{ 32 - 33 } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }
هذا من جملة مقترحات الكفار الذي توحيه إليهم أنفسهم فقالوا : { لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } أي : كما أنزلت الكتب قبله ، وأي محذور من نزوله على هذا الوجه ؟ بل نزوله على هذا الوجه أكمل وأحسن ، ولهذا قال : { كَذَلِكَ } أنزلناه متفرقا { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد طمأنينة وثباتا وخصوصا عند ورود أسباب القلق فإن نزول القرآن عند حدوث السبب يكون له موقع عظيم وتثبيت كثير أبلغ مما لو كان نازلا قبل ذلك ثم تذكره عند حلول سببه .
{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } أي : مهلناه ودرجناك فيه تدريجا . وهذا كله يدل على اعتناء الله بكتابه القرآن وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث جعل إنزال كتابه جاريا على أحوال الرسول ومصالحه الدينية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا بالله لَوْلا نَزّلَ عَلَيْهِ القُرآنُ يقول : هلا نزّل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة ؟ ، قال الله : " كَذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ " تنزيله عليك الاَية بعد الاَية ، والشيء بعد الشيء ، لنثبت به فؤادك نزلناه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزّلَ عَلَيْهِ القُرآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْناه تَرْتِيلاً قال : كان الله ينزل عليه الاَية ، فإذا علمها نبيّ الله نزلت آية أخرى ، ليعلمه الكتاب عن ظهر قلب ، ويثبت به فؤاده .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزّلَ عَلَيْهِ القُرآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كما أنزلت التوراة على موسى ، قال : كذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ قال : كان القرآن ينزّل عليه جوابا لقولهم : ليعلم محمد أن الله يجيب القوم بما يقولون بالحقّ ، ويعني بقوله : لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ لنصحح به عزيمة قلبك ويقين نفسك ، ونشجعك به .
وقوله وَرَتّلْناهُ تَرْتِيلاً يقول : وشيئا بعد شيء علمناكَهُ حتى تحفظنه . والترتيل في القراءة : الترسل والتثبت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : وَرَتّلْناهُ تَرتِيلاً قال : نزل متفرّقا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : وَرَتّلْناهُ تَرْتِيلاً قال : كان ينزّل آية وآيتين وآيات جوابا لهم إذا سألوا عن شيء أنزله الله جوابا لهم ، وردّا عن النبيّ فيما يتكلمون به . وكان بين أوّله وآخره نحو من عشرين سنة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : وَرَتّلْناهُ تَرْتيلاً قال : كان بين ما أنزل القرآن إلى آخره أنزل عليه لأربعين ، ومات النبيّ صلى الله عليه وسلم لثنتين أو لثلاث وستين .
وقال آخرون : معنى الترتيل : التبيين والتفسير . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَرَتّلْناهُ تَرْتيلاً قال : فسرناه تفسيرا ، وقرأ : وَرَتّلِ القُرآنَ تَرْتِيلاً .
{ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن } أي أنزل عليه ك " خبّر " بمعنى " أخبر " لئلا يناقض قوله : { جملة واحدة } دفعة واحدة كالكتب الثلاثة ، وهو اعتراض لا طائل تحته لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع أن للتفريق فوائد منها ما أشار إليه بقوله : { كذلك لنثبت به فؤادك } أي كذلك أنزلناه مفرقا لنقوي بتفريقه فؤادك على حفظه وفهمه ، لأن حاله يخالف حال موسى وداود وعيسى حيث كان عليه الصلاة والسلام أميا وكانوا يكتبون ، فلو ألقي عليه جملة لعيل بحفظه ، ولعله لم يستتب له ، فإن التلقف لا يتأتى إلا شيئا فشيئا ، ولأن نزوله بحسب الوقائع يوجب مزيد بصيرة وغوص في المعنى ، ولأنه إذا نزل منجما وهو يتحدى بكل نجم فيعجزون عن معارضته زاد ذلك قوة قلبه ، ولأنه إذا نزل به جبريل حالا بعد حال يثبت به فؤاده ، ومنها معرفة الناسخ والمنسوخ ، ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية ، فإنه يعين على البلاغة ، و " كذلك " صفة مصدر محذوف والإشارة إلى إنزاله مفرقا فإنه مدلول عليه بقوله { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } ويحتمل أن يكون من تمام كلام الكفرة ، ولذلك وقف عليه ، فيكون حالا ، والإشارة إلى الكتب السابقة ، واللام على الوجهين متعلق بمحذوف . { ورتلناه ترتيلا } وقرأناه عليك شيئا بعد شيء على تؤدة وتمهل في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفليجها .
روي عن ابن عباس وغيره أن كفار قريش قالوا في بعض معارضتهم لو كان هذا القرآن من عند الله لنزل { جملة } كما نزل التوراة والإنجيل . وقوله { كذلك } يحتمل أن يكون من قول الكفار إشارة إلى التوراة والإنجيل ، [ ويحتمل أن يكون من الكلام المستأنف ]{[8823]} وهو أولى ، ومعناه كما نزل أردناه ، فالإشارة إلى نزوله متفرقاً وجعل الله تعالى السبب في نزوله متفرقاً تثبيت فؤاد محمد عليه السلام وليحفظه ، وقال مكي والرماني : من حيث كان أمياً لا يكتب وليطابق الأسباب المؤقتة فنزل في نيف على عشرين سنة ، وكان غيره من الرسل يكتب فنزل إليه جملة ، وقرأ عبد الله بن مسعود «ليثبت » بالياء ، والترتيل التفريق بين الشيء المتتابع ومنه قولهم ثغر رتل ومنه ترتيل القراءة{[8824]} .
عود إلى معاذيرهم وتعلّلاتهم الفاسدة إذ طعنوا في القرآن بأنه نُزّل منجّماً وقالوا : لو كان من عند الله لنَزل كتاباً جملةً واحدة . وضمير { وقال } ظاهر في أنه عائد إلى المشركين ، وهذه جهالة منهم بنسبة كتب الرسل فإنها لم ينزل شيء منها جملةً واحدة وإنما كانت وحياً مفرّقاً ؛ فالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام في الألواح هي عشر كلمات بمقدار سورة الليل في القرآن ، وما كان الإنجيل إلا أقوالاً ينطق بها عيسى عليه السلام في الملإ ، وكذلك الزبور نَزل قطعاً كثيرة ، فالمشركون نسُوا ذلك أو جهلوا فقالوا : هلاّ نزل القرآن على محمد جملةً واحدة فنعلم أنه رسول الله . وقيل : إن قائل هذا اليهودُ أو النصارى ، فإن صح ذلك فهو بهتان منهم لأنهم يعلمون أنه لم تنزل التوراة والإنجيل والزبور إلا مفرقة . فخوض المفسرين في بيان الفرق بين حالة رسولنا من الأُمية وحالة الرسل الذين أُنزلت عليهم الكتب اشتغال بما لا طائل فيه ، فإن تلك الكتب لم تنزل أسفاراً تامة قط .
و { نُزّل } هنا مرادف أنزل وليس فيه إيذان بما يدل عليه التفعيل من التكثير كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بقرينة قولهم : { جملة واحدة } .
وقد جاء قوله : { كذلك لنثبت به فؤادك } ردّاً على طعنهم ، فهو كلام مستأنف فيه ردّ لما أرادوه من قولهم : { لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدة } وعُدل فيه عن خطابهم إلى خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إعلاماً له بحكمة تنزيله مفرّقاً ، وفي ضمنه امتنان على الرسول بما فيه تثبيت قلبه والتيسيرُ عليه .
وقوله : { كذلك } جواب عن قولهم : { لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدةً } إشارة إلى الإنزال المفهوم من « لو نُزّل عليه القرآن » وهو حالة إنزال القرآن منجَّماً ، أي أنزلناه كذلك الإنزال ، أي المنجّم ، أي كذلك الإنزال الذي جهلوا حكمته ، فاسم الإشارة في محلّ نصب على أنه نائب عن مفعول مطلق جاء بدلاً عن الفعل . فالتقدير : أنزلناه إنزالاً كذلك الإنزال المنجَّم . فموقع جملة { كذلك } موقع الاستئناف في المحاورة . واللام في { لنثبت } متعلقة بالفعل المقدّر الذي دلّ عليه { كذَلك } . والتثبيت : جعل الشيء ثابتاً . والثبات : استقرار الشيء في مكانه غير متزلزل قال تعالى : { كشجرة طيّبة أصلها ثابت } [ إبراهيم : 24 ] . ويستعار الثبات لليقين وللاطمئنان بحصول الخير لصاحبه قال تعالى : { لكان خيراً لهم وأشدّ تثبيتاً } [ النساء : 66 ] ، وهي استعارات شائعة مبنية على تشبيه حصول الاحتمالات في النفس باضطراب الشيء في المكان تشبيه معقول بمحسوس . والفؤاد : هنا العقل . وتثبيته بذلك الإنزال جعله ثابتاً في ألفاظه ومعانيه لا يضطرب فيه .
وجاء في بيان حكمة إنزال القرآن منجّماً بكلمةٍ جامعة وهي { لنثبت به فؤادك } لأن تثبيت الفؤاد يقتضي كل مَا به خير للنفس ، فمنه ما قاله الزمخشري : الحكمة في تفريقه أن نُقوي بتفريقه فؤادك حتى تَعِيَه وتحفظه ، لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم يُلقى إليه إذ ألقي إليه شيئاً بعد شيء وجُزءاً عقبَ جزء ، وما قاله أيضاً : « أنه كان ينزل على حسب الدواعي والحوادث وجوابات السائلين » اه ، أي فيكونون أوعى لما ينزل فيه لأنهم بحاجة إلى علمه ، فيكثر العمل بما فيه وذلك مما يثبّت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ويشرح صدره .
وما قاله بعد ذلك : « إن تنزيله مفرّقاً وتحدّيَهم بأن يأتوا ببعض تلك التفارق كلَّما نزل شيء منها ، أدخلُ في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كلّه جملة » اه .
ومنه ما قاله الجدّ الوزير رحمه الله : إن القرآن لو لم ينزل منجّماً على حسب الحوادث لما ظهر في كثير من آياته مطابقتُها لمقتضى الحال ومناسبتها للمقام وذلك من تمام إعجازها . وقلت : إن نزوله منجّماً أعون لحفَّاظه على فهمه وتدبره .
وقوله : { ورتلناه ترتيلاً } عطف على قوله { كذلك } ، أي أنزلناه منجّماً ورتَّلناه ، والترتيل يوصف به الكلام إذا كان حسن التأليف بيّن الدلالة . واتفقت أقوال أيمة اللّغة على أن هذا الترتيل مأخوذ من قولهم : ثَغر مرتَّل ورَتِل ، إذا كانت أسنانه مفلّجة تشبه نَور الأقحوان . ولم يوردوا شاهداً عليه من كلام العرب .
والترتيل يجوز أن يكون حالة لنزول القرآن ، أي نزّلناه مفرّقاً منسّقاً في ألفاظه ومعانيه غير متراكم فهو مفرّق في الزمان فإذا كمُل إنزال سورة جاءت آياتها مرتبة متناسبة كأنها أُنزلت جملة واحدة ، ومفرّقٌ في التأليف بأنه مفصّل واضح . وفي هذا إشارة إلى أن ذلك من دلائل أنه من عند الله لأن شأن كلام الناس إذا فُرّق تأليفه على أزمنة متباعدة أن يعتوره التفكك وعدم تشابه الجمل .
ويجوز أن يراد ب { رتّلناه } أمرنا بترتيله ، أي بقراءته مرتَّلاً ، أي بتمهُّل بأن لا يعجِّل في قراءته بأن تُبيّن جميع الحروف والحركات بمهل ، وهو المذكور في سورة المزّمّل ( 4 ) في قوله تعالى : { ورتِّل القرآن ترتيلاً } .
و { ترتيلاً } مصدر منصوب على المفعول المطلق قصد به ما في التنكير من معنى التعظيم فصار المصدر مبيّناً لنوع الترتيل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال الذين كفروا لولا نزل} يعني هلاّ نزل {عليه القرءان جملة واحدة} كما جاء به موسى وعيسى يقول: {كذلك لنثبت به فؤادك} يعني ليثبت القرآن في قلبك {ورتلناه ترتيلا}، يعني نرسله ترسلا آيات ثم آيات، ذلك قوله سبحانه: {وقرآناً فَرقْناه لتقرَأه على الناس على مُكْثٍ ونزّلناه تَنْزيلا} [الإسراء:106].
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا بالله لَوْلا نَزّلَ عَلَيْهِ القُرآنُ" يقول: هلا نزّل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن "جُمْلَةً وَاحِدَةً "كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة؟، قال الله: "كَذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ" تنزيله عليك الآية بعد الآية، والشيء بعد الشيء، لنثبت به فؤادك نزلناه. عن ابن عباس "وَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزّلَ عَلَيْهِ القُرآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْناه تَرْتِيلاً" قال: كان الله ينزل عليه الآية، فإذا علمها نبيّ الله نزلت آية أخرى، ليعلمه الكتاب عن ظهر قلب، ويثبت به فؤاده...
ويعني بقوله: "لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ": لنصحح به عزيمة قلبك ويقين نفسك، ونشجعك به.
وقوله: "وَرَتّلْناهُ تَرْتِيلاً" يقول: وشيئا بعد شيء علمناكَهُ حتى تحفظنه. والترتيل في القراءة: الترسل والتثبت...
وقال آخرون: معنى الترتيل: التبيين والتفسير.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم يحتمل قوله تعالى: {لنثبت به فؤادك} وجهين:
أحدهما: أنزلناه متفرقا لنثبته في فؤادك، فتحفظه، وتذكره، لأن حفظ الشيء إذا كان سماعه بالتفاريق، كان حفظه أهون وأيسر من حفظه إذا سمع جملة واحدة وخاصة إذا كان الكلام من أجناس وأنواع.
والثاني: {لنثبت به فؤادك} أي لنثبت بما في القرآن من الحكمة والمعاني فؤادك. ثم يحتمل قوله: {فؤادك} أنه يراد به فؤاد من يستمع إليه، ويسمعه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما لم ينزل جملة واحدة، لأن فيه الناسخ والمنسوخ، وفيه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، وفيه ما هو إنكار لما كان. وفي الجملة المصلحة معتبرة في إنزال القرآن، فإذا كانت المصلحة تقتضي إنزاله متفرقا كيف ينزل جملة واحدة!؟..
فالترتيل: التبيين في تثبت وترسل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي إنما أنزلناه متفرقاً لِيسُهل عليك حِفْظُه؛ فإنه كان أمياً لا يقرأ الكتب، ولأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل عليه السلام بالرسالة إليه في كل وقت وكل حين... وكثرةُ نزوله كانت أوجبَ لسكون قلبه وكمال روحه ودوام أُنْسه، فجبريل كان يأتي في كل وقت بما كان يقتضيه ذلك الوقتُ من الكوائن والأمور الحادثة، وذلك أبلغُ في كونه معجزةً، وأَبعدُ عن التهمة من أن يكون من جهة غيره، أو أن يكون بالاستعانة بمن سواه حاصلاً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{نَزَّلَ} ههنا بمعنى أنزل لا غير، كخبّر بمعنى أخبر، وإلاّ كان متدفعاً. وهذا أيضاً من اعتراضاتهم واقتراحاتهم الدالة على شرادهم عن الحق وتجافيهم عن اتباعه. قالوا: هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة، وما له أنزل على التفاريق. والقائلون: قريش. وقيل: اليهود. وهذا فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته؛ لأنّ أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرّقاً. وقوله: {كذلك} جواب لهم، أي: كذلك أنزل مفرّقاً. والحكمة فيه: أن نقوّي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه؛ لأنّ المتلقن إنما يقوى قبله على حفظ العلم شيئاً بعد شيء، وجزأ عقيب جزء... وأيضاً، فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرّقاً.
فإن قلت: ذلك في« كذلك» يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدّمه، والذي تقدّم هو إنزاله جملة واحدة، فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرّقاً؟ قلت: لأنّ قولهم: لولا أنزل عليه جملة: معناه: لِمَ أنزل مفرّقاً؟ والدليل على فساد هذا الاعتراض: أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، وتحدّوا بسورة واحدة من أصغر السور، فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المحاربة، ثم قالوا: هلا نزل [عليه] جملة واحدة، كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته {وَرَتَّلْنَاهُ} معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك، كأنه قال: كذلك فرّقناه ورتلناه. ومعنى ترتيله: أن قدره آية بعد آية، ووقفه عقيب وقفه.
ويجوز أن يكون المعنى: وأمرنا بترتيل قراءته، وذلك قوله: {وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً} [المزمل: 4] أي اقرأه بترسل وتثبت. ومنه حديث عائشة رضي الله عنها في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم:"لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها" وأصله: الترتيل في الأسنان: وهو تفليجها. يقال: ثغر رتل ومرتل، ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والترتيل: التفريق بين الشيء المتتابع ومنه قولهم ثغر رتل ومنه ترتيل القراءة..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر سبحانه شكايته من هجرانهم للقرآن، وقرر عداوتهم له ونصرته عليهم، أتبع ذلك بما يدل عليه، فقال عطفاً على ما مضى من الأشباه في الشبه، وأظهر موضع الإضمار تنبيهاً على الوصف الذي حملهم على هذا القول: {وقال الذين كفروا} أي غطوا عداوة وحسداً ما تشهد عقولهم بصحته من أن القرآن كلام لإعجازه لهم متفرقاً، فضلاً عن كونه مجتمعاً، وغطوا ما وضح لهم من آثاره الظاهرة الشاهدة بوحدانيته، وغير ذلك من صفاته العلية: {لولا} أي هلا. ولما كانوا لشدة ضعفهم لا يكادون يسمحون بتسمية القرآن تنزيلاً فضلاً عن أن يسندوا إنزاله إلى الله سبحانه وتعالى، بنوا للمفعول في هذه الشبهة التي أوردها قولهم: {نُزِّل عليه} ولما عبروا بصيغة التفعيل المشيرة إلى التدريج والتفريق استجلاباً للسامع لئلا يعرض عنهم، أشاروا إلى أن ذلك غير مراد فقالوا: {القرآن} أي المقتضي اسمه للجمع؛ ثم صرحوا بالمراد بقولهم: {جملة} وأكدوا بقولهم: {واحدة} أي من أوله إلى آخره بمرة، ليتحقق أنه من عند الله، ويزول عنا ما نتوهمه من أنه هو الذي يرتبه قليلاً قليلاً، فتعبيرهم بما يدل على التفريق أبلغ في مرادهم، فإنهم أرغبوا السامع في الإقبال على كلامهم بتوطينه على ما يقارب مراده، ثم أزالوا بالتدريج أتم إزالة، فكان في ذلك من المفاجأة بالروعة والإقناط مما أمّل من المقاربة ما لم يكن في "أنزل "والله أعلم. ولما كان التقدير: وما له ينزل عليه مفرقاً، وكان للتفريق فوائد جليلة، أشار سبحانه إلى عظمتها بقوله معبراً للإشارة إلى ما اشتملت عليه من العظمة بأداة البعد: {كذلك} أي أنزلناه شيئاً فشيئاً على هذا الوجه العظيم الذي أنكروه {لنثبت به فؤادك} بالإغاثة بتردد الرسل بيننا وبينك، وبتمكينك وتمكين أتباعك من تفهم المعاني، وتخفيفاً للأحكام، في تحميلها أهل الإسلام، بالتدريج على حسب المصالح، ولتنافي الحكمة في الناسخ والمنسوخ، لما رتب فيه من المصالح، وتسهيلاً للحفظ لا سيما والأمة أمية لا تقرأ ولا تكتب،..
