أشارت السورة إلى أمر أغضب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض زوجاته ، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفوس مما أحله الله له ، وحذرت زوجاته مغبة ما أقدمن عليه ، ثم انتقلت السورة إلى أمر المؤمنين أن يقوا أنفسهم وأهليهم نارا وقودها الناس والحجارة ، وبينت أنه لا يقبل من الكافرين اعتذارا يوم القيامة . ودعت المؤمنين إلى التوبة النصوح ، والرسول صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الكفار والمنافقين ، والغلظة عليهم ، وختمت بضرب الأمثلة لبيان : أن صلاح الأزواج لا يرد عذاب الله عن زوجاتهم إن كن منحرفات ، وإن فساد الأزواج لا يضر الزوجات إن كن صالحات مستقيمات ، فكل نفس بما كسبت رهينة .
1- يا أيها النبي لِمَ تمنع نفسك عمَّا أحل الله لك ؟ ! تريد إرضاء زوجاتك ، والله بالغ المغفرة واسع الرحمة .
{ 1-5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }
هذا عتاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، حين حرم على نفسه سريته " مارية " أو شرب العسل ، مراعاة لخاطر بعض زوجاته ، في قصة معروفة ، فأنزل الله [ تعالى ] هذه الآيات { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } أي : يا أيها الذي أنعم الله عليه بالنبوة والوحي والرسالة { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } من الطيبات ، التي أنعم الله بها عليك وعلى أمتك .
{ تَبْتَغِيَ } بذلك التحريم { مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } هذا تصريح بأن الله قد غفر لرسوله ، ورفع عنه اللوم ، ورحمه ، وصار ذلك التحريم الصادر منه ، سببًا لشرع حكم عام لجميع الأمة ، فقال تعالى حاكما حكما عاما في جميع الأيمان :
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَآ أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبيّ المحرّم على نفسه ما أحلّ الله له ، يبتغي بذلك مرضاه أزواجه ، لم تحرّم على نفسك الحلال الذي أحله الله لك ، تلتمس بتحريمك ذلك مرضاة أزواجك .
واختلف أهل العلم في الحلال الذي كان الله جلّ ثناؤه أحله لرسوله ، فحرّمه على نفسه ابتغاء مرضاة أزواجه ، فقال بعضهم : كان ذلك مارية مملوكته القبطية ، حرّمها على نفسه بيمين أنه لا يقربها طالبا بذلك رضا حفصة بنت عمر زوجته ، لأنها كانت غارت بأن خلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في يومها وفي حجرتها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثني ابن أبي مريم ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : ثني زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أمّ إبراهيم في بيت بعض نسائه قال : فقالت : أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي ؟ ، فجعلها عليه حراما فقالت : يا رسول الله كيف تحرّم عليك الحلال ؟ ، فحلف لها بالله لا يصيبها ، فأنزل الله عزّ وجلّ : يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ قال : زيد : فقوله أنت عليّ حرام لغو .
حدثني يعقوب ، قال : ثني ابن علية ، قال : حدثنا داود ابن أبي هند ، عن الشعبيّ ، قال : قال مسروق إن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم جاريته ، وآلى منها ، فجعل الحلال حراما ، وقال في اليمين : قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمانِكُمْ .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرّم ، فعوتب في التحريم ، وأمر بالكفارة في اليمين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، قال لها : أنت عليّ حرام ، ووالله لا أطؤك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهَ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ قال : كان الشعبي يقول : حرّمها عليه ، وحلف لا يقربها ، فعوتب في التحريم ، وجاءت الكفارة في اليمين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وعامر الشعبيّ ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم جاريته . قال الشعبيّ : حلف بيمين مع التحريم ، فعاتبه الله في التحريم ، وجعل له كفارة اليمين .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله يا أيّها النّبِيّ لِمَ تحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ قال : إنه وَجَدَتِ امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جاريته في بيتها ، فقالت : يا رسول الله أنى كان هذا الأمر ، وكنتُ أهونهنّ عليك ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اسْكُتي لا تَذْكُرِي هَذَا لأَحَدٍ ، هِيَ عَليّ حَرَامٌ إنْ قَرُبْتُها بَعْدَ هَذَا أبَدا » ، فقالت : يا رسول الله وكيف تحرم عليك ما أحلّ الله لك حين تقول : هي عليّ حرام أبدا ؟ فقال : وَاللّهِ لا آتيها أبَدا ، فقال الله : يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ . . . الاَية ، قد غفرت هذا لك ، وقولك والله قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمانِكُمْ وَاللّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ العَلِيمٌ الحَكِيمُ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتاة ، فغشيها ، فبصُرت به حفصة ، وكان اليوم يومَ عائشة ، وكانتا متظاهرتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اكْتُمي عَليّ وَلا تَذْكُرِي لِعائِشَةَ ما رأيْتِ » ، فذكرت حفصة لعائشة ، فغضبت عائشة . فلم تزل بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها أبدا ، فأنزل الله هذه الاَية ، وأمره أن يكفر يمينه ، ويأتي جاريته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عامر ، في قول الله يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ في جارية أتاها ، فأطلعت عليه حفصة ، فقال : هي عليّ حرام ، فاكتمي ذلك ، ولا تخبري به أحدا فذكرت ذلك .
وقال آخرون : بل حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ، فجعل الله عزّ وجلّ تحريمه إياها بمنزلة اليمين ، فأوجب فيها من الكفارة مثل ما أوجب في اليمين إذا حنث فيها صاحبها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمَانِكُمْ أمر الله النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا حرموا شيئا مما أحلّ الله لهم أن يكفروا أيمانهم بإطعام عشر مساكين أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، وليس يدخل ذلك في طلاق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ . . . إلى قوله وَهُوَ العَلِيمُ الْحَكِيمُ قال : كانت حفصة وعائشة متحابتين وكانتا زوجتي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذهبت حفصة إلى أبيها ، فتحدثت عنده ، فأرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جاريته ، فظلت معه في بيت حفصة ، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة ، فرجعت حفصة ، فوجدتهما في بيتها ، فجعلت تنتظر خروجها ، وغارت غيره شديدة ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ، ودخلت حفصة فقالت : قد رأيت من كان عندك ، والله لقد سُئْتَنِي ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «واللّهِ لأُرْضِيَنّكِ فإنّي مُسِرّ إلَيْكِ سِرا فاحْفَظِيهِ » قالت : ما هو ؟ قال : «إنّي أُشْهِدُكِ أنّ سُرّيّتِي هَذِهِ عَليّ حَرَامٌ رِضا لكِ » ، وكانت حفصة وعائشة تظاهران على نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فانطلقت حفصة إلى عائشة ، فأسرّت إليها أن أبشري إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حرّم عليه فتاته ، فلما أخبرت بسرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أظهر الله عزّ وجلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله على رسوله لما تظاهرتا عليه يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ . . . إلى قوله وَهُوَ العَلِيمُ الْحَكِيمُ .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا هشام الدستوائي ، قال : كتب إليّ يحيى يحدّث عن يعلى بن حكيم ، عن سعيد بن جُبير ، أن ابن عباس كان يقول : في الحرام يمين تكفرها . وقال ابن عباس : لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ يعني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم جاريته ، فقال الله وجلّ ثناؤه : يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ . . . إلى قوله قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمَانِكُمْ فكفر يمينه ، فصير الحرام يمينا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر ، عن أبيه ، قال : أنبأنا أبو عثمان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل بيت حفصة ، فإذا هي ليست ثَمّ ، فجاءته فتاته ، وألقى عليها سترا ، فجاءت حفصة فقعدت على الباب حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته ، فقالت : والله لقد سئتني ، جامعتها في بيتي ، أو كما قالت قال : وحرّمها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو كما قال .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادةيا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ماأحَلّ اللّهُ لَكَ . . . الاَية ، قال : كان حرم فتاته القبطية أمّ ولده إبراهيم يقال لها مارية في يوم حفصة ، وأسرّ ذلك إليها ، فأطلعت عليه عائشة ، وكانتا تظاهران على نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأحلّ الله له ما حرّم على نفسه ، فأُمر أن يكفر عن يمينه ، وعوتب في ذلك ، فقال : قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أيمَانِكُمْ وَاللّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ العَلِيمُ الْحَكِيمُ قال قتادة : وكان الحسن يقول حرّمها عليه ، فجعل الله فيها كفارة يمين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّمها يعني جاريته ، فكانت يمينا .
