26- يا بني آدم : قد أنعمنا عليكم ، فخلقنا لكم ملابس تستر عوراتكم ، ومواد تتزينون بها ، ولكن الطاعة خير لباس يقيكم العذاب . تلك النعم من الآيات الدالة على قدرة الله وعلى رحمته ، ليتذكر الناس بها عظمته واستحقاقه وحده الألوهية . وتلك القصة من سنن الله الكونية التي تبين جزاء مخالفة أمر الله ، فيتذكر بها الناس ويحرصون على طاعة الله وعلى شكر نعمه .
ثم امتن عليهم بما يسر لهم من اللباس الضروري ، واللباس الذي المقصود منه الجمال ، وهكذا سائر الأشياء ، كالطعام والشراب والمراكب ، والمناكح ونحوها ، قد يسر اللّه للعباد ضروريها ، ومكمل ذلك ، و[ بين لهم ]{[310]} أن هذا ليس مقصودا بالذات ، وإنما أنزله اللّه ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته ، ولهذا قال : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } من اللباس الحسي ، فإن لباس التقوى يستمر مع العبد ، ولا يبلى ولا يبيد ، وهو جمال القلب والروح .
وأما اللباس الظاهري ، فغايته أن يستر العورة الظاهرة ، في وقت من الأوقات ، أو يكون جمالا للإنسان ، وليس وراء ذلك منه نفع .
وأيضا ، فبتقدير عدم هذا اللباس ، تنكشف عورته الظاهرة ، التي لا يضره كشفها ، مع الضرورة ، وأما بتقدير عدم لباس التقوى ، فإنها تنكشف عورته الباطنة ، وينال الخزي والفضيحة .
وقوله : { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : ذلك المذكور لكم من اللباس ، مما تذكرون به ما ينفعكم ويضركم وتشبهون{[311]} باللباس الظاهر على الباطن .
( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا . ولباس التقوى ، ذلك خير ، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ) . .
هذا النداء يجيء في ظل المشهد الذي سبق عرضه من القصة . . مشهد العري وتكشف السوآت والخصف من ورق الجنة . . لقد كان هذا ثمرة للخطيئة . . والخطيئة كانت في معصية أمر الله ، وتناول المحظور الذي نهى عنه الله . . وليست هي الخطيئة التي تتحدث عنها أساطير [ الكتاب المقدس ! ] والتي تعج بها التصورات الفنية الغربية المستقاة من تلك الأساطير ومن إيحاءات " فرويد " المسمومة . . لم تكن هي الأكل من " شجرة المعرفة " - كما تقول أساطير العهد القديم . وغيرة الله - سبحانه وتعالى - من " الإنسان " وخوفه - تعالى عن وصفهم علواً كبيراً - من أن يأكل من شجرة الحياة أيضاً فيصبح كواحد من الآلهة ! كما تزعم تلك الأساطير . ولم تكن كذلك هي المباشرة الجنسية كما تطوف خيالات الفن الأوربي دائماً حول مستنقع الوحل الجنسي ، لتفسر به كل نشاط الحياة كما علمهم فرويد اليهودي ! . .
وفي مواجهة مشهد العري الذي أعقب الخطيئة ومواجهة العري الذي كان يزاوله المشركون في الجاهلية يذكر السياق في هذا النداء نعمة الله على البشر وقد علمهم ويسر لهم ، وشرع لهم كذلك ، اللباس الذي يستر العورات المكشوفة ، ثم يكون زينة - بهذا الستر - وجمالاً ، بدل قبح العري وشناعته - ولذلك يقول : ( أنزلنا ) أي : شرعنا لكم في التنزيل . واللباس قد يطلق على ما يواري السوأة وهو اللباس الداخلي ، والرياش قد يطلق على ما يستر الجسم كله ويتجمل به ، وهو ظاهر الثياب . كما قد يطلق الرياش على العيش الرغد والنعمة والمال . . وهي كلها معان متداخلة ومتلازمة :
( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ) . .
كذلك يذكر هنا ( لباس التقوى ) ويصفه بأنه ( خير ) :
( ولباس التقوى ذلك خير . ذلك من آيات الله . ) . .
قال عبد الرحمن بن أسلم : [ يتقي الله فيواري عورته ، فذاك لباس التقوى ] . .
فهناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات والزينة ، وبين التقوى . . كلاهما لباس . هذا يستر عورات القلب ويزينه . وذاك يستر عورات الجسم ويزينه . وهما متلازمان . فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه . ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري . . العري من الحياء والتقوى ، والعري من اللباس وكشف السوأة !
إن ستر الجسد حياء ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي - كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهملتدمير إنسانيتهم ، وفق الخطة اليهودية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون - إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان ؛ ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر ؛ وأقدرهم على تنفيذها بما سخر لهم في الأرض من مقدرات وأرزاق .
والله يذكر بني آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس والستر ، صيانة لإنسانيتهم من أن تتدهور إلى عرف البهائم ! وفي تمكينهم منه بما يسر لهم من الوسائل :
ومن هنا يستطيع المسلم أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم ؛ والدعوة السافرة لهم إلى العري الجسدي - باسم الزينة والحضارة والمودة ! - وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانيتهم ، والتعجيل بانحلالهم ، ليسهل تعبيدهم لملك صهيون ! ثم يربط بين هذا كله والخطة الموجهة للإجهاز على الجذور الباقية لهذا الدين في صورة عواطف غامضة في أعماق النفوس ! فحتى هذه توجه لها معاول السحق ، بتلك الحملة الفاجرة الداعرة إلى العري النفسي والبدني الذي تدعو إليه أقلام وأجهزة تعمل لشياطين اليهود في كل مكان ! والزينة " الإنسانية " هي زينة الستر ، بينما الزينة " الحيوانية " هي زينة العري . . ولكن " الآدميين " في هذا الزمان يرتدون إلى رجعية جاهلية تردهم إلى عالم البهيمة . فلا يتذكرون نعمة الله بحفظ إنسانيتهم وصيانتها !
