الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (188)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا}، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين دخلوا عليه: نعرفك، نصدقك، وليس ذلك في قلوبهم، فلما خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟ قالوا: عرفناه وصدقناه، فقال المسلمون: أحسنتم، بارك الله فيكم، وحمدهم المسلمون على ما أظهروا من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه: {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}، يا محمد {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم}، يعني وجيع.

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

.. أخرج مالك عن محمد بن ثابت: أن ثابت بن قيس قال: يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال: لم؟ قال: نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد. ونهانا عن الخيلاء، وأجدني أحب الجمال، ونهانا أن نرفع صوتنا فوق صوتك وأنا رجل جهير الصوت فقال: يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة. فعاش حميدا، وقتل شهيدا، يوم مسيلمة الكذاب.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛

فقال بعضهم: عُنِيَ بذلك قوم من أهل النفاق كانوا يقعدون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا العدو، فإذا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا...

وقال آخرون: عُنِي بذلك قوم من أحبار اليهود كانوا يفرحون بإضلالهم الناس، ونسبة الناس إياهم إلى العلم...

وقال آخرون: بل عُنِي بذلك قوم من اليهود فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، ويحبون أن يحمدوا بأن يقال لهم أهل صلاة وصيام... وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا من تبديلهم كتاب الله، ويحبون أن يحمدهم الناس على ذلك...

وقال آخرون: معنى ذلك: أنهم فرحوا بما أعطى الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام... وقال آخرون: بل عُنِي بذلك قوم من اليهود سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكتموه، ففرحوا بكتمانهم ذلك إياه... قال ابن عباس: سألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما قد سألهم عنه، فاستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.

وقال آخرون: بل عني بذلك قوم من يهود أظهروا النفاق للنبيّ صلى الله عليه وسلم محبة منهم للحمد، والله عالم منهم خلاف ذلك...

وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: {لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرحُونَ بِمَا أتَوْا...} الآية، قول من قال: عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله جلّ وعزّ أنه أخذ ميثاقهم، ليبيننّ للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكتمونه، لأن قوله: {لا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا...} الآية، في سياق الخبر عنهم، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك، فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: لا تحسبن يا محمد الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناس أمرك، وأنك لي رسول مرسل بالحقّ، وهم يجدونك مكتوبا عندهم في كتبهم، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوّتك، وبيان أمرك للناس، وأن لا يكتموهم ذلك، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك، ومخالفتهم أمري، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبادة وصلاة وصوم، واتباع لوحيه، وتنزيله الذي أنزله على أنبيائه، وهم من ذلك أبرياء أخلياء لتكذيبهم رسوله، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ عليهم، لم يفعلوا شيئا مما يحبون أن يحمدهم الناس عليه، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب، ولهم عذاب أليم. وقوله: {فَلا تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ العَذَابِ} فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعدّه لأعدائه في الدنيا من الخسف والمسخ والرجف والقتل، وما أشبه ذلك من عقاب الله، ولا هم ببعيد منه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن هذا من جملة ما دخل تحت قوله: {ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} فبين تعالى أن من جملة أنواع هذا الأذى أنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين، ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البر والتقوى والصدق والديانة، ولا شك أن الإنسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمصابرة عليها، وبين ما لهم من الوعيد الشديد واعلم أن الأولى أن يحمل على الكل، لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد، وهو أن الإنسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به، ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على طاعة الله..

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته عملاً بعموم اللفظ، وهو المعتبر دون خصوص السبب، فمن فرح بما فعل، وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل، فلا تحسبنه بمفازة من العذاب.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ثم قال عز وجل {لا تحبسن الذين يفحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم} روى الشيخان وغيهما من طريق حميد بن عبد الحمن بن عوف أن موان ال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس ما لكم وهذه إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أوه أنهم قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه.

وأخرج الشيخان أيضا من حديث أبي سعيد الخدي أن رجلا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فزلت هذه الآية.

وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن زيد بن أسلم أن رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند موان فقال مروان: يا رافع في اي شيء أنزلت هذه الآية« لا تحسبن الذي يفرحون بما أتوا» قال رافع أنزلت في ناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم اعتذروا وقالوا ما حبسنا عنكم إلا شغل فلوددنا لو كنا معكم. فأنزل الله فيهم هذه الآية وكأن مروان أنكر ذلك فجزع رافع من ذلك فقال لزيد بن ثابت: انشدك الله هل تعلم ما أقول؟ قال نعم.

قال الحافظ ابن حجر يجمع بين هذا وبين قول ابن عباس: بأنه يمكن أن تكون نزلت في الفريقين معا. قال وحكى الفراء أنها نزلت في قول اليهود نحن اليهود نحن أهل الكتاب الأول الصلاة والطاعة ومع ذلك لا يقرون بمحمد. وروى ابن أبي حاتم من طرق عن جماعة من التابعين نحو ذلك ورجحه ابن جرير، ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك انتهى من لباب النقول. وقد أخرج هذه الروايات غير من ذكرناهم أيضا.

وقد وجهها بعض من قال إنها نزلت في اليهود بغير ذلك الوجه الخاص في رواية الصحيحين عن ابن عباس، ومما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس في ذلك أنه قال: هم أهل الكتاب أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فرحوا بأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله ويصلون ويطيعون الله. وروي عن الضحاك أنهم فرحوا بما أتوا من تكذيب النبي والكفر به وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا وهو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه ونحن أهل الصلاة والصيام. وهذا وجه وجيه وهو الذي اختاره ابن جرير وبمثل هذا العموم يوجه نزولها في المنافقين.

الأستاذ الإمام: كان الكلام في أهل الكتاب لتحذير المسلمين من مثل فعلهم في سياق الحض على الاستمساك بعروة الحق وحفظه والدعوة إليه إذ أخذ على أولئك الميثاق فقصروا فيه وتركوا العمل بالكتاب وتبيينه للناس واشتروا به ثمنا قليلا فاستحقوا العقاب من الله تعالى. بعد هذا بين في هذه الآية حالا آخر من أحوال أولئك الغابرين ليحذر المؤمنين منه لأنهم عرضة له وهو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم أئمة يقتدى بهم وهذا فرح بالباطل، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب ومفسروه وعلماؤه ومبينوه والمقيمون له، وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك وإنما فعلوا نقيضه إذ حولوه عن الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وأهواء سائر الناس يطلبون بذلك حمدهم. بين الله هذه الحال في أسلوب عجيب بين فيه حكما آخر وهو أن هؤلاء الفرحين المحبين للمحمدة الباطلة قد اشتبه أمرهم على الناس فهم يحسبون أنهم أولياء الله وأنصار دينه وعلماء كتابه وأنهم أبعد الناس عن عذابه وأقربهم من رضوانه فبين الله كذب هذا الحسبان ونهى عنه وسجل عليهم العذاب.

أقول: إن هذه الآية على عمومها مبينة لشيء من الثمن الذي استبدلوه بكتاب الله وكونه بئس الثمن، وهو أمران "أحدهما "فرحهم بما أوتوه من الأعمال فرح غرور وخيلاء وفخر على أن منه نبذ كتاب الله بترك العمل به وعدم تبيينه على وجهه إما بتحريفه عن مواضعه ليوافق أهواء الحكام أو أهواء الناس، وإما بالسكوت عنه والأخذ بكلام العلماء السابقين تقليدا بغير حجة إلا ادعاء أنهم كانوا أعلم بالكتاب وأنهم إن خالفوا بعض نصوصه فلا بد أن يكون عندهم دليل أوجب عليهم ذلك "وثانيهما "حب المدح والثناء بالباطل فإنهم يتبعون أهواء الحكام والناس في الدين ويحبون أن يحمدوا بأنهم يبينون الحق لوجه الله لا تأخذهم فيه لومة لائم فإن الحاكم أو غير الحاكم إذا احتاج إلى عمل يرضي به هواه وشهوته مما يحظره عليه الدين فلجأ إلى العالم فعلمه حيلة شرعية يسلم بها من نقد الناقدين وذم المتدينين فلا شك أنه يحمد ذلك العالم ويطريه بأنه العالم التقي المحقق، لا مكافأة له فقط بل يرى من مصلحته أن يعتقد الناس العلم والصلاح في مفتيه ليأخذوا كلامه بالقبول.

