هذه السورة مكية ، نزلت في مكة قبل الهجرة ، وسميت الفاتحة لأنها أولي السور في ترتيب المصحف الشريف ، وهي تشتمل علي مجمل ما في القرآن ، وكأنها إجمال يحلو بعده التفصيل .
ومقاصد القرآن هي : بيان التوحيد ، وبيان الوعد والبشرى للمؤمن المحسن ، وبيان الوعيد والإنذار للكافر والمسيء ، وبيان العبادة ، وبيان طريق السعادة في الدنيا والآخرة ، وقصص الذين أطاعوا الله ففازوا ، وقصص الذين عصوه فخابوا .
والفاتحة تشتمل ، بطريق الإيجاز والإشارة ، علي هذه المقاصد ، ولذلك سميت أم الكتاب .
1- تبتدئ باسم الله الذي لا معبود بحق سواه ، والمتصف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، وهو صاحب الرحمة الذي يفيض بالنعم جليلها ودقيقها ، عامها وخاصها ، وهو المتصف بصفة الرحمة الدائمة .
{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }
{ بِسْمِ اللَّهِ } أي : أبتدئ بكل اسم لله تعالى ، لأن لفظ { اسم } مفرد مضاف ، فيعم جميع الأسماء [ الحسنى ] . { اللَّهِ } هو المألوه المعبود ، المستحق لإفراده بالعبادة ، لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال . { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء ، وعمت كل حي ، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله . فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة ، ومن عداهم فلهم{[30]} نصيب منها .
واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها ، الإيمان بأسماء الله وصفاته ، وأحكام الصفات .
فيؤمنون مثلا ، بأنه رحمن رحيم ، ذو الرحمة التي اتصف بها ، المتعلقة بالمرحوم . فالنعم كلها ، أثر من آثار رحمته ، وهكذا في سائر الأسماء . يقال في العليم : إنه عليم ذو علم ، يعلم [ به ] كل شيء ، قدير ، ذو قدرة يقدر على كل شيء .
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا هو ، وحده لا شريك له ، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله رحمة للعالمين ، وأنزل عليه كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد . اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، أولئك هم المفلحون .
وبعد : فإن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ولينقذهم من الكفر والظلم والفجور . [ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ ]( {[1]} ) .
وقد أنزل الله –تعالى- هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم ، لمقاصد عالية ، وحكم سامية ، وأغراض شريفة . . .
من أهمها أن يكون هذا القرآن هداية للإنس وللجن في كل زمان ومكان إلى الصراط المستقيم ، وإلى السعادة التي تصبو إليها النفوس ، وتتطلع إليها الأفئدة والقلوب . . .
وقد أودع –تعالى- في هذا الكتاب من العقائد السليمة ، والعبادات القويمة ، والأحكام الجليلة ، والآداب الفاضلة ، والعظات البليغة ، والتوجيهات الحكيمة . . . ما به قوام الملة الكاملة ، والأمة الفاضلة ، والجماعة الراشدة ، والفرد السليم في عقيدته وسلوكه وفي كل شئونه .
فكان هذا الكتاب أفضل الكتب السماوية ، وأوفاها بحاجة البشرية ، وأجمعها للخير ، وأبقاها على الدهر ، وأعمها وأتمها وأصحها في هدايته الناس إلى ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم .
قال –تعالى- [ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ]( {[2]} ) .
وقال تعالى : [ لَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ، وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ، وَيَهْدِيهم إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ]( {[3]} ) .
وقال –تعالى- [ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ ، فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَأَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ]( {[4]} ) .
كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا القرآن ، أن يكون هذا القرآن معجزة ناطقة في فم الدنيا بصدقه فيما يبلغه عن ربه .
ولقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس فدعاهم إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، وقال لهم : معجزتي الدالة على صدقي هذا القرآن ، فإن كنتم في شك من ذلك فأتوا بمثله فعجزوا ، فأرخى لهم العنان وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله فما استطاعوا ، فزاد في إرخاء العنان لهم –وهم أرباب البلاغة والبيان- وتحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله ، فأخرسوا وانقلبوا صاغرين . فثبت أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً .
قال الله تعالى- : [ وَإِنْ كُنْتُم فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه ، وادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين ]( {[5]} ) .
كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتقرب الناس به إلى خالقهم عن طريق تلاوته ، وحفظه ، وتدبره ، والعمل بتشريعاته وآدابه وتوجيهاته . . .
ولقد تكلم الإمام القرطبي بإسهاب في مقدمة تفسيره عن فضائل القرآن ، والترغيب فيه ، وفضل طالبه ، وقارئه ، ومستمعه ، والعامل به ، وكيفية تلاوته . . . فقال ما ملخصه :
اعلم أن هذا الباب واسع كبير . ألف فيه العلماء كتباً كثيرة ، نذكر من ذلك نكتا تدل على فضله ، وما أعد الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه ، وعملوا به . فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين . كلام من ليس كمثله شيء . . .
ومن الآثار التي جاءت في هذا الباب ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي ، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين . . . " .
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم . . . " .
وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ، وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة( {[6]} ) ريحها طيب وطعمها طيب . ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو . ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر . ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر " .
وروى مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه –أي يقرؤه بصعوبة- وهو عليه شاق له أجران " .
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله بكل حرف حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها . لا أقول الَم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " ( {[7]} ) .
هذا جانب من الأحاديث الشريفة التي أوردها القرطبي ، وهو يتحدث عن فضائل القرآن ، والترغيب فيه . . . الخ .
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم : أمته تحذيراً شديداً من نسيان القرآن ، فقد روى الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تعاهدوا القرآن ؛ فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً –أي : تفلتا- من الإبل في عُقُلِها " .
وروى الترمذي وأبو داود عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجها ثم نسيها " .
هذه أهم المقاصد والحكم التي من أجلها أنزل الله –تعالى- القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم : أن يكون هداية للناس ، وأن يكون معجزة خالدة باقية شاهدة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم : فيما يبلغه عن ربه ، وأن يتقرب الناس بقراءته والعمل به إلى خالقهم –عز وجل- ولقد تكفل الله –تعالى- بحفظ هذا القرآن ، وصانه من التحريف والتبديل ، والتغيير والمعارضة . قال –تعالى- : [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون ]( {[8]} ) .
وكان من مظاهر عنايته –سبحانه- بكتابه ، أن جعله محفوظاً في كل العصور بالتواتر الصادق القاطع ، يرويه الخلف عن السلف بالكيفية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن وفق له في كل عصر حفاظاً متقنين جمعوه في صدورهم ، وعمروا به ليلهم ونهارهم . . .
وأن قيض لهم رجالا قضوا معظم أيام حياتهم في خدمته ودراسة علومه ، فمنهم من كتب في إعجازه وبلاغته ، ومنهم من كتب في قصصه وأخباره ، ومنهم من كتب في أسباب نزوله ، ومنهم من كتب في قراءاته ورسمه ، ومنهم من كتب في محكمه ومتشابهه ، ومنهم من كتب في ناسخه ومنسوخه ، ومنهم من كتب في مكيه ومدنيه ، ومنهم من كتب في غريب ألفاظه . . . . . إلى غير ذلك من ألوان علومه .
وكثير منهم كتبوا في تفسيره . وتوضيح معانيه ومقاصده وألفاظه ، وذلك لأن سعادة الأفراد والأمم لا تتأتى إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن وتوجيهاته ، وهذا الاسترشاد لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان ، لما تدل عليه ألفاظ القرآن . وهو ما يسمى بعلم التفسير .
فتفسير القرآن هو المفتاح الذي يكشف عن تلك الهدايات السامية ، والتوجيهات النافعة ، والعظات الشافية والكنوز الثمينة التي احتواها هذا الكتاب الكريم .