القول في تأويل قوله تعالى : { يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه للجهلة من العرب الذين كانوا يتعرّون للطواف اتباعا منهم أمر الشيطان وتركا منهم طاعة الله ، فعرّفهم انخداعهم بغروره لهم حتى تمكن منهم فسلبهم من ستر الله الذي أنعم به عليهم ، حتى أبدى سوآتهم وأظهرها من بعضهم لبعض ، مع تفضل الله عليهم بتمكينهم مما يسترونها به ، وأنهم قد سار بهم سيرته في أبَوَيهم آدم وحوّاء اللذين دلاهما بغرور حتى سلبهما سِتر الله الذي كان أنعم به عليهما حتى أبدى لهما سوآتهما فعرّاهما منه : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا : يعني بإنزاله عليهم ذلك : خلقه لهم ، ورزقه إياهم . واللباس : ما يلبسون من الثياب . يُوَارِي سَوآتِكُمْ يقول : يستر عوراتكم عن أعينكم . وكنى بالسوآت عن العورات ، واحدتها سَوْأة ، وهي فَعْلة من السوء ، وإنما سميت سوأة لأنه يسوء صاحبها انكشافها من جسده ، كما قال الشاعر :
خَرَقُوا جَيْبَ فَتاتِهِمْ ***لم يُبالُوا سَوْأةَ الرّجُلَهْ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال : كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة ، ولا يلبس أحدهم ثوبا طاف فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدني ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشا قال : أربع آيات نزلت في قريش ، كانوا في الجاهلية لا يطوفون بالبيت إلا عراة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، قال : سمعت معبدا الجُهني يقول في قوله : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشا قال : اللباس الذي يلبسون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال : كانت قريش تطوف عراة ، لا يلبس أحدهم ثوبا طاف فيه ، وقد كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف ، عن عوف ، عن معبد الجهني : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال : اللباس الذي يواري سوآتكم : هو لبوسكم هذا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال : هي الثياب .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : ثني من سمع عروة بن الزبير ، يقول : اللباس : الثياب .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَوآتِكُمْ قال : يعني ثياب الرجل التي يلبسها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَرِيشا .
اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : وَرِيشا بغير ألف .
وذُكِر عن زرّ بن حبيش والحسن البصريّ أنهما كانا يقرآنه : «وَرِياشا » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن أبان العطار ، قال : حدثنا عاصم ، أن زرّ بن حبيش قرأها : «وَرِياشا » .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك قراءة من قرأ : وَرِيشا بغير ألف لإجماع الحجة من القرّاء عليها . وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خبر في إسناده نظر ، أنه قرأه : «وَرِياشا » ، فمن قرأ ذلك : «وَرِياشا » فإنه محتمل أن يكون أراد به جمع الريش ، كما تجمع الذئب ذئابا والبئر بئارا ، ويحتمل أن يكون أراد به مصدرا من قول القائل : رَاشَهُ الله يَرِيشُه رِيَاشا ورِيشا ، كما يقال : لَبِسه يلبسه لباسا ولِبْسا وقد أنشد بعضهم :
فَلَمّا كَشَفْنَ اللّبْسَ عَنْهُ مَسَحْنَهُ ***بأطْرَافِ طَفْلٍ زَانَ غَيْلاً مُوشّما
بكسر اللام من «اللّبس » . والرياش في كلام العرب : الأثاث وما ظهر من الثياب من المتاع مما يلبس أو يحشى من فراش أو دثار . والريش : إنما هو المتاع والأموال عندهم ، وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال ، يقولون : أعطاه سرجا بريشه ، ورحلاً بريشه : أي بكسوته وجهازه ، ويقولون : إنه لحسن ريش الثياب . وقد يستعمل الرياش في الخصب ورفاهة العيش .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال : الرياش المال :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَرِيشا يقول : مالاً .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَرِيشا قال : المال .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : «وَرِياشا » قال : أما رياشا : فرياش المال .
حدثني الحرث قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدني ، قال : ثني من سمع عروة بن الزبير يقول : الرياش : المال .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قوله : «وَرِياشا » يعني : المال .
ذكر من قال : هو اللباس ورفاهة العيش :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : «وَرِياشا » قال : الرياش : اللباس ، والعيش : النعيم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف ، عن عوف ، عن معبد الجهني : «وَرِياشا » قال : الرياش : المعاش .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا عوف ، قال : قال معبد الجهني : «وَرِياشا » قال : هو المعاش .
وقال آخرون : الريش الجمال . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : «وَرِياشا » قال : الريش : الجمال .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : لباس التقوى هو الإيمان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلِباسُ التّقْوى هو الإيمان .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلِباسُ التّقْوَى : الإيمان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج : وَلِباسُ التّقْوى الإيمان .
وقال آخرون : هو الحياء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف ، عن عوف ، عن معبد الجهنيّ ، في قوله : وَلِباسُ التّقوَى الذي ذكر الله في القرآن هو الحياء .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا عوف ، قال : قال معبد الجهنيّ ، فذكر مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن معبد بنحوه .
وقال آخرون : هو العمل الصالح . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ قال : لباس التقوى : العمل الصالح .
وقال آخرون : بل ذلك هو السمت الحسن . ذكر من قال ذلك :
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا عبد الله بن داود ، عن محمد بن موسى ، عن الزباء بن عمرو ، عن ابن عباس : وَلِباسُ التّقْوَى قال : السمت الحسن في الوجه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن سليمان بن أرقم ، عن الحسن ، قال : رأيت عثمان بن عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قُوهيّ محلول الزّرّ ، وسمعته يأمر بقتل الكلاب وينهي عن اللعب بالحمام ، ثم قال : يا أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «والّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ ما عَمِلَ أحَدٌ قطّ سِرّا إلاّ ألْبَسَهُ اللّهُ رِداءَهُ عَلانِيَةً ، إنْ خَيْرا فخَيْرا ، وَإنْ شَرّا فَشَرّا » ثم تلا هذه الاَية : «وَرِياشا » ، ولم يقرأها : وَرِيشا وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ ذلكَ مِنْ آياتِ اللّهِ قال : السمت الحسن .
وقال آخرون : هو خشية الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدني ، قال : ثني من سمع عروة بن الزبير يقول : لِباسُ التّقْوى خشية الله .
وقال آخرون : لِباسُ التّقْوَى في هذه المواضع : ستر العورة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلِباسُ التقْوَى يتقي الله فيواري عورته ، ذلك لباس التقوى .
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المكيين والكوفيين والبصريين : وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ برفع «ولباسُ » . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة : «ولِباسَ التّقْوَى » بنصب اللباس ، وهي قراءة بعض قراء الكوفيين . فمن نصب : «وَلِباسَ » فإنه نصبه عطفا على «الريش » بمعنى : قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ، وأنزلنا لباسَ التقوى . وأما الرفع ، فإن أهل العربية مختلفون في المعنى الذي ارتفع به اللباس ، فكان بعض نحويي البصرة يقول : هو مرفوع على الابتداء ، وخبره في قوله : ذلِكَ خَيْرٌ . وقد استخطأه بعض أهل العربية في ذلك وقال : هذا غلط ، لأنه لم يعد على اللباس في الجملة عائد ، فيكون اللباس إذًا رفع على الابتداء وجعل ذلك خير خبرا .