وقد علمنا من الثقات أن الحكام منذ كانوا يتواطؤون مع كبار شيوخ العلم وشيوخ الطريق المحترمين عند العامة على تعظيم كل فريق منهم للآخر فرؤساء الحكام يظهرون للعامة احترام العلماء والاعتقاد بولاية كبار شيوخ أهل الطريق فيقبلون أيديهم عند اللقاء وربما أهدوا إليهم بعض الهدايا، والمشايخ من العلماء وأهل الطريق يظهرون للعامة احترام أولئك الحكام ويشهدون بقوة دينهم وشدة غيرتهم على الإسلام والمسلمين ووجوب طاعتهم في السر والجهر- يقولون- وإن ظلموا وجاروا لأنهم مسلطون من الله عز وجل!! فهكذا كان الظالمون المستبدون وما زالوا يستفيدون من الدين بمساعدة رجاله ويتفق الرؤساء من الفريقين على إضاعة حقوق الأمة وإذلالها لهم ليتمتعوا بلذة الرياسة ونعيمها فيفرحون بما أتوا من ضروب المكايد السياسية والاجتماعية، والتأويلات الدينية؛ التي ترفع قدرهم، وتخضع العامة لهم، ويحبون أن يحمدوا دائما بأنهم أنصار الدين وحماته، ومبينو الشرع ودعاته، وإن نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وتوجهوا إلى كتب أمثالهم وأشباههم، وكانت الأمة لا تزداد كل يوم إلا شقاء بهم؛ حتى سبقتها الأمم كلها بسوء سياستهم، ولو أنهم أقاموا الكتاب كما أمروا بالبيان له والعمل به وإلزام الحكام بهديه لما عم الفسق والفجور وصارت الشعوب الإسلامية دون سائر الشعوب حتى ذهبت سلطتها وتقلص ظلها عن أكثر الممالك التي كانت خاضعة لها؛ وهي تتوقع نزول الخطر بالباقي وهو أقلها.

وقد كان الأمراء والسلاطين فمن دونهم من كبراء الحكام هم الذين يخطبون ود العلماء والمتصوفة ويستميلونهم إليهم وهؤلاء يتعززون، فيستجيب للرقية بعضهم ويعتصم بالإباء والتقوى آخرون؛ ثم انعكست الحال، وضعف سلطان التقوى أمام سلطان الجاه والمال، فصار رجال الدين، هم الذين يتهافتون على أبواب الأمراء والسلاطين، فيقرب المنافقون، ويؤذى المحقون المتقون، وتكون مراتب الآخرين، على نسبة قربهم من أحد الطرفين.

هذا ما أحببت التذكير به في تبيين العبرة بالآية في سياسة الأمة وعمل رؤساء الدين والدنيا الذين يفرحون بأعمالهم وإن ساءت ويحبون أن يحمدوا بالشعريات الكاذبة التي راجت سوقها في هذا العصر بالصحف المنتشرة المعروفة بالجرائد فالكثير منها قد أتقن هذه الجريمة – مدح السلاطين- والأمراء والرؤساء بما لم يفعلوا – حتى اطمأنوا باعتقاد السواد الأعظم أن سيئاتهم حسنات؛ وحتى بطلت فائدة المحمدة الصحيحة وحب الثناء بالحق والشكر على العمل فانهد بذهاب هذه الفائدة ركن من أركان التربية والإصلاح القومي والشخصي، فإن حب الحمد غريزة من أقوى غرائز البشر التي تنهض بالهمم وتحفز العزائم إلى الأعمال العظيمة النافعة رغبة في اقتطاف ثمار الثناء عليها؛ فإذا كان الإنسان يدرك هذا الثناء الذي يستحقه العاملون بدون أن يكلف نفسه عناء العمل للأمة ونفع الناس بكذب الجرائد في حمده والثناء عليه بالباطل قعدت همته ووهت عزيمته وأخلد إلى الراحة أو اشتغل بالعمل للذته فقط.

فإذا كان العالم الذي ينتمي إلى الأمراء والسلاطين وينال الحظوة عندهم لا يوثق بعلمه ولا بدينه- كما تقدم بيانه والاستدلال عليه بالأحاديث والآثار- فأصحاب الجرائد أولى بعدم الثقة بأخبارهم وآرائهم إذا كانوا كذلك. وأنى للعوام المساكين فهم هذا وإدراك سره والجهل غالب؛ والغش رائج والناصح المخلص نادر؟ وقد صارت حاجة الملوك والأمراء المستبدين إلى حمد الجرائد توازي حاجتهم إلى حمد رجال الدين في غش الأمة أو تزيد عليها ولذلك يغدقون عليهم النعم ويقربونهم ويحلونهم بالرتب وشارات الشرف التي تعرف بالأوسمة أو النياشين. كما يحرص على إرضائهم كل محبي الشهرة بالباطل من الأغنياء والوجهاء.

لولا أن حب المحمدة بالحق على العمل النافع من غرائز الفطرة التي يستعان بها على التربية العالية لما قيد الله الوعيد على حب الحمد بقوله: "بما لم يفعلوا" فهذا القيد يدل على أن حب الثناء على العمل النافع غير مذموم ولا متوعد عليه وهذا هو الذي يليق بدين الفطرة بل جاء في الكتاب الحكيم ما يدل على مدح هذه الغريزة كقوله تعالى لنبيه: (ورفعنا لك ذكرك) [الشرح: 4] وقوله في القرآن: (وإنه لذكر لك ولقومك) [الزخرف: 44] نعم إن هناك مرتبة أعلى من مرتبة من يعمل الحسنات ليحمد عليها وهي مرتبة من يعملها حبا بالخير لذاته وتقربا به إلى الله تعالى.

على أن المدح بالحق لا يخلو في بعض الأحوال من ضرر في الممدوح كالغرور والعجب وفتور الهمة عن الثبات والمواظبة على العمل الذي حمد عليه وهذا هو سبب النهي عن المدح في حديث أبي بكرة عند أحمد والشيخين وغيرهم قال: إن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ويحك – وفي رواية ويلك- قطعت عنق صاحبك- بقوله مرتين- إن كان أحدكم مادحا لأخيه فليقل أحسبه كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك – وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحدا" 47 وفي رواية عند الطبراني في المعجم الكبير زيادة "والله لو سمعها ما أفلح" نعم يحتمل أن تكون عبارة ذلك المادح مما يستنكر من قبح الإطراء وأن يكون ذلك الممدوح بها ممن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم استعداده للغرور بما يقال فيه فوقائع الأحوال موضع للاحتمالات لما فيها من الإجمال كما هو مشهور ولكن قل من يسلم من الاغترار بالمدح لا سيما إذا كان إطراء، وقلما يكون الإطراء حقا وقلما يلتزم المطرون الحق ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب" 48 رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث المقداد بن الأسود وبعضهم وغيرهم عن أنس وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة. وقال صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" 49 رواه البخاري من حديث ابن عمر.

ثم أعود إلى المسألة الأولى فأقول: إن الفرح بالعمل من شأن المغرورين وليس المراد به هنا ارتياح نفس العامل وانبساطها لما يأتيه من العمل الذي يرى أنه محمود كما فهم مروان، وإنما هو فرح البطر والغرور الذي يتبعه الخيلاء والفخر كما أشرنا إلى ذلك، وهو ما نبه عليه القرآن في فائدة المصائب تصيب المؤمنين بقوله عز وجل: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) [الحديد: 23] ومنه قوله تعالى: (إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) [القصص: 76] وهذا الإفراط في الفرح بالنعمة الذي يكون من الضعفاء يقابله عندهم المبالغة في الحزن في المصيبة إلى أن يقع المصاب في اليأس والكفر وقد بين تعالى حال الفريقين بقوله: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) [هود: 9-11] أي لأنهم هم الذين رباهم الله تعالى بحوادث الزمان وغيره مع إرشادهم إلى وجه الاستفادة من ذلك كما تقدم بعد ذكر المصائب (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) وفي معنى الآيتين مع زيادة في الفائدة آية سورة الروم (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) [الروم: 26].

ولما كان هذا هو شأن أصحاب هذا النوع من الفرح – فرح البطر والغرور- كان مما يتبع ذلك تبع المعلول للعلة والمسبب للسبب ترك الشكر على النعمة باستعمالها فيما ينفع الناس بل يستعملونها فيما يسرهم ويمتعهم بلذاتهم ونعيمهم فيكون ذلك مهلكة للأمة كما قال تعالى في أقوام هذا شأنهم (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) [الأنعام: 44] ولا يعارض ذلك قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: 58] لأن السرور بالنعمة مع تذكر أنها فضل من الله لا يحدث بطرا ولا غرورا وإنما يحدث شكرا وإحسانا في العمل. فإذا فقهت هذا كله علمت أن الذين يفرحون بأعمالهم فرح بطر واختيال وغرور ويكونون مستحقين للوعيد بالعذاب وإن كانت أعمالهم التي بطروا بها وفخروا واغتروا بها وكفروا من الأعمال الحسنة لأن بعض الأعمال الحسنة قد تكون لها عواقب رديئة وبعض الأعمال السيئة قد تكون لها عاقبة حسنة وفي هذا قال ابن عطاء في حكمه "رب معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا".

ويؤيد هذا المعنى الذي حققته قوله تعالى في صفات الأخيار (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) [المؤمنون: 60] وما روي من الحديث المرفوع في تفسيره ففي حديث عائشة عند أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه وغيرهم قالت: يا رسول الله قول الله" والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة "أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله قال" لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يقبل منه "50 فهؤلاء هم الذين قال فيهم بعد ما تقدم (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) بخلاف الذين يفرحون بما أتوا من عمل وما آتوا من صدقة فرح عجب وخيلاء فإنه يغلب عليهم الرياء وحب الثناء والسمعة فيكسلون عن العمل ولا يواظبون عليه.

هذا شأن العمل في الدين ومثله العمل في الدنيا وللدنيا كما يفيدنا البحث في أحوال الأمم، فإن الذين استولى عليهم الغرور يفرحون ويبطرون بكل عمل يعملونه ويرون أنه منتهى الكمال فلا تنشط هممهم إلى طلب المزيد والمسارعة في الخيرات ولا يقبلون الانتقاد على التقصير. حدثني الأستاذ الإمام قال حدثني عالم ألماني لقيته في السفينة في إحدى سياحاتي قال: إنه لا يوجد عندنا عمل من الأعمال نحن راضون به ومعتقدون أنه لا يقبل الترقي والإتقان، بل عندنا جمعيات تبحث في ترقية كل شيء وتحسينه من الإبرة إلى أعظم الآلات وأبدع المخترعات. مثال ذلك البندقية يبحثون فيها هل يمكن أن تكون أخف وزنا وأبعد رميا أو أقل نفقة الخ ما قال.