ولما كان إنزاله مفرقاً أحسن، أكده بقوله عطفاً على الفعل الذي تعلق به "كذلك" {ورتلناه ترتيلاً} أي فرقناه في الإنزال إليك تفريقاً في نيف وعشرين سنة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يمضي في استعراض مقولات المجرمين الذين يقفون في وجه دعوة القرآن، والرد عليها: (وقال الذين كفروا: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة. كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا).. ولقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، وينشئ مجتمعا، ويقيم نظاما. والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع. والنفس البشرية لا تتحول تحولا كاملا شاملا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد. إنما تتأثر يوما بعد يوم بطرف من هذا المنهج؛ وتتدرج في مراقيه رويدا رويدا، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئا فشيئا، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخما ثقيلا عسيرا. وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعدادا للانتفاع بالوجبة التالية، وأشد قابلية لها والتذاذا بها. ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها. وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها. فجاء لذلك منجما وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة، وهي في طريق نشأتها ونموها، ووفق استعدادها الذي ينمو يوما بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق. جاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة. جاء لينفذ حرفا حرفا وكلمة كلمة، وتكليفا تكليفا. جاء لتكون آياته هي "الأوامر اليومية "التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها، كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان "الأمر اليومي" مع التأثر والفهم والرغبة في التنفيذ؛ ومع الانطباع والتكيف وفق ما يتلقاه.. من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلا. يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول [صلى الله عليه وسلم] ويثبته على طريقه؛ ويتتابع على مراحل الطريق رتلا بعد رتل، وجزءا بعد جزء: (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا).. والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق حكمة الله وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي..
ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلا متتابعا، وتأثرت به يوما يوما، وانطبعت به أثرا أثرا. فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة، وكتاب تعبد للتلاوة، فحسب، لا منهج تربية للانطباع والتكيف ومنهج حياة للعمل والتنفيذ. لم ينتفعوا من القرآن بشيء، لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عود إلى معاذيرهم وتعلّلاتهم الفاسدة إذ طعنوا في القرآن بأنه نُزّل منجّماً وقالوا: لو كان من عند الله لنَزل كتاباً جملةً واحدة. وضمير {وقال} ظاهر في أنه عائد إلى المشركين، وهذه جهالة منهم بنسبة كتب الرسل فإنها لم ينزل شيء منها جملةً واحدة وإنما كانت وحياً مفرّقاً؛ فالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام في الألواح هي عشر كلمات بمقدار سورة الليل في القرآن، وما كان الإنجيل إلا أقوالاً ينطق بها عيسى عليه السلام في الملإ، وكذلك الزبور نَزل قطعاً كثيرة، فالمشركون نسُوا ذلك أو جهلوا فقالوا: هلاّ نزل القرآن على محمد جملةً واحدة فنعلم أنه رسول الله. وقيل: إن قائل هذا اليهودُ أو النصارى، فإن صح ذلك، فهو بهتان منهم لأنهم يعلمون أنه لم تنزل التوراة والإنجيل والزبور إلا مفرقة. فخوض المفسرين في بيان الفرق بين حالة رسولنا من الأُمية وحالة الرسل الذين أُنزلت عليهم الكتب اشتغال بما لا طائل فيه، فإن تلك الكتب لم تنزل أسفاراً تامة قط.
و {نُزّل} هنا مرادف أنزل وليس فيه إيذان بما يدل عليه التفعيل من التكثير كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بقرينة قولهم: {جملة واحدة}.
وقد جاء قوله: {كذلك لنثبت به فؤادك} ردّاً على طعنهم، فهو كلام مستأنف فيه ردّ لما أرادوه من قولهم: {لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدة} وعُدل فيه عن خطابهم إلى خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إعلاماً له بحكمة تنزيله مفرّقاً، وفي ضمنه امتنان على الرسول بما فيه تثبيت قلبه والتيسيرُ عليه.
وقوله: {كذلك} جواب عن قولهم: {لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدةً} إشارة إلى الإنزال المفهوم من « لو نُزّل عليه القرآن» وهو حالة إنزال القرآن منجَّماً، أي أنزلناه كذلك الإنزال، أي المنجّم، أي كذلك الإنزال الذي جهلوا حكمته، فاسم الإشارة في محلّ نصب على أنه نائب عن مفعول مطلق جاء بدلاً عن الفعل. فالتقدير: أنزلناه إنزالاً كذلك الإنزال المنجَّم. فموقع جملة {كذلك} موقع الاستئناف في المحاورة. واللام في {لنثبت} متعلقة بالفعل المقدّر الذي دلّ عليه {كذَلك}. والتثبيت: جعل الشيء ثابتاً. والثبات: استقرار الشيء في مكانه غير متزلزل قال تعالى: {كشجرة طيّبة أصلها ثابت} [إبراهيم: 24]. ويستعار الثبات لليقين وللاطمئنان بحصول الخير لصاحبه قال تعالى: {لكان خيراً لهم وأشدّ تثبيتاً} [النساء: 66]، وهي استعارات شائعة مبنية على تشبيه حصول الاحتمالات في النفس باضطراب الشيء في المكان تشبيه معقول بمحسوس. والفؤاد: هنا العقل. وتثبيته بذلك الإنزال جعله ثابتاً في ألفاظه ومعانيه لا يضطرب فيه.
