المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (188)

188- لا تظنن الذين يفرحون دائماً بما يأتون من أفعال قبيحة ويحبون الثناء بما لم يفعلوه ، لا تظنن هؤلاء بمنجاة من العذاب ، لأن من شأنهم أن يغلقوا على أنفسهم باب الإيمان والحق كاليهود ، ولهم عذاب مؤلم يوم القيامة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (188)

ثم قال تعالى : { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } أي : من القبائح والباطل القولي والفعلي .

{ ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } أي : بالخير الذي لم يفعلوه ، والحق الذي لم يقولوه ، فجمعوا بين فعل الشر وقوله ، والفرح بذلك ومحبة أن يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوه .

{ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } أي : بمحل نجوة منه وسلامة ، بل قد استحقوه ، وسيصيرون إليه ، ولهذا قال : { ولهم عذاب أليم }

ويدخل في هذه الآية الكريمة أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم ، ولم ينقادوا للرسول ، وزعموا أنهم هم المحقون في حالهم ومقالهم ، وكذلك كل من ابتدع بدعة قولية أو فعلية ، وفرح بها ، ودعا إليها ، وزعم أنه محق وغيره مبطل ، كما هو الواقع من أهل البدع .

ودلت الآية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق ، إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة ، أنه غير مذموم ، بل هذا من الأمور المطلوبة ، التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين له الأعمال والأقوال ، وأنه جازى بها خواص خلقه ، وسألوها منه ، كما قال إبراهيم عليه السلام : { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } وقال : { سلام على نوح في العالمين ، إنا كذلك نجزي المحسنين } وقد قال عباد الرحمن : { واجعلنا للمتقين إماما } وهي من نعم الباري على عبده ، ومننه التي تحتاج إلى الشكر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (188)

180

وقد ورد في رواية للبخاري - بإسناده - عن ابن عباس أن النبي [ ص ] سأل اليهود عن شيء ، فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه . وأنه في هذا نزلت آية :

( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) . .

وفي رواية أخرى للبخاري - بإسناده - عن أبي سعيد الخدري ، أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله [ ص ] كانوا إذا خرج رسول الله [ ص ] إلى الغزو وتخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله [ ص ] فإذا قدم رسول الله [ ص ] من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فنزلت : ا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا . . . ) .

ومسألة نزول آية بعينها في مسألة بعينها ليست قطعية في هذا . فكثيرا ما يكون الذي وقع هو الاستشهاد بالآية على حادثة بعينها . فيروى أنها نزلت فيها . أو تكون الآية منطبقة على الحادثة فيقال كذلك : إنها نزلت فيها . . ومن ثم لا نجزم في الروايتين بقول .

فأما إذا كانت الأولى ، فهناك مناسبة في السياق عن أهل الكتاب ، وكتمانهم لما ائتمنهم الله عليه من الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه . ثم هم يكتمونه . ويقولون غير الحق ويمضون في الكذب والخداع ، حتى ليطلبوا أن يحمدوا على بيانهم الكاذب وردهم المفتري !

وأما إذا كانت الثانية ، ففي سياق السورة حديث عن المنافقين يصلح أن تلحق به هذه الآية . وهي تصور نموذجا من الناس يوجد على عهد الرسول [ ص ] ويوجد في كل جماعة . نموذج الرجال الذين يعجزون عن احتمال تبعة الرأي ، وتكاليف العقيدة ، فيقعدون متخلفين عن الكفاح . فإن غلب المكافحون وهزموا رفعوا هم رؤوسهم وشمخوا بأنوفهم ، ونسبوا إلى أنفسهم التعقل والحصافة والأناة . . أما إذا انتصر المكافحون وغنموا ، فإن أصحابنا هؤلاء يتظاهرون بأنهم كانوا من مؤيدي خطتهم ؛ وينتحلون لأنفسهم يدا في النصر ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا !

إنه نموذج من نماذج البشرية يقتات الجبن والادعاء . نموذج يرسمه التعبير القرآني في لمسة أو لمستين . فإذا ملامحه واضحة للعيان ، وسماته خالدة في الزمان . . وتلك طريقة القرآن .

هؤلاء الناس يؤكد الله للرسول [ ص ] أنهم لا نجاة لهم من العذاب . وإن الذي ينتظرهم عذاب أليم لا مفر لهم منه و لا معين :

( فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (188)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وّيُحِبّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : عُنِيَ بذلك قوم من أهل النفاق كانوا يقعدون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا العدو ، فإذا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سهل بن عسكر وابن عبد الرحيم البرقي ، قالا : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ، قال : ثني زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري : أن رجالاً من المنافقين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ، وإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم من السفر اعتذروا إليه وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فأنزل الله تعالى فيهم : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أتَوْا } . . . الاَية .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } قال : هؤلاء المنافقون يقولون النبي صلى الله عليه وسلم : لو قد خرجت لخرجنا معك ، فإذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم تخلفوا وكذبوا ، ويفرحون بذلك ، ويرون أنها حيلة احتالوا بها .

وقال آخرون : عُنِي بذلك قوم من أحبار اليهود كانوا يفرحون بإضلالهم الناس ، ونسبة الناس إياهم إلى العلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، حدثنا قال : سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس أو سعيد بن جبير : { وَإذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ } إلى قوله { وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ } يعني : فنحاصا وأشيع وأشباههما من الأحبار الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة { ويُحبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بما لم يَفْعَلُوا } أن يقول لهم الناس علماء وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى ولا خير ، ويحبون أن يقول لهم الناس : قد فعلوا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أنه حدثه عن ابن عباس بنحو ذلك ، إلا أنه قال : وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى .

وقال آخرون : بل عُنِي بذلك قوم من اليهود فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحبون أن يحمدوا بأن يقال لهم أهل صلاة وصيام . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، يقول في قوله : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } فإنهم فرحوا باجتماعهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : قد جمع الله كلمتنا ، ولم يخالف أحد منا أحدا أنه نبيّ ، وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أهل الصلاة والصيام . وكذبوا ، بل هم أهل كفر وشرك وافتراء على الله ، قال الله : { يُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { لاَ تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } قال : كانت اليهود أمر بعضكم بعضا ، فكتب بعضهم إلى بعض أن محمدا ليس بنبيّ ، فاجمعوا كلمتكم ، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم . ففعلوا وفرحوا بذلك ، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، ففرحوا بذلك ، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وفرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه ، وكانوا يزكون أنفسهم ، فيقولون : نحن أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الزكاة ، ونحن على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله فيهم : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } من كتمان محمد صلى الله عليه وسلم : { ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } أحبوا أن تحمدهم العرب بما يزكون به أنفسهم ، وليسوا كذلك .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن أبي الجَحّاف ، عن مسلم البطين ، قال : سأل الحجاج جلساءه عن هذه الاَية : { لا تَحْسَبنّ الّذِيَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } قال سعيد بن جبير : بكتمانهم محمدا ، { ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } قال : هو قولهم : نحن على دين إبراهيم عليه السلام .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { لاَ تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } : هم أهل الكتاب أنزل عليهم الكتاب ، فحكموا بغير الحقّ ، وحرّفوا الكلم عن مواضعه ، وفرحوا بذلك ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فرحوا بأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل الله ، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله ، ويصومون ، ويصلون ، ويطيعون الله¹ فقال الله جلّ ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } كفروا بالله وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، { ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } من الصلاة والصوم ، فقال الله جلّ وعزّ لمحمد صلى الله عليه وسلم : { فَلا تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ العَذَابِ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ } .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا من تبديلهم كتاب الله ، ويحبون أن يحمدهم الناس على ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : { لاَ تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } قال : يهود ، فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه ، ولا تملك يهود ذلك .

وقال آخرون : معنى ذلك : أنهم فرحوا بما أعطى الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي المعلى ، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الاَية : { ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } قال : اليهود يفرحون بما آتى الله إبراهيم عليه السلام .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي المعلى العطار ، عن سعيد بن جبير ، قال : هم اليهود ، فرحوا بما أعطى الله تعالى إبراهيم عليه السلام .

وقال آخرون : بل عُنِي بذلك قوم من اليهود سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكتموه ، ففرحوا بكتمانهم ذلك إياه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني ابن أبي مليكة أن علقمة بن أبي وقاص أخبره : أن مروان قال لرافع : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له : لئن كان كل امرىء منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ، ليعذبنا الله أجمعين ! فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود ، فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استجابوا لله بما أخبروه عنه مما سألهم ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه . ثم قال : { وَإذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ } . . . الاَية .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن أبي مليكة ، أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان بن الحكم قال لبوابه : يا رافع اذهب إلى ابن عباس ، فقل له : لئن كان كل امرىء منا فرح بما أتى وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذّبا ، لنعذبن جميعا فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الاَية ؟ إنما أنزلت في أهل الكتاب . ثم تلا ابن عباس : { وَإذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَيُبَيّنُنّهُ للنّاسِ } إلى قوله : { أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } قال ابن عباس : سألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما قد سألهم عنه ، فاستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه .

وقال آخرون : بل عني بذلك قوم من يهود أظهروا النفاق للنبيّ صلى الله عليه وسلم محبة منهم للحمد ، والله عالم منهم خلاف ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أن أعداء الله اليهود يهود خيبر أتوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به ، وأنهم متابعوه وهم متمسكون بضلالتهم ، وأرادوا أن يحمدهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بما لم يفعلوا ، فأنزل الله تعالى : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } . . . الاَية .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : إن أهل خيبر أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقالوا : إنا على رأيكم وهيئتكم ، وإنا لكم ردء ، فأكذبهم الله ، فقال : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } . . . الاَيتين .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، قال : جاء رجل إلى عبد الله ، فقال : إن كعبا يقرأ عليك السلام ، ويقول : إن هذه الاَية لم تنزل فيكم : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } قال : أخبروه أنها نزلت وهو يهوديّ .

وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرحُونَ بِمَا أتَوْا } . . . الاَية ، قول من قال : عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله جلّ وعزّ أنه أخذ ميثاقهم ، ليبيننّ للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يكتمونه ، لأن قوله : { لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا } . . . الاَية في سياق الخبر عنهم ، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك ، فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الاَية : لا تحسبن يا محمد الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناس أمرك ، وأنك لي رسول مرسل بالحقّ ، وهم يجدونك مكتوبا عندهم في كتبهم ، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوّتك ، وبيان أمرك للناس ، وأن لا يكتموهم ذلك ، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك ، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك ، ومخالفتهم أمري ، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبادة وصلاة وصوم ، واتباع لوحيه ، وتنزيله الذي أنزله على أنبيائه ، وهم من ذلك أبرياء أخلياء لتكذيبهم رسوله ، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ عليهم ، لم يفعلوا شيئا مما يحبون أن يحمدهم الناس عليه ، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ، ولهم عذاب أليم . وقوله : { فَلا تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ العَذَابِ } فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعدّه لأعدائه في الدنيا من الخسف والمسخ والرجف والقتل ، وما أشبه ذلك من عقاب الله ، ولا هم ببعيد منه . كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَلا تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ العَذَابِ } قال : بمنجاة من العذاب .

قال أبو جعفر : { وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ } يقول : ولهم عذاب في الاَخرة أيضا مؤلم ، مع الذي لهم في الدنيا معجل .