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : من المرأتان ؟ قال : عائشة ، وحفصة . وكان بدء الحديث في شأن أمّ إبراهيم القبطية ، أصابها النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في يومها ، فوجدته حفصة ، فقالت : يا نبيّ الله لقد جئت إليّ شيئا ما جئتَ إلى أحد من أزواجك بمثله في يومي وفي دوري ، وعلى فراشي قال : «ألا تَرْضَيْنَ أنْ أُحَرّمَها فَلا أقْرَبَهَا ؟ » قالت : بلى ، فحرّمها ، وقال : «لا تَذْكُرِي ذلكَ لأَحَدٍ » ، فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عزّ وجلّ عليه ، فأنزل الله : يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَجكَ . . . الاَيات كلها ، فبلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كفر يمينه ، وأصاب جاريته .
وقال آخرون : كان ذلك شرابا يشربه ، كان يعجبه ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد ، قال : نزلت هذه الاَية في شراب يا أيّها النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أزْوَجكَ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو قَطن البغدادي عمرو بن الهيثم ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن عبد الله بن شدّاد مثله .
قال : ثنا أبو قطن ، قال : حدثنا يزيد بن إبراهيم ، عن ابن أبي مليكة ، قال : نزلت في شراب .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : كان الذي حرّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحله له ، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته ، وجائز أن يكون كان شرابا من الأشربة ، وجائز أن يكون كان غير ذلك ، غير أنه أيّ ذلك كان ، فإنه كان تحريم شيء كان له حلالاً ، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله ، وبين له تحلّة يمينه كان حلف بها مع تحريمه ما حرّم على نفسه .
فإن قائل قائل : وما برهانك على أنه صلى الله عليه وسلم كان حلف مع تحريمه ما حرم ، فقد علمت قول من قال : لم يكن من النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك غير التحريم ، وأن التحريم هو اليمين ؟ قيل : البرهان على ذلك واضح ، وهو أنه لا يعقل في لغة عربية ولا عجمية أن قول القائل لجاريته ، أو لطعام أو شراب ، هذا عليّ حرام يمين ، فإذا كان ذلك غير معقول ، فمعلوم أن اليمين غير قول القائل للشيء الحلال له : هو عليّ حرام . وإذا كان ذلك كذلك صحّ ما قلنا ، وفسد ما خالفه ، وبعد ، فجائز أن يكون تحريم النبيّ صلى الله عليه وسلم ما حرّم على نفسه من الحلال الذي كان الله تعالى ذكره ، أحله له بيمين ، فيكون قوله لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ معنا : لم تحلف على الشيء الذي قد أحله الله أن لا تقربه ، فتحرّمه على نفسك باليمين .
وإنما قلنا : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّم ذلك ، وحلف مع تحريمه ، كما :
حدثني الحسن بن قزعة ، قال : حدثنا مسلمة بن علقمة ، عن داود ابن أبي هند ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم ، فأُمِرَ في الإيلاء بكفارة ، وقيل له في التحريم لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ لَكَ .
وقوله : وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره : والله غفور يا محمد لذنوب التائبين من عباده من ذنوبهم ، وقد غفر لك تحريمك على نفسك ما أحله الله لك ، رحيم بعباده أن يعاقبهم على ما قد تابوا منه من الذنوب بعد التوبة .
