15- الله عالي المقامات ، صاحب العرش ، يُنزل الوحي من قضائه وأمره على من اصطفاه من عباده ، ليخوِّف الناس عاقبة مخالفة المرسلين يوم التقاء الخلق أجمعين ، يوم الحساب الذي يظهر فيه الناس واضحين ، لا يخفي على الله من أمرهم شيء ، يتسامعون نداءً رهيباً : لمن الملك اليوم ؟ وجواباً حاسماً : لله الواحد المتفرد بالحكم بين عباده ، البالغ القهر لهم .
ثم ذكر من جلاله وكماله ما يقتضي إخلاص العبادة له فقال : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } أي : العلي الأعلى ، الذي استوى على العرش واختص به ، وارتفعت درجاته ارتفاعًا باين به مخلوقاته ، وارتفع به قدره ، وجلت أوصافه ، وتعالت ذاته ، أن يتقرب إليه إلا بالعمل الزكي الطاهر المطهر ، وهو الإخلاص ، الذي يرفع درجات أصحابه ويقربهم إليه ويجعلهم فوق خلقه ، ثم ذكر نعمته على عباده بالرسالة والوحي ، فقال : { يُلْقِي الرُّوحَ } أي : الوحي الذي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد ، فكما أن الجسد بدون الروح لا يحيا ولا يعيش ، فالروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح ، فهو تعالى { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ } الذي فيه نفع العباد ومصلحتهم .
{ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهم الرسل الذين فضلهم الله واختصهم الله لوحيه ودعوة عباده .
والفائدة في إرسال الرسل ، هو تحصيل سعادة العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم ، وإزالة الشقاوة عنهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم ، ولهذا قال : { لِيُنْذِرَ } من ألقى الله إليه الوحي { يَوْمَ التَّلَاقِ } أي : يخوف العباد بذلك ، ويحثهم على الاستعداد له بالأسباب المنجية مما يكون فيه .
وسماه { يوم التلاق } لأنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق والمخلوقون بعضهم مع بعض ، والعاملون وأعمالهم وجزاؤهم .
ثم يذكر من صفات الله في هذا المقام الذي يوجه المؤمنين فيه إلى عبادة الله وحده ولو كره الكافرون . يذكر من هذه الصفات أنه سبحانه :
( رفيع الدرجات ذو العرش ، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) . .
فهو - سبحانه - وحده صاحب الرفعة والمقام العالي ، وهو صاحب العرش المسيطر المستعلي . وهو الذي يلقي أمره المحيي للأرواح والقلوب على من يختاره من عباده . وهذا كناية عن الوحي بالرسالة . ولكن التعبير عنه في هذه الصيغة يبين أولاً حقيقة هذا الوحي ، وأنه روح وحياة للبشرية ، ويبين ثانيا أنه يتنزل من علو على المختارين من العباد . . وكلها ظلال متناسقة مع صفة الله ( العلي الكبير ) . .
فأما الوظيفة البارزة لمن يختاره الله من عباده فيلقي عليه الروح من أمره ، فهي الإنذار :
وفي هذا اليوم يتلاقى البشر جميعاً . ويتلاقى الناس وأعمالهم التي قدموا في الحياة الدنيا . ويتلاقى الناس والملائكة والجن وجميع الخلائق التي تشهد ذلك اليوم المشهود وتلتقي الخلائق كلها بربها في ساعة الحساب فهو يوم التلاقي بكل معاني التلاقي .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَفِيعُ الدّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التّلاَقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ } .
يقول تعالى ذكره : هو رفيع الدرجات ورفع قوله : رَفِيعُ الدّرَجاتِ على الابتداء ولو جاء نصبا على الردّ على قوله : فادعوا الله ، كان صوابا . ذُو العَرْشِ يقول : ذو السرير المحيط بما دونه .
وقوله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يقول : ينزل الوحي من أمره على من يشاء من عباده .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عُني به الوحي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ قال : الوحي من أمره .