وقال بعض نحويي الكوفة : وَلِباسُ يُرفع بقوله : «ولباس التقوى خير » ، ويجعل ذلك من نعته . ب«خير » لم يكن في ذلك وجه إلا أن يجعل اللباس نعتا ، لا أنه عائد على اللباس من ذكره في قوله : ذلكَ خَيْرٌ فيكون خير مرفوعا بذلك وذلك به . فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام إذن : رفع لباس التقوى ، ولباس التقوى ذلك الذي قد علمتموه خير لكم يا بني آدم من لباس الثياب التي تواري سوآتكم ، ومن الرياش التي أنزلناها إليكم فالبسوه . وأما تأويل من قرأه نصبا ، فإنه : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم ، وريشا ، ولباس التقوى هذا الذي أنزلنا عليكم ، من اللباس الذي يواري سوآتكم ، والريش ، ولباس التقوى خير لكم من التعرّي والتجرّد من الثياب في طوافكم بالبيت ، فاتقوا الله والبسوا ما رزقكم الله من الرياش ، ولا تطيعوا الشيطان بالتجرّد والتعرّي من الثياب ، فإن ذلك سخرية منه بكم وخدعة ، كما فعل بأبويكم آدم وحوّاء فخدعهما حتى جرّدهما من لباس الله الذي كان ألبسهما بطاعتهما له في أكل ما كان الله نهاهما عن أكله من ثمر الشجرة التي عصياه بأكلها .
وهذه القراءة أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب ، أعني نصب قوله : «وَلِباسَ التّقْوَى » لصحة معناه في التأويل على ما بينت ، وأن الله إنما ابتدأ الخبر عن إنزاله اللباس الذي يواري سوآتنا والرياش توبيخا للمشركين الذين كانوا يتجرّدون في حال طوافهم بالبيت ، ويأمرهم بأخذ ثيابهم والاستتار بها في كلّ حال مع الإيمان به واتباع طاعته ، ويعلمهم أن كلّ ذلك خير من كلّ ما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله وتعرّيهم ، لا أنه أعلمهم أن بعض ما أنزل إليهم خير من بعض . وما يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك الاَيات التي بعد هذه الاَية ، وذلك قوله : يا بَني آدَمَ لايَفْتِنَنّكُمُ الشّيْطانُ كمَا أخُرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوآتِهِما وما بعد ذلك من الاَيات إلى قوله : وأنْ تَقُولُوا على اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فإنه جلّ ثناؤه يأمر في كلّ ذلك بأخذ الزينة من الثياب واستعمال اللباس وترك التجرّد والتعرّي وبالإيمان به واتباع أمره والعمل بطاعته ، وينهي عن الشرك به واتباع أمر الشيطان مؤكدا في كل ذلك ما قد أجمله في قوله : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا يُوَارِي سَواتِكُمْ وَرِيشا وَلِباس التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ .
وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله : «وَلِباسَ التّقْوَى » استشعار النفوس تقوى الله في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه والعمل بما أمر به من طاعته وذلك يجمع الإيمان والعمل الصالح والحياء وخشية الله والسمت الحسن ، لأن من اتقى الله كان به مؤمنا وبما أمره به عاملاً ومنه خائفا وله مراقبا ، ومن أن يرى عند ما يكرهه من عباده مستحييا . ومن كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه ، فحسن سمته وهديه ورُؤيت عليه بهجة الإيمان ونوره .
وإنما قلنا : عنى بلباس التقوى استشعار النفس والقلب ذلك لأن اللباس إنما هو ادّراع ما يلبس واحتباء ما يكتسي ، أو تغطية بدنه أو بعضه به ، فكلّ من ادّرع شيئا أو احتبي به حتى يرى هو أو أثره عليه ، فهو له لابس ولذلك جعل جلّ ثناؤه الرجال للنساء لباسا وهنّ لهم لباسا ، وجعل الليل لعباده لباسا .
ذكر من تأوّل ذلك بالمعنى الذي ذكرنا من تأويله إذا قرىء قوله : وَلِباسُ التّقْوَى رفعا :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلِباسُ التّقْوَى : الإيمان ذلكَ خَيْرٌ يقول : ذلك خير من الرياش واللباس يواري سوآتكم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلِباسُ التّقْوَى قال : لباس التقوى خير ، وهو الإيمان .
القول في تأويل قوله تعالى : ذلكَ مِنْ آياتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ .
يقول تعالى ذكره : ذلك الذي ذكرت لكم أني أنزلته إليكم أيها الناس من اللباس والرياش من حجج الله وأدلته التي يعلم بها من كفر صحة توحيد الله ، وخطأ ما هم عليه مقيمون من الضلالة . لَعَلّهُم يَذّكّرُون يقول جلّ ثناؤه : جعلت ذلك لهم دليلاً على ما وصفت ليذكّروا ، فيعتبروا وينيبوا إلى الحقّ وترك الباطل ، رحمة مني بعبادي .
إذا جرينا على ظاهر التّفاسير كان قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } الآية استئنافاً ابتدائياً ، عاد به الخطاب إلى سائر النّاس الذين خوطبوا في أوّل السّورة بقوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } [ الأعراف : 3 ] الآيات ، وهم أمّة الدّعوة ، لأنّ الغرض من السّورة إبطال ما كان عليه مشركو العرب من الشّرك وتوابعه من أحوال دينهم الجاهلي ، وكان قوله : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } [ الأعراف : 11 ] استطراداً بذكر منّة الله عليهم وهم يكفرون به كما تقدّم عند قوله تعالى : { ولقد خلقناكم } فخاطبتْ هذه الآية جميع بني آدم بشيء من الأمور المقصودة من السّورة فهذه الآية كالمقدّمة للغرض الذي يأتي في قوله : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] ووقوعها في أثناء آيات التّحذير من كيد الشّيطان جعلها بمنزلة الاستطراد بين تلك الآيات وإن كانت هي من الغرض الأصلي .
ويجوز أن يكون قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } وما أشبهه ممّا افتتح بقوله : { يا بني آدم } أربعَ مرّات ، من جملة المقول المحكي بقوله : { قال فيها تحيون } [ الأعراف : 25 ] فيكون ممّا خاطب الله به بني آدم في ابتداء عهدهم بعمران الأرض على لسان أبيهم آدمَ ، أو بطريق من طرق الإعلام الإلهي ، ولو بالإلهام ، لما تَنشأ به في نفوسهم هذه الحقائق ، فابتدأ فأعلمهم بمنَّته عليهم أن أنزل لهم لباساً يواري سَوْآتهم ، ويتجمّلون به بمناسبة ما قصّ الله عليهم من تعري أبويهم حين بدت لهما سَوءاتُهما ، ثمّ بتحذيرهم من كيد الشّيطان وفتنته بقوله : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } [ الأعراف : 27 ] ثمّ بأن أمرهم بأخذ اللّباس وهو زينة الإنسان عند مواقع العبادة لله تعالى بقوله : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] ، ثمّ بأن أخذ عليهم العهد بأن يُصدّقوا الرّسل وينتفعوا بهديهم بقوله : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم } [ الأعراف : 35 ] الآية ، واستطرد بين ذلك كلّه بمواعظ تنفع الذين قُصدوا من هذا القَصص ، وهم المشركون المكذّبون محمّداً صلى الله عليه وسلم فهم المقصود من هذا الكلام كيفما تفنّنت أساليبه وتناسقَ نظمُه ، وأيًّا ما كان فالمقصود الأوّل من هذه الخطابات أو من حكايتها هم مشركُو العرب ومكذّبو محمّد صلى الله عليه وسلم ولذلك تخللتْ هذه الخطاباتتِ مُستطرَدَاتٌ وتعريضاتٌ مناسبة لما وضعه المشركون من التّكاذيب في نقض أمر الفطرة .
والجُمل الثّلاث من قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } وقوله { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } [ الأعراف : 27 ] وقوله { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] متّصلة تمام الاتّصال بقصّة فتنة الشّيطان لآدم وزوجه ، أو متّصلة بالقول المحكي بجملة : { قال فيها تحيون } [ الأعراف : 25 ] على طريقة تعداد المقول تعداداً يشبه التّكرير .
وهذا الخطاب يشمل المؤمنين والمشركين ، ولكن الحظّ الأوفر منه للمشركين : لأنّ حظّ المؤمنين منه هو الشّكر على يَقينهم بأنّهم موافقون في شؤونهم لمرضاة ربّهم ، وأمّا حظّ المشركين فهو الإنذار بأنّهم كافرون بنعمة ربّهم ، معرّضون لسخطه وعقابه .
وابتُدىء الخطاب بالنّداء ليقع إقبالهم على ما بعده بشراشر قلوبهم ، وكان لاختيار استحضارهم عند الخطاب بعنوان بني آدم مرّتين وقْع عجيب ، بعد الفراغ من ذكر قصّة خلق آدم وما لقيه من وسوسة الشّيطان : وذلك أنّ شأن الذرّية أن تثأر لآبائها ، وتعادي عدوّهم ، وتحترس من الوقوع في شَرَكه .
ولمّا كان إلهام الله آدمَ أن يَستر نفسه بوَرق الجنّة مِنَّةٌ عليه ، وقد تقلّدها بنوه ، خوطب النّاس بشمول هذه المنّة لهم بعنوان يدلّ على أنّها منّةٌ موروثة ، وهي أوقع وأدعى للشّكر ، ولذلك سمّى تيسير اللّباس لهم وإلهامهم إياه إنزالاً ، لقصد تشريف هذا المظهر ، وهو أوّل مظاهر الحَضارة ، بأنّه منزّل على النّاس من عند الله ، أو لأنّ الذي كان مِنْهُ على آدم نزل به من الجنّة إلى الأرض التي هو فيها ، فكان له في معنى الإنزال مزيد اختصاص ، على أنّ مجرّد الإلهام إلى استعماله بتسخير إلهي ، مع ما فيه من عظيم الجدوى على النّاس والنّفع لهم ، يحسِّن استعارة فعل الإنزال إليه ، تشريفاً لشأنه ، وشاركه في هذا المعنى ما يكون من الملهمات عظيم النّفع ، كما في قوله : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للنّاس } [ الحديد : 25 ] أي أنزلنا الإلهام إلى استعماله والدّفاععِ به ، وكذلك قوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] أي : خلَقها لكم في الأرض بتدبيره ، وعلَّمكم استخدامها والانتفاعَ بما فيها ، ولا يطرد في جميع ما أُلهم إليه البشر ممّا هو دون هذه في الجدوى ، وقد كان ذلك اللّباس الذي نزل به آدم هو أصل اللّباس الذي يستعمله البشر .
وهذا تنبيه إلى أنّ اللّباس من أصل الفطرة الإنسانيّة ، والفطرة أوّل أصول الإسْلام ، وأنّه ممّا كرم الله به النّوع منذ ظهوره في الأرض ، وفي هذا تعريض بالمشركين إذ جعلوا من قرباتهم نزع لباسهم بأن يحجّوا عُراة كما سيأتي عند قوله : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } [ الأعراف : 32 ] فخالفوا الفطرة ، وقد كان الأمم يحْتفلون في أعياد أديانهم بأحسن اللّباس ، كما حكى الله عن موسى عليه السّلام وأهل مصر : { قال موعدكم يوم الزينة } [ طه : 59 ] .
واللّباس اسم لما يلبَسه الإنسان أي يستُر به جزءاً من جسده ، فالقميص لباس ، والإزار لباس ، والعمامة لباس ، ويقال لبس التّاج ولبس الخاتم قال تعالى : { وتستخرجون حلية تلبسونها } [ فاطر : 12 ] ومصدر لبس اللّبس بضمّ اللاّم .
وجملة : { يواري سوآتكم } صفة ( للباساً ) وهو صنف اللّباس اللاّزم ، وهذه الصّفة صفة مَدح اللّباس أي من شأنه ذلك وإن كان كثير من اللّباس ليس لمواراة السوآت مثل العمامة والبرد والقباء وفي الآية إشارة إلى وجوب ستر العورة المغلظة ، وهي السوأة ، وأمّا ستر ما عداها من الرّجل والمرأة فلا تدلّ الآية عليه ، وقد ثبت بعضه بالسنّة ، وبعضه بالقياس والخوض في تفاصيلها وعللها من مسائل الفقه .
والرّيش لباس الزّينة الزائد على ما يستر العورة ، وهو مستعار من ريش الطّير لأنّه زينته ، ويقال للباس الزّينة رِياش .
وعطف ( ريشاً ) على : { لباساً يزارى سوآتكم } عطفَ صنف على صنف ، والمعنى يَسَّرنا لكم لباساً يستركم ولباساً تتزيّنون به .