روي في الحديث عن زيد بن أسلم والشعبي وغيرهما ما معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أهدى المقوقس مارية القبطية اتخذها سرية{[11179]} ، فلما كان في بعض الأيام وهو يوم حفصة بنت عمر ، وقيل بل كان في يوم عائشة ، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت حفصة فوجدها قد مرت إلى زيارة أبيها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاريته فقال معها{[11180]} ، فجاءت حفصة فوجدتهما فأقامت خارج البيت حتى أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية وذهبت ، فدخلت حفصة غيرى متغيرة اللون فقالت : يا رسول الله أما كان في نسائك أهون عليك مني ؟ أفي بيتي وعلى فراشي ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مترضياً لها : أيرضيك أن أحرمها قالت : نعم ، فقال : إني قد حرمتها . قال ابن عباس ، وقال مع ذلك والله لا أطؤها أبداً ، ثم قال لها : لا تخبري بهذا أحداً ، فمن قال إن ذلك كان في يوم عائشة ، قال استكتمها خوفاً من غضب عائشة وحسن عشرتها ، ومن قال : كان في يوم حفصة ، قال استكتمتها لنفس الأمر ، ثم إن حفصة رضي الله عنها قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة ، وأخبرتها لتسرها بالأمر ، ولم ترض إفشاءه إليها حرجاً واستكتمتها ، فأوحى الله بذلك إلى نبيه ، ونزلت الآية{[11181]} .
وروي عن عكرمة أن هذا نزل بسبب شريك التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم{[11182]} ، وذكر النقاش نحوه عن ابن عباس ، وروى عبد بن عمير عن عائشة أن هذا التحريم المذكور في الآية ، إنما هو بسبب شراب العسل الذي شربه صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش ، فتمالأت عائشة وحفصة وسودة على أن تقول له : من دنا منها ، أكلتَ مغافير ، والمغافير صمغ العرفط ، وهو حلو ثقيل الريح ، ففعلن ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ولكني شربت عسلاً » ، فقلن : جرست نحله العرفط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أشربه أبداً » وكان يكره أن توجد منه رائحة ثقيلة ، فدخل بعد ذلك على زينب ، فقالت : ألا نسقيك من ذلك العسل ؟ قال : «لا حاجة لي به » ، قالت عائشة : تقول سودة حين بلغها امتناعه والله لقد حرمتاه . قلت لها : اسكتي{[11183]} .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول إن الآية نزلت بسبب مارية أصح وأوضح ، وعليه تفقه الناس في الآية ، ومتى حرم رجل مالاً أو جارية دون أن يعتق و يشترط عتقاً أو نحو ذلك ، فليس تحريمه بشيء ، واختلف العلماء إذ حرم زوجته بأن يقول لها : أنت علي حرام ، والحلال علي حرام ، ولا يستثني زوجته ، فقال مالك رحمه الله : هي ثلاث في المدخول بها ، وينوي في غير المدخول بها فهو ما أراد من الواحدة أو الاثنين أو الثلاث ، وقال عبد الملك بن الماجشون : هي ثلاث في الوجهين ولا ينوي في شيء .
وروى ابن خويز منداد عن مالك : أنها واحدة بائنة في المدخول بها وغير المدخول بها ، وروي عن عبد العزيز بن الماجشون ، أنه كان يحملها على واحدة رجعية ، وقال غير واحد من أهل العلم : التحريم لا شيء ، وإنما عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيه ودله على تحلة اليمين المبينة في المائدة لقوله : «قد حرمتها والله لا أطؤها أبداً » ، وقال مسروق : ما أبالي أحرمتها أو قصعة من ثريد . وكذلك قال الشعبي ليس التحريم بشيء ، قال تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام }{[11184]} [ النحل : 116 ] وقال : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم }{[11185]} [ المائدة : 87 ] ، ومحرم زوجته مسم حراماً ما جعله حلالاً ، ومحرم ما أحل الله له ، وقال أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة وأبو ثور والأوزاعي والحسن وجماعة : «التحريم » يلزم فيه تكفير يمين بالله ، والتحلة إنما هي من جهة التحريم ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والله لا أطؤها » ، وقال أبو قلابة : التحريم ظهار ، وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون : هو ما أراد من الطلاق ، فإن لم يرد بذلك طلاقاً فهو لا شيء . وقال : هو ما أراد من الطلاق ، فإن لم يرد طلاقاً فهو يمين ، فدعا الله تعالى نبيه باسم النبوة الذي هو دال على شرف منزلته وعلى فضيلته التي خصه بها دون البشر ، وقرره كالمعاتب على سبب تحريمه على نفسه ما أحل الله له ، وقوله : { تبتغي } جملة في موضع الحال من الضمير الذي في { تحرم } ، و «المرضاة » مصدر كالرضى ، ثم غفر له تعالى ما عاتبه فيه ورحمه .