الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (188)

قوله : ( لاَ يَحْسِبَنَّ الذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا ) الآية [ 188 ] .

من قرأ بالتاء جعله خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم و( الذِينَ ) مفعول أول ( فَلاَ تَحْسِبَنَّهُمْ ) مكرر للتأكيد و( بِمَفَازَةٍ ) المفعول الثاني لحسب الأول ، وحسب الثاني مع المصدر للتأكيد ، ولطول القصة . وقيل : إنه ليس بتأكيد وأن ( بِمَفَازَةٍ ) مفعول حسب الثاني محذوف لعلم السامع كما تقول في الكلام ظننت زيداً ذاهباً وظننت عمراً ، يريد ذاهباً ، ثم تحذف لدلالة الأول عليه كما قال : ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُّرْضُوهُ )( {[11405]} ) فحذف لدلالة الكلام على المحذوف .

ومن قرأ بالياء فقوله ( فَلاَ تَحْسِبَنَّهُمْ ) للتأكيد ، والهاء والميم مفعول أول( {[11406]} ) : و( بِمَفَازَةٍ ) الثاني كأنه قال : لا يحسبن الكافرون أنفسهم بمنجاة من العذاب( {[11407]} ) .

ومن ضم الباء( {[11408]} ) أراد الجميع ، وحسب وأخواتها تتعدى إلى الفاعل نفسه . ولم يقرأ أحد الأول بالتاء والثاني بالياء مكرراً للتأكيد . أجاز أبو إسحاق( {[11409]} ) : لا تظن أخاك إذا أتاك بخبر ، فلا تظنه صادقاً تعيد الفاعل للتأكيد( {[11410]} ) . ونزلت الآية في قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في رجال تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وفرحوا لمقعدهم خلاف رسول الله ، ثم إذا قدم رسول الله –صلى الله عليه وسلم ]( {[11411]} ) أقبلوا( {[11412]} ) يعتذرون إليه ، ويحلفون أنهم لا يتخلفون عنه بعد ذلك ، ( وَّيُحِبُّونَ أَنْ يُّحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا )( {[11413]} ) .

وقال مروان( {[11414]} ) لأبي سعيد الخدري( {[11415]} ) رضي الله عنه وقرأ هذه الآية : يا أبا سعيد إنا لنحب أن نحمد بما لم نفعل ، ونفرح ما آتينا( {[11416]} ) . فقال أبو سعيد : إن ذلك ليس كذلك ، إنما ذلك أن أناساً من المنافقين كانوا يتخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا رجع على ما يحب حلفوا له ألا يتخلفوا عنه بعد ذلك ، وأحبوا أن يحمدوا على هذا ، وإن رجع النبي صلى الله عليه وسلم على ما يكره ، فرحوا بتخلفهم عنه ، وقاله زيد بن ثابت( {[11417]} ) ، وروى مثله مالك عن نافع . قال نافع( {[11418]} ) : نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا واعتذروا( {[11419]} ) .

فقال ابن زيد : هؤلاء المنافقون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : لو خرجت لخرجنا معك ، فإذا خرج تخلفوا ورأوا أنهم قد احتالوا حيلة ، وفرحوا بفعلهم ذلك( {[11420]} ) .

وقال ابن جبير : نزلت في أحبار اليهود يفرحون بما جاءهم من الدنيا من الرشا على إضلال الناس ، ويحبون أن يقول لهم لناس عُلماء ، وليسوا بعلماء( {[11421]} ) .

وقال الضحاك : نزلت في قوم من اليهود فرحوا باجتماع كلمتهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ونحن أهل الصلاة والصيام ، فأحبوا أن يحمدوا بذلك وليسوا بأهل له( {[11422]} ) .

وقال السدي : كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ففرحوا بذلك وقالوا : نحن على دين إبراهيم ، ونحن أهل الصلاة والزكاة ، وهم ليسوا كذلك ، فأحبوا أن يزكوا أنفسهم بما لم يفعلوا( {[11423]} ) .

وقال ابن عباس رضي الله عنه : هم أهل الكتاب حرفوه( {[11424]} ) ، وحكموا بمال سفيه وفرحوا بذلك وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا( {[11425]} ) .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً : أنها نزلت في قوم من اليهود سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه ، وأخبروه بغيره ففرحوا بكتمانهم ، وطلبوا المحمدة على ما أخبروه به من الكذب فقال ( وَّيُحِبُّونَ أَن يُّحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا )( {[11426]} ) وقال قتادة : نزلت في يهود ، حين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فزعموا أنهم متبعوه وأخفوا الضلالة ، ففعلوا ذلك ليحمدهم الله على إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويحمدهم النبي صلى الله عليه وسلم( {[11427]} ) على ذلك فأنزل الله الآية( {[11428]} ) .


[11405]:- التوبة آية 62.
[11406]:- (ج): الأول.
[11407]:- قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وضم الباء، وقرأ الباقون بالتاء وفتح الباء. انظر: إعراب النحاس 1/384، وحجة القراءات 186، والكشف 1/371.
[11408]:- (أ) (ج) (د): الياء وهو خطأ والتصحيح من الكشف 1/372.
[11409]:- هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري المعروف بالزجاج وقد تقدم.
[11410]:- انظر: معاني الزجاج 1/494.
[11411]:- ساقط من (أ) (ج).
[11412]:- (أ): قبلوا.
[11413]:- انظر: صحيح البخاري في كتاب التفسير 5/174، وفتح الباري 8/233.
[11414]:- هو مروان بن الحكم بن أبي العاص توفي 65 هـ خليفة أموي وَلِيَ المدينة، انظر: أسد الغابة 4/368 والكامل لابن الأثير 4/74.
[11415]:- في رواية البخاري أن السؤال موجه لابن عباس وليس لأبي سعيد ولعله سهو من المؤلف. انظر: صحيح البخاري 5/172 وجامع البيان 4/207، وفتح الباري 8/234 والدر المنثور 2/403.
[11416]:- كذا في كل النسخ ولعلها "أوتينا".
[11417]:- هو زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي توفي 45 هـ كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمينه على الوحي، عرض القرآن على النبي وعرض عليه جمع من الصحابة والتابعين. انظر: الجرح والتعديل 1/2/558.
[11418]:- انظر: جامع البيان 4/205-206 والدر المنثور 2/404-405.
[11419]:- انظر: المصدر السابق.
[11420]:- انظر: المصدر السابق.
[11421]:- انظر: المصدر السابق.
[11422]:- انظر: جامع البيان 4/205-206 والدر المنثور 2/404-405.
[11423]:- انظر: المصدر السابق.
[11424]:- (أ): هم حروة.
[11425]:- انظر: جامع البيان 4/206.
[11426]:- انظر: جامع البيان 4/207 والدر المنثور 2/403.
[11427]:- ساقط من (ج).
[11428]:- انظر: جامع البيان 4/208 والدر المنثور 2/405.