وقوله : { ولباس التقوى } قرأه نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبُو جعفر : بالنّصب ، عطفاً على { لباساً } فيكون من اللّباس المُنْزَل أي الملهَم ، فيتعيّن أنّه لباس حقيقة أي شيء يلبس . والتّقوى ، على هذه القراءة ، مصدر بمعنى الوقاية ، فالمراد : لَبوس الحرب ، من الدّروع والجواشن والمغافر . فيكون كقوله تعالى : { وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم } [ النحل : 81 ] . والإشارة باسم الإشارة المفرد بتأويل المذكور ، وهو اللّباس بأصنافه الثّلاثة ، أي خير أعطاه الله بني آدم . فالجملة مستأنفة أو حال من { لباساً } وما عطف عليه .
وقرأه ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وخَلف : برفع { لباس التقوى } على أنّ الجملة معطوفة على جملة { قد أنزلنا عليكم لباساً } ، فيجوز أن يكون المراد بلباس التّقوى مثل ما يرد به في قراءة النّصب ، ويجوز أن يكون المراد بالتّقوى تقوى الله وخشيته ، وأطلق عليها اللّباس إمّا بتخييل التّقوى بلباس يُلبس ، وإمّا بتشبيه ملازمة تقوى الله بملازمة اللاّبس لباسه ، كقوله تعالى : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } [ البقرة : 187 ] مع ما يحسِّن هذا الإطلاق من المشاكلة .
وهذا المعنى الرّفعُ أليقُ به . ويكون استطراداً للتّحريض على تقوى الله ، فإنّها خير للنّاس من منافع الزّينة ، واسم الإشارة على هذه القراءة لتعظيم المشار إليه .
وجملة : { ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون } استئناف ثان على قراءة : { ولباس التقوى } بالنّصب بأن استأنف . بعد الامتنان بأصناف اللبّاس ، استئنافين يؤذنان بعظيم النّعمة : الأوّل بأنّ اللّباس خير للنّاس ، والثّاني بأنّ اللّباس آية من آيات الله تدلّ على علمه ولطفه ، وتدلّ على وجوده ، وفيها آية أخرى وهي الدّلالة على علم الله تعالى بأن ستكون أمّة يَغلب عليها الضّلال فيكونون في حجّهم عُراةً ، فلذلك أكّد الوصاية به . والمشار إليه ، بالإشارة التي في الجملة الثّانية ، عين المشار إليه بالإشارة التي في الجملة الأولى وللاهتمام بكلتا الجملتين جعلت الثّانية مستقلّة غير معطوفة .
وعلى قراءة رفع : { ولباس للتقوى } تكون جملة : ذلك من آيات الله استئناف واحداً والإشارة التي في الجملة الثّانية عائدة إلى المذكور قبلُ من أصناف اللّباس حتّى المجازي على تفسير لباس التّقوى بالمجازي .
وضمير الغيبة في : { لعلهم يذكرون } التفات أي جعل الله ذلك آية لعلّكم تتذكّرون عظيم قدرة الله تعالى وانفراده بالخلق والتّقدير واللّطف ، وفي هذا الإلتفات تعريض بمن لم يتذكر من بني آدم فكأنّه غائب عن حضرة الخطاب ، على أنّ ضمائر الغيبة ، في مثل هذا المقام في القرآن ، كثيراً ما يقصد بها مشركو العرب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه للجهلة من العرب الذين كانوا يتعرّون للطواف اتباعا منهم أمر الشيطان وتركا منهم طاعة الله، فعرّفهم انخداعهم بغروره لهم حتى تمكن منهم فسلبهم من ستر الله الذي أنعم به عليهم، حتى أبدى سوآتهم وأظهرها من بعضهم لبعض، مع تفضل الله عليهم بتمكينهم مما يسترونها به، وأنهم قد سار بهم سيرته في أبَوَيهم آدم وحوّاء اللذين دلاهما بغرور حتى سلبهما سِتر الله الذي كان أنعم به عليهما حتى أبدى لهما سوآتهما فعرّاهما منه:"يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسا": يعني بإنزاله عليهم ذلك: خلقه لهم، ورزقه إياهم. واللباس: ما يلبسون من الثياب. "يُوَارِي سَوآتِكُمْ "يقول: يستر عوراتكم عن أعينكم... "وَرِيشا "والرياش في كلام العرب: الأثاث وما ظهر من الثياب من المتاع مما يلبس أو يحشى من فراش أو دثار. والريش: إنما هو المتاع والأموال عندهم، وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال، ويقولون: إنه لحسن ريش الثياب، وقد يستعمل الرياش في الخصب ورفاهة العيش، الرياش: اللباس، والعيش: النعيم. الريش: الجمال.
"وَلِباسُ التّقْوَى ذلكَ خَيْرٌ" اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: لباس التقوى هو الإيمان.
وقال آخرون: هو الحياء. وقال آخرون: هو العمل الصالح.
وقال آخرون: بل ذلك هو السمت الحسن..
وقال آخرون: هو خشية الله. وقال آخرون: لِباسُ التّقْوَى في هذه المواضع: ستر العورة.
وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله: «وَلِباسَ التّقْوَى» استشعار النفوس تقوى الله في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه والعمل بما أمر به من طاعته وذلك يجمع الإيمان والعمل الصالح والحياء وخشية الله والسمت الحسن، لأن من اتقى الله كان به مؤمنا وبما أمره به عاملاً ومنه خائفا وله مراقبا، ومن أن يرى عند ما يكرهه من عباده مستحييا، ومن كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه، فحسن سمته وهديه ورُؤيت عليه بهجة الإيمان ونوره. وإنما قلنا: عنى بلباس التقوى استشعار النفس والقلب ذلك لأن اللباس إنما هو ادّراع ما يلبس واحتباء ما يكتسي، أو تغطية بدنه أو بعضه به، فكلّ من ادّرع شيئا أو احتبي به حتى يرى هو أو أثره عليه، فهو له لابس ولذلك جعل جلّ ثناؤه الرجال للنساء لباسا وهنّ لهم لباسا، وجعل الليل لعباده لباسا.
"ذلكَ مِنْ آياتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ". يقول تعالى ذكره: ذلك الذي ذكرت لكم أني أنزلته إليكم أيها الناس من اللباس والرياش من حجج الله وأدلته التي يعلم بها من كفر صحة توحيد الله، وخطأ ما هم عليه مقيمون من الضلالة. "لَعَلّهُم يَذّكّرُون" يقول جلّ ثناؤه: جعلت ذلك لهم دليلاً على ما وصفت ليذكّروا، فيعتبروا وينيبوا إلى الحقّ وترك الباطل، رحمة مني بعبادي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وريشا}: الريش: ما ظهر من اللباس وما ستر به.