فإذا تدبرت ما قلناه في هاتين الصفتين الذميمتين" فرح البطر والغرور والفخر بالأعمال، الذي يدعو إلى الكسل والإهمال، وحب المحمدة الباطلة والقناعة بالثناء الكاذب إذا تدبرت هذا فقهت سر الوعيد الشديد بتعذيب الأمة المتصفة بهما مرتين واحدة في الدنيا وواحدة في الآخرة وهو المراد بقوله عز وجل (فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) الخ.

أي لا تظن يا محمد أو أيها المخاطب أنهم بمنجاة من العذاب الدنيوي أي متلبسون بالفوز والنجاة منه وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها وساءت أعمالها وكابرت الحق والعدل، وألفت الفساد والظلم، وهو على قسمين. عذاب هو أثر طبيعي اجتماعي للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة الله في الاجتماع البشري وهو خذلان أهل الباطل والإفساد وانكسارهم وذهاب استقلالهم بنصر أهل الحق والعدل عليهم وتمكينهم من رقابهم وديارهم وأموالهم ليحل الإصلاح محل الإفساد؛ والعدل مكان الظلم (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) [هود: 102] – وعذاب لا يكون أثرا طبيعيا بل يسمى سخطا سماويا كالزلزال والخسف والطوفان وغير ذلك من الجوائح المدمرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بهم وكذبوهم وآذوهم فكان الله يوفق بين أسباب ذلك العذاب المعتادة وأقدارها فينزلها بالقوم عند اشتداد عتوهم وإيذائهم لرسوله فيكونون من الهالكين وسيأتي بيان ذلك في سورة الأعراف ونحوها إن أحيانا الله تعالى وأمدنا بتوفيقه.

...ثم قال (ولهم عذاب أليم) أي في الآخرة فإن فساد أخلاقهم الفاسدة وفرحهم وبطرهم وصغارهم الذي زين لهم حب الحمد الكاذب بالباطل جعل أرواحهم مظلمة دنسة فهي التي تهبط بهم إلى الهاوية حيث يلاقون ذلك العذاب المؤلم.

ومن مباحث اللفظ في الآية: أن جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن قوله تعالى (فلا تحسبنهم) تأكيد لقوله: (ولا تحسبن الذين) كما هو معهود في الكلام العربي من إعادة الفعل إذا طال الفصل بينه وبين معموله. قال الزجاج: إن العرب إذا أطالت القصة تعيد "حسبت" وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول، فتقول: لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا فلا تظنه صادقا، فيفيد لا تظنن توكيدا وتوضيحا. والفاء زائدة كما في قوله:

فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي 51

ونقل الأستاذ الإمام هذا التوجيه في الدرس عن الكشاف وغيره فقال لولا الفاء لصح ولكن الفاء تمنع منه وهذا بناء على مذهبه في عدم زيادة حرف ما في القرآن بلا فائدة على أن الذين يقولون بزيادة بعض الحروف وبعض الكلمات إنما يعنون زيادتها غالبا بحسب الإعراب لا أنهم يقولون إن إثباتها وتركها سواء. ووجه العبرة هنا بأن المفعول الثاني في قوله: "لا يحسبن الذين يفرحون" محذوف حذف إيجازا لتذهب النفس في تقديره كل مذهب.

قال: والقرآن ما أنزل لتحديد المسائل والأخبار والقصص تحديدا يستوي في فهمه كل قارئ وإنما الغرض الأهم منه إصلاح النفوس والتأثير الصالح فيها بترغيبها في الحق والخير وتنفيرها من ضدهما. فإذا قال ههنا: لا تحسبن الذين يفرحون بكذا ويحبون كذا تتوجه نفس القارئ أو السامع إلى طلب المفعول الثاني وتذهب فيه مذاهب شتى كلها من النوع الذي يليق بمن هذا حالهم، كأن تقدر لا تحسبنهم مطيعين لربهم أو عاملين بهدايته وعندما يرد عليها بعده "فلا تحسبنهم بمفارة من العذاب" يتعين عندها بهذا التفريع الذي ذكر فيه المفعول الثاني ما حذف من الأول لا بشخصه وعينه بل بنوعه لأننا لو قلنا إن ما حذف من الأول هو عين ما أثبت في الثاني لم يكن للتفريع فائدة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