وجاء في بيان حكمة إنزال القرآن منجّماً بكلمةٍ جامعة وهي {لنثبت به فؤادك} لأن تثبيت الفؤاد يقتضي كل مَا به خير للنفس...
[قال] الجدّ الوزير رحمه الله: إن القرآن لو لم ينزل منجّماً على حسب الحوادث لما ظهر في كثير من آياته مطابقتُها لمقتضى الحال ومناسبتها للمقام وذلك من تمام إعجازها. وقلت: إن نزوله منجّماً أعون لحفَّاظه على فهمه وتدبره.
وقوله: {ورتلناه ترتيلاً} عطف على قوله {كذلك}، أي أنزلناه منجّماً ورتَّلناه، والترتيل يوصف به الكلام إذا كان حسن التأليف بيّن الدلالة. واتفقت أقوال أيمة اللّغة على أن هذا الترتيل مأخوذ من قولهم: ثَغر مرتَّل ورَتِل، إذا كانت أسنانه مفلّجة تشبه نَور الأقحوان. ولم يوردوا شاهداً عليه من كلام العرب.
والترتيل يجوز أن يكون حالة لنزول القرآن، أي نزّلناه مفرّقاً منسّقاً في ألفاظه ومعانيه غير متراكم فهو مفرّق في الزمان فإذا كمُل إنزال سورة جاءت آياتها مرتبة متناسبة كأنها أُنزلت جملة واحدة، ومفرّقٌ في التأليف بأنه مفصّل واضح. وفي هذا إشارة إلى أن ذلك من دلائل أنه من عند الله لأن شأن كلام الناس إذا فُرّق تأليفه على أزمنة متباعدة أن يعتوره التفكك وعدم تشابه الجمل.
ويجوز أن يراد ب {رتّلناه} أمرنا بترتيله، أي بقراءته مرتَّلاً، أي بتمهُّل بأن لا يعجِّل في قراءته بأن تُبيّن جميع الحروف والحركات بمهل، وهو المذكور في سورة المزّمّل (4) في قوله تعالى: {ورتِّل القرآن ترتيلاً}.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
يتضمن شقه الأول الإشارة إلى إحدى الشبهات السخيفة التي يوجهها الكافرون والمكذبون، للطعن في القرآن والتشكيك في كونه من عند الله، وهذه الشبهة هي: لماذا نزل القرآن مفرقا، ولم ينزل دفعة واحدة؟
كما يضمن شقه الثاني إبطال تلك الشبهة وتزييفها، وذلك بإبراز الحكم الإلهية في نزول القرآن منجما مفرقا على فترات متلاحقة: والحكمة في نزوله مفرقا على تلك الصفة حسبما نصت عليه هذه الآية تتعلق بالرسول مباشرة، وهي تثبيت محتوى آيات القرآن لفظا ومعنى في قلب الرسول، ومساعدته على تلقيه وقراءته بترسل وتمهل وتؤدة، تيسيرا لحفظه أولا، وتمهيدا لتلقينه لأمته ثانيا حسبما أنزل عليه، آية بعد آية، ووقفة بعد وقفة، ويزيد هذا المعنى توضيحا قوله تعالى في سورة القيامة: {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه}، [16 19]،...
وهذا المنهج الإلهي الحكيم في التلقي والتلقين هو المنهج الوحيد الذي يتفق مع ما جاء في خطاب الله لنبيه، واصفا حالته التي كان عليا عند تلقي الرسالة، إذ قال تعالى في سورة الشورى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الآية: 52]. قال القاضي عبد الجبار:"فلو أنزل عليه جملة واحدة لكان مخالفا للحكمة".
وهناك حكمة أخرى من وراء نزول القرآن منجما مفرقا على فترات متلاحقة، ألا وهي تثبيت الرسول حينا بعد حين، وبشكل متلاحق دون انقطاع، على تبليغ دين الحق، والمجاهدة بقول الحق في مواجهة خصوم الرسالة الماكرين، الذين طالما حاولوا فتنة الرسول، واستعملوا كل الوسائل المادية والأدبية للضغط عليه وصرفه عن رسالته، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في سورة المائدة: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [الآية: 49]، وقوله تعالى في سورة الإسراء: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} [الآية: 74]،...