{ولباس التقوى}: قال الحسن: لباس التقوى الدين، وقال أبو بكر الأصمّ: القرآن، وقيل: العفاف، وقيل الحياء، وقيل: الإيمان، فكله واحد؛ أي كل ما ذكر من لباس التقوى خير من اللباس الذي يرتدى؛ لأن الدين والإيمان والقرآن والحياء يزجره، ويمنعه عن المعاصي، فهو خير، لأنه لباس في الدنيا والآخرة؛ لأن المؤمن التقيّ العفيف الحييّ، لا تبدو [منه] عورة، وإن كان عاريا من الثياب، وإن الفاجر لا يزال تبدو منه عورته، وإن كان كاسيا من الثياب، ولا يتحفظ في لباسه. فالتقوى خير.
وقوله تعالى: {ذلك من آيات الله} يحتمل قوله تعالى: {ذلك} الذي اتخذ منه اللباس والأطعمة والأشربة من آيات الرسالة؛ لأن كل ذلك إنما عرف بالرسل بوحي؛ وهو ما ذكرنا أن فيه دليل إثبات الرسالة. ويحتمل {ذلك من آيات الله} من آيات وحدانية الله وربوبيته لما جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع ما بعد ما بينهما. دلّ ذلك أن منشئهما ومدبّرهما واحد؛ لأنه لو كان تدبير اثنين ما اتّسق تدبيرهما لاتصال منافع أحدهما بالآخر.
وقوله تعالى: {لعلهم يذّكّرون} أي لعلهم [يوفّقون للتذكّر، وقوله تعالى: {لعلهم يتقون} [البقرة: 187 و...] أي لعلهم يوفّقون للتقوى، ولعلهم يوفّقون للشكر؛ لأنه حرف شك. هذا يحسن أن يقال، والله أعلم. أو نقول: لكي يلزمهم التذكّر والتّشكّر.
وقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى}: وسماه لباساً لأنه يقي العقاب كما يقي اللباس من الثياب الحر والبرد.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... وفي قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى لباس التقوى ومعنى الكلام أن لباس التقوى خير من الرياش واللباس، قاله قتادة والسدي. والثاني: أنه راجع إلى جميع ما تقدم من {قَدْ أَنزَلْنَا علَيكُمْ لِبَاساً يُوارِي سَوْءَاتِكُم وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوى} ثم قال: {ذَلِكَ} الذي ذكرته هو {خَيْرٌ} كله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والريش: لباس الزينة، استعير من ريش الطير، لأنه لباسه وزينته، أي أنزلنا عليكم لباسين: لباساً يواري سوآتكم، ولباساً يزينكم؛ لأن الزينة غرض صحيح...
{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فيعرفوا عظيم النعمة فيه. وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوآت وخصف الورق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعاراً بأنّ التستر باب عظيم من أبواب التقوى...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يا بني آدم...} هذا خطاب لجميع الأمم وقت النبي عليه الصلاة والسلام، والمراد قريش ومن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت...
وقوله: {أنزلنا} يحتمل أن يريد التدرج أي لما أنزلنا المطر فكان عنه جميع ما يلبس، قال عن اللباس أنزلنا... ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة ب {أنزلنا} كقوله {وأنزلنا الحديد فيه بأس} وقوله: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} وأيضاً فخلق الله عز وجل وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة، و {لباساً} عام في جميع ما يلبس، و {يواري}: يستر.
الوجه الأول: أنه تعالى لما بين أنه أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض، وجعل الأرض لهما مستقرا، بين بعده أنه تعالى أنزل كل ما يحتاجون إليه في الدين والدنيا، ومن جملتها اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا. الوجه الثاني: أنه تعالى لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة أنه كان يخصف الورق عليها، أتبعه بأن بين أنه خلق اللباس للخلق ليستروا بها عورتهم، ونبه به على المنة العظيمة على الخلق بسبب أنه أقدرهم على التستر...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{يواري سوآتكم} التي قصد الشيطان إبداءها، ويغنيكم عن خصف الورق.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يمتن تبارك وتعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش، فاللباس المذكور هاهنا لستر العورات -وهي السوآت، والرياش والريش: هو ما يتجمل به ظاهرًا، فالأول من الضروريات، والريش من التكملات والزيادات.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أصْبَغُ، عن أبي العلاء الشامي قال: لبس أبو أمامة ثوبًا جديدًا، فلما بلغ تَرْقُوَتَه قال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي. ثم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من استجد ثوبًا فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي ثم عمد إلى الثوب الذي أخلقَ أو: ألقى فتصدق به، كان في ذمة الله، وفي جوار الله، وفي كنف الله حيا وميتا، [حيا وميتا، حيا وميتا]".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين فيما مضى أن موجب الإخراج من الجنة هو ما أوجب كشف السوءة من المخالفة وفرغ مما استتبعه حتى أخبره بأنه حكم بإسكاننا هذه الدار بعد تلك الدار، شرع يحذرنا من عدونا كما حذر أبانا عليه السلام، وبدأ بقوله بياناً لأنه أنعم علينا فيها بكل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وإيذاناً بما في كشف العورة من الفضيحة والإبعاد عن كل خير وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى {يا بني آدم}. ولما كان الكلام في كشف العورة، وأن آدم عليه السلام أعوزه الساتر حتى فزع إلى الورق، كان موضع أن يتوقع ما يكون في ذلك فقال مفتتحاً بحرف التوقع: {قد أنزلنا} أي بعظمتنا {عليكم} من آثار بركات السماء، إما ابتداء بخلقه وإما بإنزال أسبابه لمطر ونحوه {لباساً} أي لم يقدر عليه أبوكم في الجنة {يواري سوءاتكم} إرشاداً إلى دواء ذلك الداء وإعلاماً بأن نفس الكشف نقص لا يصلح لحضرات الكمال، وقال: {وريشاً} إشارة إلى أنه سبحانه زادنا على الساتر ما به الزينة والجمال استعارة من ريش الطائر، محببا فيما يبعد من الذنب ويقرب إلى حضرة الرب. ولما ذكر اللباس الحسي، وقسمه على ساتر ومزين، أتبعه المعنوي فقال مشيراً إلى كمال تعظيمه حثاً عليه وندباً إليه: {ولباس التقوى} فعلم