تكملة لأحوال أهل الكتاب المتحدّث عنهم ببيان حالة خُلقهم بعد أن بيّن اختلال أمانتهم في تبليغ الدين، وهذا ضرب آخر جاء به فريق آخر من أهل الكتاب فلذلك عبّر عنهم بالمَوصول للتوصّل إلى ذكر صلته العجيبة من حال من يفعل الشرّ والخسّة ثم لا يقف عند حدّ الانكسار لما فعل أو تطَلُّب الستر على شنعته، بل يرتقي فيترقّب ثناء الناس على سوء صنعه، ويتطلّب المحمدة عليه. وقيل: نزلت في المنافقين، والخطاب لكلّ من يصلح له الخطاب، والموصول هنا بمعنى المعرّف بلام العهد لأنّ أريد به قوم معيَّنون من اليهود أو المنافقين، فمعنى {يفرحون بما أتوا} أنّهم يفرحون بما فعلوا ممّا تقدّم ذكره، وهو نبذ الكتاب والاشتراء به ثمناً قليلاً وإنّما فرحهم بما نالوا بفعلهم من نفع في الدنيا.

ومعنى: {يُحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} أنّهم يحبّون الثناء عليهم بأنّهم حفظة الشريعة وحُرّاسها والعالمون بتأويلها، وذلك خلاف الواقع. هذا ظاهر معنى الآية. وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس أنّهم أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وأحبّوا الحمد بأنّهم علماء بكتب الدين.

وفي « البخاري»، عن أبي سعيد الخدْري: أنّها نزلت في المنافقين، كانوا يتخلّفون عن الغزو ويعتذرون بالمعاذير، فيقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم ويحبّون أن يحمدوا بأنّ لهم نية المجاهدين، وليس الموصول بمعنى لام الاستغراق. وفي « البخاري»: أنّ مروان بن الحكم قال لِبَوّابِه: « اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئِنْ كان كلّ امرىء فرح بما أتَى وأحَبّ أن يُحمد بما لم يفعل معذّباً لنعذّبَنّ أجْمعون» قال ابن عباس: « وما لكم ولهذه إنّما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودَ، فسألهم عن شيء فأخبروه بغيره فأرَوْه أنّهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه وفرِحوا بما أتوا من كتمانهم» ثم قرأ ابن عباس: {وإذ أخذ الله ميثاقَ الذين أوتوا الكتاب} [آل عمران: 187] حتّى قوله: {لا تَحْسِبَنّ الذين يفرحون بما أتوا} [آل عمران: 188] الآية. والمفازة: مكان الفوز. وهو المكان الذي مَن يحلّه يفوز بالسلامة من العدوّ سمّيت البيداء الواسعة مَفَازة لأنّ المنقطع فيها يفوز بنفسه من أعدائه وطلبة الوتر عنده وكانوا يتطلّبون الإقامة فيها... ولمّا كانت المفازة مجملة بالنسبة للفوز الحاصل فيها بيّن ذلك بقوله: {من العذاب}. وحرف (مِن) معناه البدلية، مثل قوله تعالى: {لا يسمن ولا يغني من جوع} [الغاشية: 7]، أو بمعنى (عن) بتضمين مفازة معنى منجاة...

