الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (188)

أخرج البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعين . فقال ابن عباس ما لكم ولهذه الآية ؟ ! إنما أنزلت هذه في أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس . . . . . . } ( آل عمران الآية 187 ) الآية وتلا { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } الآية فقال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه .

وأخرج البخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري . أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو تخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فنزلت { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا . . . } الآية .

وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم أن رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان وهو أمير بالمدينة فقال مروان : يا رافع في أي شيء نزلت هذه الآية { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } ؟ قال رافع : أنزلت في ناس من المنافقين ، كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم اعتذروا وقالوا : ما حبسنا عنكم إلا الشغل ، فلوددنا أنا كنا معكم ، فأنزل الله فيهم هذه الآية ، فكأن مروان أنكر ذلك ، فجزع رافع من ذلك فقال لزيد ين ثابت : أنشدك بالله هل تعلم ما أقول ؟ قال : نعم . فلما خرجا من عند مروان قال له زيد : ألا تحمدني شهدت لك قال : أحمدك أن تشهد بالحق قال : نعم . قد حمد الله على الحق أهله .

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : هؤلاء المنافقون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم لو قد خرجت لخرجنا معك ، فإذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم تخلفوا وكذبوا ، ويفرحون بذلك ، ويرون أنها حيلة احتالوا بها .

وأخرج ابن إسحق وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية قال : يعني فنحاص ، وأشيع ، وأشباههما من الأحبار الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } أن يقول لهم الناس علماء وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى ولا خير ، ويحبون أن يقول لهم الناس قد فعلوا .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال : هم أهل الكتاب ، أنزل الله عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، وفرحوا بذلك ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فرحوا أنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل الله إليه ، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله ، ويصومون ، ويصلون ، ويطيعون الله ، فقال الله لمحمد { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكفروا بالله ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصوم .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك في الآية قال : أي اليهود كتب بعضهم إلى بعض أن محمدا ليس بنبي ، فأجمعوا كلمتكم ، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم ، ففعلوا ففرحوا بذلك ، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .

وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال : كتموا اسم محمد ففرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه ، وكانوا يزكون أنفسهم فيقولون : نحن أهل الصيام ، وأهل الصلاة ، وأهل الزكاة ، ونحن على دين إبراهيم . فأنزل الله فيهم { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } من كتمان محمد { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } أحبوا أن تحمدهم العرب بما يزكون به أنفسهم وليسوا كذلك .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } قال : بكتمانهم محمدا { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } قال : هو قولهم نحن على دين إبراهيم .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : يهود فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب ، وحمدهم إياهم عليه . ولا تملك يهود ذلك ولن تفعله .

وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في الآية قال : هم اليهود يفرحون بما آتى الله إبراهيم .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن يهود خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به ، وأنهم متابعوه وهم متمسكون بضلالتهم ، وأرادوا أن يحمدهم النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يفعلوا . فأنزل الله { ولا تحسبن الذين يفرحون . . . } الآية .

وأخرج عبد الزراق وابن جرير من وجه آخر عن قتادة في الآية قال : إن أهل خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا : إنا على رأيكم ، وإنا لكم ردء . فأكذبهم الله .

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : إن اليهود من أهل خيبر قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : قد قبلنا الدين ورضينا به ، فأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا .

وأخرج مالك وابن سعد والبيهقي في الدلائل عن محمد بن ثابت " أن ثابت بن قيس قال : يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال : لم . . . ؟ قال : نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل ، وأجدني أحب الحمد . ونهانا عن الخيلاء ، وأجدني أحب الجمال . ونهانا أن نرفع صوتنا فوق صوتك ، وأنا رجل جهير الصوت . فقال : يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة . فعاش حميدا ، وقتل شهيدا ، يوم مسليمة الكذاب " .

وأخرج الطبراني عن محمد بن ثابت قال : حدثني ثابت بن قيس بن شماس قال " قلت : يا رسول الله لقد خشيت فذكره " .

وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : كان في بني إسرائيل رجال عباد فقهاء ، فأدخلتهم الملوك فرخصوا لهم وأعطوهم ، فخرجوا وهم فرحون بما أخذت الملوك من قولهم وما أعطوا . فأنزل الله { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } .

وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن إبراهيم في قوله { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } قال : ناس من اليهود جهزوا جيشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأخرج ابن أبي حاتم عن الأحنف بن قيس . أن رجلا قال له : ألا تميل فنحملك على ظهر قال : لعلك من العراضين قال : وما العراضون ؟ قال : الذين { يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } إذا عرض لك الحق فاقصد له واله عما سواه .

وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن يعمر " فلا يحسبنهم " يعني أنفسهم .

وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قرأ " فلا يحسبنهم " على الجماع بكسر السين ورفع الباء .

وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله { بمفازة } قال بمنجاة ، وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله .