{ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم } نزلت في المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو ، فإذا جاء استعذروا له ، فيظهر القبول ويستغفر لهم ، ففضحهم الله بهذه الآية قاله : أبو سعيد الخدري وابن زيد وجماعة .
وقال كثير من المفسرين : نزلت في أحبار اليهود .
وأتى تكون بمعنى فعل ، كقوله تعالى : { إنه كان وعده مأتياً } أي مفعولاً .
فمعنى بما أتوا بما فعلوا ، ويدل عليه قراءة أبى بما فعلوا .
وفي الذي فعلوه وفرحوا به أقوال : أحدها كتم ما سألهم عنه الرسول ، وإخبارهم بغيره ، وأروه أنهم قد أخبروه به واستحمدوا بذلك إليه قاله : ابن عباس .
الثاني ما أصابوا من الدنيا وأحبوا أن يقال : إنهم علماء قاله : ابن عباس أيضاً .
الثالث قولهم : نحن على دين ابراهيم ، وكتمهم أمر الرسول قاله : ابن جبير .
الرابع كتبهم إلى اليهود يهود الأرض كلها أن محمداً ليس بنبي ، فأثبتوا على دينكم ، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به .
وقالوا : نحن أهل الصوم والصلاة وأولياء الله قاله : الضحاك والسدي .
الخامس قول يهود خيبر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : نحن على دينكم ، ونحن لكم ردء ، وهم مستمسكون بضلالهم ، وأرادوا أن يحمدهم بما لم يفعلوا قاله : قتادة .
السادس تجهيز اليهود جيشاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنفاقهم على ذلك الجيش قاله : النخعي .
السابع إخبار جماعة من اليهود للمسلمين حين خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرهم بأشياء عرفوها ، فحمدهم المسلمون على ذلك ، وأبطنوا خلاف ما أظهر ، وأذكره الزجاج .
الثامن اتباع الناس لهم في تبديل تأويل التوراة ، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك ، ولم يفعلوا شيئاً نافعاً ولا صحيحاً قاله : مجاهد .
التاسع تخلف المنافقين عن الغزو وحلفهم للمسلمين أنهم يسرّون بنصرهم ، وكانوا يحبون أن يقال أنهم في حكم المجاهدين قاله : أبو سعيد الخدري .
والأقوال السابقة غير هذا الأخير مبنية على أن الآية نزلت في اليهود .
قيل : ويجوز أن يكون شاملاً لكل من يأتي بحسنة فرح بها فرح إعجاب ، ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد ، وبما ليس فيه .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : لا يحسبن ولا يحسبنهم بالياء فيهما ، ورفع باء يحسبنهم على إسناد يحسبن للذين ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما ما قاله أبو عليّ : وهو أن لا يحسبن لم يقع على شيء ، والذين رفع به .
وقد تجيء هذه الأفعال لغواً لا في حكم الجمل المفيدة نحو قوله :
وما خلت أبقي بيننا من مودّة *** عراض المداكي المسنفات القلائصا
وقال الخليل : العرب تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيد ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد .
قال ابن عطية : فتتجه القراءة بكون فلا يحسبنهم بدلاً من الأول ، وقد تعدّى إلى المفعولين وهما : الضمير وبمفازة ، واستغنى بذلك عن المفعولين ، كما استغنى في قوله :
بأي كتاب أم بأية سنة *** ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب
والوجه الثاني ما قاله الزمخشري : وهو أن يكون المفعول الأول محذوفاً على لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة ، بمعنى : لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين .
وفلا يحسبنهم تأكيد ، وتقدّم لنا الرد على الزمخشري في تقديره لا يحسبنهم الذين في قوله : { ولا يحسبن الذين كفروا أنما } وإن هذا التقدير لا يصح فيطلع هناك .
وتعدى في هذه القراءة فعل الحسبان إلى ضميريه المتصلين : المرفوع والمنصوب ، وهو مما يختص به ظننت وأخواتها ، ومن غيرها : وجدت ، وفقدت ، وعدمت ، وذلك مقرّر في علم النحو .
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم : لا تحسبن ، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما خطاباً للرسول ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما ذكره ابن عطية ، وهو أن المفعول الأول هو : الذين يفرحون .
والثاني محذوف لدلالة ما بعده عليه كما قيل آنفاً في المفعولين .
وحسن تكرار الفعل فلا يحسبنهم لطول الكلام ، وهي عادة العرب ، وذلك تقريب لذهن المخاطب .
والوجه الثاني ذكره الزمخشري ، قال : وأحد المفعولين الذين يفرحون ، والثاني بمفازة .
وقوله : فلا يحسبنهم توكيد تقديره لا يحسبنهم ، فلا يحسبنهم فائزين .
وقرئ لا تحسبن فلا تحسبنهم بتاء الخطاب وضم الباء فيهما خطاباً للمؤمنين .
ويجيء الخلاف في المفعول الثاني كالخلاف فيه في قراءة الكوفيين .
وقرأ نافع وابن عامر : لا يحسبن بياء الغيبة ، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما ، وخرجت هذه القراءة على حذف مفعولي يحسبن لدلالة ما بعدهما عليهما .
ولا يجوز في هذه القراءة البدل الذي جوّز في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين لاختلاف الفاعل .
وإذا كان فلا يحسبنهم توكيداً أو بدلاً ، فدخول الفاء إنما يتوجه على أن تكون زائدة ، إذ لا يصح أن تكون للعطف ، ولا أن تكون فاء جواب الجزاء .
وأنشدوا على زيادة الفاء قول الشاعر :
حتى تركت العائدات يعدنه *** يقلن فلا تبعد وقلت له : ابعد
لما اتقى بيد عظيم جرمها *** فتركت ضاحي : كفه يتذبذب
وقرأ النخعي ومروان بن الحكم بما آتوا بمعنى : أعطوا .
وقرأ ابن جبير والسلمي : بما أوتوا مبنياً للمفعول .
وتقدّمت الأقوال في أتوا ، وبعضها يستقيم على هاتين القراءتين .
وفي حرف عبد الله بما لم يفعلوا بمفازة ، وأسقط فلا يحسبنهم .
ومفازة مفعلة من فاز ، وهي للمكان أي : موضع فوز ، أي : نجاة .
وقال الفرّاء : أي ببعد من العذاب ، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه .
وفي هذه الآية دلالة على أن تزين الإنسان بما ليس فيه وحبه المدح عليه منهى عنه ومذموم شرعاً .
وقال تعالى : { لم تقولون مالا تفعلون } وفي الحديث الصحيح : « المتشبع بما ليس فيه كلابس ثوبي زور » وقد أخبر تعالى عنهم بالعذاب الأليم في قوله : ولهم عذاب أليم .
وناسب وصفه بأليم لأجل فرحهم ومحبتهم المحمدة على ما لم يفعلوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.