وقد تحدث كتاب الله في آية أخرى عن حكمة دقيقة من حكم تنجيم القرآن ونزوله مفرقا، وذلك بالنسبة للمرسل إليهم، وهذه الحكمة سبقت الإشارة إليها عند قوله تعالى في سورة الإسراء: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا}، ذلك أن الإنسانية الضالة التي أراد الله ان يخرجها من الظلمات إلى النور لا يمكن ان تقفز من حضيض الجهالة الجهلاء، إلى أعلى درجة في السمو والارتقاء، بين عشية وضحاها، إذ لا بد لتحولها عما كانت عليه، وتطورها إلى ما يجب أن تؤول إليه، من وقت كاف تستوعب فيه يوما بعد يوم، ما جاء به القرآن الكريم من عقيدة وشريعة وأخلاق، فقوله تعالى في خطابه لنبيه في سورة الإسراء: {لتقرأه على الناس على مكث} يفيد ان حكمة الله اقتضت أن يكون تبليغ القرآن إلى الناس على مهل، تدريجيا ودون عجلة، حتى يحفظوه ويعوه، ويرتاضوا به ويتبعوه، ويسايروه في حياتهم خطوة خطوة.
وقوله تعالى في نفس السياق: {ونزلناه تنزيلا} يشير إلى أن حكمة الله اقتضت أن يكون تنزيل القرآن على فترات، ليواجه ما يتجدد في حياة الناس من حوادث ومسائل وشبهات، إذ لا يخفى على أحد ما تزخر به الحياة اليومية في مثل هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة من إلقاء أسئلة محرجة تحتاج إلى الأجوبة الشافية، ومن وقوع حوادث معقدة تتوقف على الحلول الكافية، فتنزل آيات القرآن مفرقة تبعا لذلك في الوقت المناسب بما هو مناسب، تثبيتا لفؤاد الرسول والمرسل إليهم، وتأنيسا له ولهم في آن واحد، الأمر الذي يكون أوقع في النفوس، لما فيه من تجاوب ملموس،...
ومجمل القول أن نزول القرآن منجما ومفرقا كان هو الطريق المضمون لتلقي الرسول رسالة ربه على أكمل وجه، ولتلقينه المرسل إليهم آيات الذكر الحكيم، وتكاليف دينهم القويم، وبذلك امتزجت روح الإسلام بنفوس الأفراد والجماعات، وقام على أنقاض المجتمع الجاهلي مجتمع إسلامي الطابع، يعتبر هو المثل الأعلى والقدوة الصالحة، لما ينشأ على غراره من المجتمعات.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
كان المشركون يثيرون الشبهات حول القرآن ليشككوا في نزوله من عند الله وليبطلوا مفعول تأثيره في النفوس من خلال الإِيحاء الداخلي بقداسته الروحية، وليحاولوا بالتالي إبطال الإيمان برسالة الرسول، ليتحول في نظر الناس إلى رجلٍ عاديٍّ يختلق الكلام وينسبه إلى الله.
وقد كان من بين هذه الشبهات، الحديث عن نزول القرآن عليه على دفعات، في الوقت الذي كانوا يسمعون عن التوراة والإنجيل، بأنهما قد نزلا على موسى وعيسى (ع) دفعةً واحدة، وكما يوحي به لفظ الكتاب الذي يدل على مجموعة من الفصول المترابطة ببعضها البعض تمثل وحدة الفكرة العامة الموزّعة على مواقع متعدّدة، كما هو الدين في معناه الشامل الذي يتضمن العقيدة والشريعة معاً.
وفي ضوء ذلك، فإن هذا النزول التدريجي الذي لا ترتبط فيه أجزاء الآيات ببعضها البعض، باعتبار أنه موزّع على الحوادث والقضايا التي يعيشها الرسول مع الناس، وعلى المشاكل التي يثيرونها حوله، قد يدلّ على أن المسألة تعبِّر عن معاناةٍ شخصيةٍ تتأثر بالأحداث، فتصنع في كل حدث فكرة تنسجم معه، وتجيب عن كل مسألةٍ بجواب يخرجها من المأزق، وتعالج كل قضيّة بما يتناسب معها من الحلول.. وهكذا يفتقد النبي معنى الرسالة الكاملة الشاملة التي يقدمها الله إلى البشر كحلٍّ متكامل لكلّ مشاكلهم في الحياة، لينطلقوا فيه من موقع القاعدة الثابتة التي يلجأون إليها في كل منطلقٍ للحياة، بل يكون مثل بقية الناس الذين تتكامل لديهم الأفكار تبعاً للمراحل التي تتكامل بها حياتهم.
وهذا ما عبرت عنه الفقرة التالية من هذه الآية:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أي دفعة واحدة، فلماذا يُنزَّل عليه على عدة دفعات تتنوّع فيها الأفكار على أساس تنوّع الأوضاع، واختلاف الحوادث والأشخاص؟
ولكن الله يثير أمامهم المسألة من موقع الصفة الحركية للرسالة، والخط التربويّ للمسيرة الإنسانية في حركية الإسلام في تنمية الفكر والروح، ومراقبة الحركة في الوسيلة والهدف وفي مواجهة التحديات.