أن ساتر العورات حسي ومعنوي، فالحسي لباس الثياب، والمعنوي التحلي بما يبعث على المناب؛ ثم زاد في تعظيم المعنوي بقوله: {ذلك خير} أي ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب، ولكنه فصل باسم الإشارة المقترن بأداة البعد إيماء إلى علو رتبته وحسن عاقبته لكونه أهم اللباسين لأن نزعه يكون بكشف العورة الحسية والمعنوية، فلو تجمل الإنسان بأحسن الملابس وهو غير متق كان كله سوءات، ولو كان متقياً وليس عليه إلا خريقة تواري عورته كان في غاية الجمال والستر والكمال، بل ولو كان مكشوف العورة في بعض الأحوال كما قال صلى الله عليه وسلم "ستر ما بين عوراتكم وأعين الجن أن يقول أحدكم إذا دخل الخلاء: بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث "رواه الترمذي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه، والذي يكاد يقطع به أن المعاصي سبب إحلال السوءة الذي منه ضعف البدن وقصر العمر حساً أو معنى بمحق البركة منه لما يفهمه ما تقدم في البقرة في بدء الخلق... ولما كان في شرع اللباس تمييز الإنسان عن بقية الحيوان وتهيئة أسبابه التي لم يجدها آدم عليه السلام في الجنة من الفضل والنعمة والدلالة على عظمة المنعم ورحمته وقدرته واختياره ما هو معلوم، قال: {ذلك} أي إنزال اللباس {من آيات الله} أي الذي حاز صفات الكمال الدالة على فضله ورحمته لعباده، ولعل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة {لعلهم يذكرون} -ولو على أدنى وجوه التذكر بما يشير إليه الإدغام- لئلا يقول المتعنت: إن الحث على التذكر خاص بالمخاطب ويدعي أنه المسلمون فقط، أي أنزلنا ذلك ليكون حالهم حال من يتذكر فيعرف أنه يستقبح منه ما يستقبح من غيره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي مواجهة مشهد العري الذي أعقب الخطيئة ومواجهة العري الذي كان يزاوله المشركون في الجاهلية يذكر السياق في هذا النداء نعمة الله على البشر وقد علمهم ويسر لهم، وشرع لهم كذلك، اللباس الذي يستر العورات المكشوفة، ثم يكون زينة -بهذا الستر- وجمالاً، بدل قبح العري وشناعته -ولذلك يقول: (أنزلنا) أي: شرعنا لكم في التنزيل...
فهناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات والزينة، وبين التقوى.. كلاهما لباس. هذا يستر عورات القلب ويزينه. وذاك يستر عورات الجسم ويزينه. وهما متلازمان. فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه. ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري.. العري من الحياء والتقوى، والعري من اللباس وكشف السوأة! إن ستر الجسد حياء ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي- كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهم لتدمير إنسانيتهم، وفق الخطة اليهودية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون -إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان؛ ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر؛ وأقدرهم على تنفيذها بما سخر لهم في الأرض من مقدرات وأرزاق. والله يذكر بني آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس والستر، صيانة لإنسانيتهم من أن تتدهور إلى عرف البهائم! وفي تمكينهم منه بما يسر لهم من الوسائل... (لعلهم يذكرون)...
. ومن هنا يستطيع المسلم أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم؛ والدعوة السافرة لهم إلى العري الجسدي- باسم الزينة والحضارة والمودة! -وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانيتهم، والتعجيل بانحلالهم، ليسهل تعبيدهم لملك صهيون! ثم يربط بين هذا كله والخطة الموجهة للإجهاز على الجذور الباقية لهذا الدين في صورة عواطف غامضة في أعماق النفوس! فحتى هذه توجه لها معاول السحق، بتلك الحملة الفاجرة الداعرة إلى العري النفسي والبدني الذي تدعو إليه أقلام وأجهزة تعمل لشياطين اليهود في كل مكان! والزينة "الإنسانية "هي زينة الستر، بينما الزينة "الحيوانية" هي زينة العري.. ولكن "الآدميين" في هذا الزمان يرتدون إلى رجعية جاهلية تردهم إلى عالم البهيمة. فلا يتذكرون نعمة الله بحفظ إنسانيتهم وصيانتها!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا الخطاب يشمل المؤمنين والمشركين، ولكن الحظّ الأوفر منه للمشركين: لأنّ حظّ المؤمنين منه هو الشّكر على يَقينهم بأنّهم موافقون في شؤونهم لمرضاة ربّهم، وأمّا حظّ المشركين فهو الإنذار بأنّهم كافرون بنعمة ربّهم، معرّضون لسخطه وعقابه. وابتُدئ الخطاب بالنّداء ليقع إقبالهم على ما بعده بشراشر قلوبهم، وكان لاختيار استحضارهم عند الخطاب بعنوان بني آدم مرّتين وقْع عجيب، بعد الفراغ من ذكر قصّة خلق آدم وما لقيه من وسوسة الشّيطان: وذلك أنّ شأن الذرّية أن تثأر لآبائها، وتعادي عدوّهم، وتحترس من الوقوع في شَرَكه...
ولمّا كان إلهام الله آدمَ أن يَستر نفسه بوَرق الجنّة مِنَّةٌ عليه، وقد تقلّدها بنوه، خوطب النّاس بشمول هذه المنّة لهم بعنوان يدلّ على أنّها منّةٌ موروثة، وهي أوقع وأدعى للشّكر، ولذلك سمّى تيسير اللّباس لهم وإلهامهم إياه إنزالاً، لقصد تشريف هذا المظهر، وهو أوّل مظاهر الحَضارة، بأنّه منزّل على النّاس من عند الله، أو لأنّ الذي كان مِنْهُ على آدم نزل به من الجنّة إلى الأرض التي هو فيها، فكان له في معنى الإنزال مزيد اختصاص، على أنّ مجرّد الإلهام إلى استعماله بتسخير إلهي، مع ما فيه من عظيم الجدوى على النّاس والنّفع لهم، يحسِّن استعارة فعل الإنزال إليه، تشريفاً لشأنه، وقد كان ذلك اللّباس الذي نزل به آدم هو أصل اللّباس الذي يستعمله البشر...
وهذا تنبيه إلى أنّ اللّباس من أصل الفطرة الإنسانيّة، والفطرة أوّل أصول الإسْلام، وأنّه ممّا كرم الله به النّوع منذ ظهوره في الأرض، وفي هذا تعريض بالمشركين إذ جعلوا من قرباتهم نزع لباسهم بأن يحجّوا عُراة كما سيأتي عند قوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} [الأعراف: 32] فخالفوا الفطرة، وقد كان الأمم يحْتفلون في أعياد أديانهم بأحسن اللّباس، كما حكى الله عن موسى عليه السّلام وأهل مصر: {قال موعدكم يوم الزينة} [طه: 59]...