وقال آخرون : عُني به القرآن والكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن المحاربيّ ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك في قوله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قال : يعني بالروح : الكتاب ينزله على من يشاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وقرأ : وكذَلكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنا قال : هذا القرآن هو الروح ، أوحاه الله إلى جبريل ، وجبريل روح نزل به على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقرأ : نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ قال : فالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه هي الروح ، ليُنذر بها ما قال الله يوم التلاق ، يَوْمَ يَقُومُ الرّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفّا ، قال : الروح : القرآن ، كان أبي يقوله ، قال ابن زيد : يقومون له صفا بين السماء والأرض حين ينزل جلّ جلاله .
وقال آخرون : عُني به النبوّة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، وفي قول الله : يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قال : النبوّة على من يشاء .
وهذه الأقوال متقاربات المعاني ، وإن اختلفت ألفاظ أصحابها بها .
وقوله : لِيُنْذِرَ يَوْمَ التّلاقِ يقول : لينذر من يلقي الروح عليه من عباده من أمر الله بإنذاره من خلقه عذاب يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، وهو يوم التلاق ، وذلك يوم القيامة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قوله : يَوْمَ التّلاقِ من أسماء يوم القيامة ، عظمه الله ، وحذّره عباده .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَوْمَ التّلاقِ : يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، والخالق والخلق .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي يَوْمَ التّلاق تلتقي أهل السماء وأهل الأرض .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد يَومْ التّلاقِ قال : يوم القيامة . قال : يوم تتلاقى العباد .
وقوله تعالى : { رفيع الدرجات } صفاته العلى ، وعبر بما يقرب لأفهام السامعين ، ويحتمل أن يريد ب { رفيع الدرجات } التي يعطيها للمؤمنين ويتفضل بها على عباده المخلصين في جنة . و : { العرش } هو الجسم المخلوق الأعظم الذي السماوات السبع والأرضون فيه كالدنانير في الفلاة من الأرض .
وقوله تعالى : { يلقي الروح } قال الضحاك : { الروح } هنا هو الوحي القرآن وغيره مما لم يتل . وقال قتادة والسدي : { الروح } النبوءة ومكانتها كما قال تعالى : { روحاً من أمرنا }{[9972]} ويسمى هذا روحاً لأنه يحيي به الأمم والأزمان كما يحيي الجسد بروحه ، ويحتمل أن يكون إلقاء الروح عاماً لكل ما ينعم الله به على عباده المعتدين في تفهيمه الإيمان والمعتقدات الشريفة . والمنذر على هذا التأويل : هو الله تعالى . قال الزجاج : { الروح } : كل ما به حياة الناس ، وكل مهتد حي ، وكل ضال كالميت .
وقوله : { من أمره } إن جعلته جنساً للأمور ف { من } للتبعيض أو لابتداء الغاية ، وإن جعلنا الأمر من معنى الكلام : ف { من } إما لابتداء الغاية ، وإما بمعنى الباء ، ولا تكون للتبعيض بتة وقرأ أبي بن كعب : وجماعة : «لينذِر » بالياء وكسر الذال ، وفي الفعل ضمير يحتمل أن يعود على الله تعالى ، ويحتمل أن يعود على { الروح } ، ويحتمل أن يعود على { من } في قوله : { من يشاء } . وقرأ محمد بن السميفع اليماني : «لينذَر » بالياء وفتح الذال ، وضم الميم من «يومُ » وجعل اليوم منذراً على الاتساع . وقرا جمهور الناس : «لتنذر » بالتاء على مخاطبة محمد عليه السلام ، ويومَ «بالنصب .
وقرأ أبو عمرو ونافع وجماعة : » التلاق «دون ياء . وقرأ أبو عمرو أيضاً وعيسى ويعقوب : » التلاقي «بالياء ، والخلاف فيها كالخلاف الذي مر في { التنادي }{[9973]} ، ومعناه : تلاقي جميع العالم بعضهم ببعض ، وذلك أمر لم يتفق قبل ذلك اليوم ، وقال السدي : معناه : تلاقي أهل السماء وأهل الأرض ، وقيل معناه تلاقي الناس مع بارئهم ، وهذا المعنى الأخير هو أشدها تخويفاً ، وقيل يلتقي المرء وعمله .