فلم يكن الإسلام مجرّد فكرٍ يراد للناس أن يختزنوه في وعيهم في مواقع نظريةٍ للمعرفة المجرّدة، بل كان فكراً يراد له أن يتجذّر في النفس والواقع والحياة، لأن المقصود هو تنمية الروح الإسلامية في الإنسان، في عملية صنع الأمة على هدى الإسلام وتعاليمه. ولهذا كانت الخطة أن تطرح الفكرة في ساحة التطبيق، ليعيش المسلمون المشكلة، فتتفاعل في عقولهم ومشاعرهم، وتحتوي أوضاعهم وعلاقاتهم، لتأتي الآية بالحل المناسب الذي يستوعب الحالة كلها، فيرى الناس الحل في حجم المشكلة، وفي صعيدها، وينظرون إلى الفكرة وهي تتحرك في الأرض بطريقةٍ واقعية، فيعيشون واقعيتها، فتثبت في شخصيتهم في عمق التأثير، وبذلك تمنحهم المعرفة والتطبيق، والثبات الفكري والروحي والعملي على الخط المستقيم. وهناك فرقٌ بين أن يأخذ الفكرة من مواقع التجريد، وبين أن يأخذها من مواقع الواقع. فإن الانطلاق من الواقع يثبّت الشخصية من خلال الفكرة، تماماً كما هو الماء الذي ينفذ إلى الأرض ليمنحها الحيوية والنموّ في البذور الساكنة في التراب.
هذا هو الأساس في تنزّل القرآن على دفعات من أجل أن يواكب القرآن المسيرة كلها ليرعاها ويشرف عليها ويجنّبها المشاكل الصعبة، وينظّم لها خطوطها التفصيلية على مستوى حركة القيادة والتزام القاعدة ونهج المسيرة، لأن ذلك يمنع الاهتزاز الروحي والفكري والعملي، ويحفظ القاعدة من السقوط والانهيار، لأنها تتحرك بعين الله ورعايته وإشرافه، في كل حركةٍ، وفي وكل مشكلةٍ. وهذا الذي أشارت إليه الفقرة التالية.
{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} والفؤاد يعني الشخصية العقلية والروحية التي قد تتعرض للاهتزاز بفعل المشاكل والتحديات التي تثير الإحساس السلبي وتهزّ القلب بالآلام، فكأن القرآن يحتوي ذلك كله، في ما يمنحه من وضوح الرؤية للأشياء بالمستوى الذي يفهم فيه طبيعة الموقع الذي يقف فيه، ونوعية الخط الذي يسير عليه، والهدف الذي يسعى إليه، فلا يبقى هناك مجالٌ للاهتزاز الروحي والنفسي والعملي.
وإذا كان الله يتحدث عن تثبيت النبي، فإنه يتحدث عنه بصفته القيادية من موقع انفتاحه على الأمة، وقضاياها التي تتطلب معرفة الحلول الطبيعية لها من خلال وحي الله.
وقد نستوحي من ذلك، أن الله يثبِّت رسله بوحيه ليتكاملوا بطريقةٍ تدريجيةٍ في الانطلاق باتجاه مدارج الكمال، إذ يريد لهم وعي الفكر، وحركية الخط، وحلّ المشكلة، وثبات الموقف، ما يوحي بأن مسألة الكمال النبوي ليس مسألةً دفعيّةً حاسمةً، وليس في هذا أي منافاةٍ مع عصمتهم عليهم السلام لأن هناك فرقاً بين ما هو الخطأ، في ما يمارسه الإنسان، وبين ما هو التكامل في ما يريد أن يسمو فيه وينطلق أو يبلغه من مواقع السموّ والكمال.
وهكذا أراد الله للقرآن أن ينزل على دفعات ليثقّف الأمة بأفكاره وتعاليمه بطريقة تدريجية لتثبيت القيادة، ولتركيز القاعدة على أساس الخط المستقيم، وتوجيه المسيرة على أساس حركة النظرية في موقع التطبيق.
{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} فأنزلنا الآية عقيب الآية، والسورة بعد السورة، كما يوحي به معنى الترتيل.
وإذا أردنا أن نطلق الآية في حركية الدعوة والعمل في سبيل الله، فنستطيع استبدال تدريجيّة النزول للآيات بتدريجية تحريك الآيات في مواقع العمل والجهاد وفي منطلقات الدعوة بطريقةٍ دقيقةٍ، نوزع فيها الآيات على المسيرة، فتكون هذه الآية في نقطةٍ هنا، ونقطةٍ هناك، وتكون السورة في مرحلة أولى، لتكون السورة الأخرى في المرحلة الأخرى، ليكون القرآن ثقافة الأمة في كل مواقع السير، حتى يعرفوا الفكرة في مواقع الحركة، فلا تبتعد المسيرة عن آفاق الإسلام في فكره وشريعته.