وكلمة {يَا بَنِي آَدَمَ} لفت إلى أن تتذكروا ماضي أبيكم مع عدوكم المبين، إبليس، أنتم أولاد آدم، والشيطان موجود، فانتبهوا. لقد أنزل الحق عليكم لباسا يواري سوءاتكم؛ لأن أول مخالفة حدثت كشفت السوءة، والإنزال يقتضي جهة علو لنفهم أن كل خير في الأرض يهبط مدده من السماء، وسبحانه هو من أنزل اللباس لأنه هو الذي أنزل المطر، والمطر روى بذور النبات فخرجت النباتات التي غزلناها فصارت ملابس، وكأنك لو نسبت كل خير لوجدته هابطا من السماء.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
..انتهت قصة إبليس مع آدم، واستطاع آدم بعد نزوله إلى الأرض أن يعي تماماً معنى الدور الشيطاني لإبليس في الإضلال والإغواء، من موقع العقدة المستحكمة في نفسه ضدّه، وأن يحفظ نفسه منه، فلم يحدّثنا الله عن خطأٍ آخر في مخالفة أوامره ونواهيه، بل الظاهر أنه استمر في الخط المستقيم الذي ترتبط فيه كل ممارسات حياته وتطلعاتها بالله، بعيداً عن وساوس الشيطان وأضاليله... وجاء دور إبليس مع بني آدم، فقد عاش من أجل أن يضلّهم ويغويَهم ويقودهم إلى عذاب السعير، ولم يكن لهم معه تجربةٌ حسيةٌ، كتجربة آدم الذي كان قد رآه وشاهد كيف تحركت عقدة الكبرياء في نفسه ضدّه، في موقف استعلائي حاقد، رافضٍ لإرادة الله في ما يختلف عن مزاجه في هذا السبيل؛ وليس لهم مجال ليشاهدوه وجهاً لوجهٍ، ليعرفوا كيف يتحرك في حياتهم من موقع التجربة الحسية الواضحة، فأراد الله لهم أن يأخذوا من تجربة أبيهم آدم درساً للمستقبل، وخطّاً للسير في طريقة تعاملهم معه، وحذرهم منه، ودعاهم إلى محاربته، من أجل تحقيق الحماية لأنفسهم من ضلاله وكفره...
فكانت الآيات القرآنية التي تشرح لهم كيف يتصرفون معه، وكيف يواجهون مخطّطاته، ليكونوا على وعيٍ دائمٍ، ليحفظوا أنفسهم من المصير المحتوم الذي يريد أن يقودهم إليه في عذاب الله وعقابه...
{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} لأن قيمة هذا اللباس، أنه يرتبط بمسألة المصير في الدنيا والآخرة في ما يواجهه الإنسان من نتائج إيجابية في حركة حياته، في التزاماته الشخصية أو العائلية أو الاجتماعية أو السياسية، أو في الخط الفكري الذي يحكم مسيرة حياته... وبذلك يكون فقدانه فقداناً لذلك كله، كما يكون سبباً للشعور العميق الساحق بالخزي والعار أمام الله، عندما يقف الإنسان بين يديه، عارياً لا تستره أيّة فضيلةٍ، ولا يحميه من عقابه أيّ شيء... {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} التي ينبغي للناس أن يتأملوا فيها ويدرسوها، ليعرفوا من خلالها عظمة الخلق وقيمة النعمة {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، فتقودهم الذكرى إلى الوقوف الواعي أمام أوامر الله ونواهيه بكل قوةٍ وإيمان، كما تقودهم إلى الابتعاد عن حبائل الشيطان وخداعه وغروره. كلمة في التقوى: لقد عبّر الله عن التقوى أنها «لباس»، {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، لأن هذا المفهوم القرآني لا يمثّل حالة نفسية في حالة الخوف الذي يصيب الإنسان مما يخافه ويحذره، بل هو حالةٌ عقليةٌ وشعوريةٌ وحركية تشمل الكيان الإنساني بكله في مواجهته لكل الأشياء المؤذية المضرّة له في مواقع مصيره في الدنيا والآخرة، ليخطط بفكره، ولينفتح بإحساسه، وليتحرك بوسائله الجسدية وغيرها، من أجل حماية نفسه من ذلك، تماماً كما هي مسألة حماية الحياة مما يضرّها أو يقضي عليها. وهذا هو الذي تحدّث عنه علماء اللغة، فقد جاء في مفردات الراغب قال: «التقوى جعل النفس في وقايةٍ مما يخاف، هذا تحقيقه، ثم يسمَّى الخوف تارةً تقوى، والتقوى خوفاً، حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه، والمقتضي بمقتضاه، وصار التقوى في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور». وعلى ضوء هذا، فإن التقوى تمثل فعلاً إنسانياً في حماية الخط الإيماني من عوامل الانحراف، ووقاية المصير من أسباب الهلاك، وبذلك فإن التقوى تمثل حماية الإنسان نفسه من غضب الله بالابتعاد عن مواقع سخطه وبالانفتاح على مواقع رضاه، لأن الإيمان بالله في مقام ربوبيته وآفاق عظمته وموارد نعمته، تفرض عليه الإحساس بمسؤوليته عن الأخذ بطاعة ربه والبعد عن معصيته، والقيام بحق الله في ما ينبغي له من ذلك، كما جاء في قوله تعالى: {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} بحيث يعيش الإنسان حقيقة التقوى في خطوطها الفكرية والعملية من خلال إرادته واختياره؛ فإن الفكر لا يمكن ان يخضع لضغط يحدد له كيف يفكر، ولكنه ينفتح، في دائرة إحساسه بالمسؤولية على أفق يوحي إليه بذلك كله. التقوى حالةٌ شاملةٌ لكلّ الأوضاع الإنسانية وهكذا تنطلق التقوى لتتنوّع في أبعاد حياة الإنسان ليكون تقياً في طعامه وشرابه، فلا يأكل ولا يشرب إلا حلالاً، وفي شهواته ولهوه ولعبه، فلا يأخذ بالحرام من ذلك، وفي علاقاته الاجتماعية، فلا يتحرك بالفتنة والفساد والانحراف الذي يمزق المجتمع ويفسده وينحرف به عن خط السلامة العامة في أوضاعه وروابطه واتجاهاته، وفي حركته السياسية، فلا يتحرك إلاّ بما يقوي العدل ويؤكد الحق، ويدعم الحرية الإنسانية، ويحمي المصير. وهكذا تتحول التقوى من حالة خوفٍ سلبيٍّ إلى عمل وقائي إيجابيّ، ومن حركةٍ في الشكل إلى حركة في المضمون. التقوى عمقٌ فكريٌ وروحيٌ في الإنسان...