وقد جاء تركيب الآية على نظم بديع إذ حُذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأوّل لدلالة ما يدلّ عليه وهو مفعول {فلا تحسبنّهم}، والتقدير: لا يحسبنّ الذين يفرحون إلخ أنْفسَهم. وأعيد فعل الحسبان في قوله: {فلا تحسبنهم} [آل عمران: 188] مسنداً إلى المخاطب على طريقة الاعتراض بالفاء وأتي بعده بالمفعول الثاني: وهو {بمفازة من العذاب} [آل عمران: 188] فتنازعه كلا الفعلين. وعلى قراءة الجمهور: {لا تَحسبنّ الذين يفرحون} [آل عمران: 188] بتاء الخطاب يكون خطاباً لغير معيّن ليعمّ كلّ مخاطب، ويكون قوله: {فلا تحسبنهم} اعتراضاً بالفاء أيضاً والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم مع ما في حذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأول، وهو محلّ الفائدة، من تشويق السامع إلى سماع المنهي عن حسبانه.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

المعجبون بأنفسهم:

المرتكبون لقبائح الفعال على نوعين: طائفة تستحي من أفعالها فور انتباهها إِلى قبح ما فعلت، وهي لم تفعل ما فعلت من القبيح إِلاّ لطغيان غرائزها، وهيجان شهواتها، وهذه الطّائفة سهلة النّجاة جداً، لأنها تندم بعد كل قبيح ترتكبه، وتتعرض لوخز ضميرها وعتب وجدانها باستمرار.

بيد أنّ هناك طائفة أخرى ليست فقط لا تشعر بالندم والحياء ممّا ارتكبت من الإِثم، بل هي على درجة من الغرور والإِعجاب بالنفس بحيث تفرح بما فعلت، بل تتبجح به وتتفاخر، بل وفوق ذلك تريد أنْ يمدحها الناس على ما لم تفعله أبداً من صالح الأعمال وحسن الفعال.

إِنّ الآية الحاضرة تقول عن هؤلاء: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) أي لا تحسبن أن هؤلاء يعذرون على موقفهم هذا وينجون من العذاب، إِنّما النجاة لمن يستحيون على الأقل من أعمالهم القبيحة، ويندمون على أنّهم لم يفعلوا شيئاً من الأعمال الصالحة.

إنّ هؤلاء المعجبين بأنفسهم ليسوا فقط ضلّوا طريق النجاة وحرّموا من الخلاص، بل (ولهم عذاب أليم) ينتظرهم.

ويمكن أن نستفيد من هذه الآية أن ابتهاج الإِنسان بما وفق لفعله وإتيانه من صالح الإعمال ليس مذموماً (إِذا كان ذلك لا يتجاوز حد الاعتدال، ولم يكن سبباً للغرور والعجب)، وهكذا الحال في رغبة الإنسان في التشجيع والإِجلال على الأفعال الحسنة إِذا كان كذلك في حدود الاعتدال، ولم يكن الإِتيان بتلك الأعمال الصالحة بدافع الحصول على ذلك، لأن كل ذلك من غريزة الإِنسان ومقتضى فطرته. ولكن أولياء الله ومن هم في المستويات العليا من الإِيمان بعيدون حتى من مثل هذا الابتهاج المباح وحبّ التقدير الغير المذموم.

إِنّهم يرون أعمالهم دائماً دون المستوى المطلوب، ويشعرون أبداً بالتقصير تجاه ربّهم العظيم، وبالتفريط في جنبه سبحانه وتعالى.

على أنّه ينبغي أن لا نتصور أنّ الآية الحاضرة مورد البحث تختص بأهل النفاق في صدر الإِسلام أو من شاكلهم في كل عصر وزمان وفي جميع الظروف والمجتمعات المختلفة، ممن يفرحون ويبتهجون بأعمالهم القبيحة أو يحركون الآخرين ليحمدوهم على ما لم يفعلوه بالقلم أو اللسان.

إِنّ مثل هؤلاء مضافاً إِلى العذاب الأليم في الآخرة، سيصيبهم في هذه الحياة غضب الناس وسخطهم، وسيؤول أمرهم إِلى الانفصال عن الآخرين وإِلى غير ذلك من العواقب السيئة.