعلى الذين يُطَوَّقُونه فدية طعام مسكين " . قال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما ، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا{[23]} .
وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، نحوه .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عبد الرحيم ، عن أشعث بن سوار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [ قال ]{[24]} نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف ، فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينًا .
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا الحسين بن محمد بن بِهْرام المحرمي ، حدثنا وهب بن بَقِيَّة ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن ابن أبي ليلى ، قال : دخلت على عطاء في رمضان ، وهو يأكل ، فقال : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا ، ثم نزلت هذه الآية فنسخت الأولى ، إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينًا وأفطر . فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه ، بقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وأما الشيخ الفاني [ الهرم ] {[25]}الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه ، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ، ولكن هل يجب عليه [ إذا أفطر ]{[26]} أن يطعم عن{[27]} كل يوم مسكينًا إذا كان ذا جِدة ؟ فيه قولان للعلماء ، أحدهما : لا يجب عليه إطعام ؛ لأنه ضعيف عنه لسنّه ، فلم يجب عليه فدية كالصبي ؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها ، وهو أحد قولي الشافعي . والثاني - وهو الصحيح ، وعليه أكثر العلماء - : أنه يجب عليه فدية عن كل يوم ، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي : يتجشمونه ، كما قاله ابن مسعود وغيره ، وهو اختيار البخاري فإنه قال : وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام ، فقد أطعم أنس - بعد أن{[28]} كبر عامًا أو عامين - كل يوم مسكينًا خبزًا ولحما ، وأفطر{[29]} .
وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ، فقال : حدثنا عُبَيد الله بن مُعَاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا عمران ، عن أيوب بن أبي تميمة{[30]} قال : ضعف أنس [ بن مالك ]{[31]} عن الصوم ، فصنع جفنة من ثريد ، فدعا ثلاثيِن مسكينًا فأطعمهم{[32]} .
ورواه عبد بن حميد ، عن روح بن عبادة ، عن عمران - وهو ابن حُدَير{[33]} - عن أيوب ، به .
ورواه عبد أيضًا ، من حديث ستة من أصحاب أنس ، عن أنس - بمعناه .
ومما يلتحق بهذا المعنى : الحامل والمرضع ، إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ، ففيهما خلاف كثير بين العلماء ، فمنهم من قال : يفطران ويفديان ويقضيان . وقيل : يفديان فقط ، ولا قضاء . وقيل : يجب القضاء بلا فدية . وقيل : يفطران ، ولا فدية ولا قضاء . وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه{[34]} . ولله الحمد والمنة .