وبدون تفسير القرآن ، تفسيراً علمياً سليماً لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات ، مهما قرأه القارئون وردد ألفاظه المرددون .
قال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره ، كمثل قوم جاءهم كتاب من مليكهم ليلا ، وليس عندهم مصباح ، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب . ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا ما في الكتاب " ( {[9]} ) .
ولقد أفاض الإمام ابن كثير في بيان هذا المعنى " وفي بيان أحسن طرق التفسير فقال : " فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله ، وتفسير ذلك ، وطلبه من مظانه ، وتعلم ذلك وتعليمه . . . .
فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟ فالجواب : إن أصح الطريق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر ، فإن أعياك ذلك عليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له . . . . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " . يعني السنة . . . .
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه ، فإن لم تجده فمن السنة . . . . فإن لم تجده فمن أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالخلفاء الراشدين ، والأئمة المهتدين المهديين . . . قال عبد الله بن مسعود : والذي لا إله غيره ، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت . ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته " . وقال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن " .
وقال أبو عبد الرحمن السلمي : " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً " . . . .
فإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة ، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر ، وسعيد ابن جبير . وعكرمة مولى ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري وغيرهم " ( {[10]} ) .
هذا ، وأنت إذا سرحت طرفك في المكتبة الإسلامية ترى العشرات من كتب التفسير ، منها القديم والحديث ، وترى منها الكبير والوسيط والوجيز ، وترى منها ما يغلب عليه طابع التفسير بالمأثور ، وترى ما يغلب عليه طابع التفسير بالرأي ، وترى منها ما تغلب عليه الصبغة الفقهية ، أو البلاغية ، أو الفلسفية ، أو الصوفية ، أو العلمية ، أو الاجتماعية ، أوالطائفية . . . . أو غير ذلك من الاتجاهات والميول التي تختلف باختلاف أفكار الكاتبين وثقافتهم ومذهبهم . . .
وترى منها المحرر أو شبه المحرر من الخرافات ، والأقوال السقيمة ، والقصص الباطلة . . . كما ترى منها ما هو محشو بذلك .
ولقد انتفعت كثيراً بما كتبه الكاتبون عن كتاب الله –تعالى- ، وهاأنذا –أخي القارئ- أقدم لك تفسيراً وسيطا لسورتي الفاتحة والبقرة ، وقد بذلت فيه أقصى جهدي ليكون تفسيراً علمياً محققاً ، محرراً من الأقوال الضعيفة ، والشبه الباطلة ، والمعاني السقيمة . .
وستلاحظ خلال قراءتك له أنني كثيراً ما أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحا لغوياً مناسبا ثم أبين المراد منها –إذا كان الأمر يقتضي ذلك- .
ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات –إذا وجد وكان مقبولا- .
ثم أذكر المعنى الإجمالي للآية أو الجملة ، عارضا( {[11]} ) ما اشتملت عليه من وجوه البلاغة والبيان ، والعظات والآداب والأحكام . . . ، مدعما ذلك بما يؤيد المعنى من آيات أخرى ، ومن الأحاديث النبوية ، ومن أقوال السلف الصالح .
وقد تجنبت التوسع في وجوه الإعراب ، واكتفيت بالرأي أو الآراء الراجحة إذا تعددت الأقوال . . .
وذلك لأنني توخيت فيما كتبت إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة ، وأحكام سامية ، وتشريعات جليلة ، وآداب فاضلة ، وعظات بليغة ، وأخبار صادقة ، وتوجيهات نافعة ، وأساليب بليغة ، وألفاظ فصيحة . . .
والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا ، وبهجة أفئدتنا ، وأن يعيننا ويوفقنا لإتمام ما بدأناه من خدمة كتابه ، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه ، ونافعة لعباده .
{ بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ }
الاسم : اللفظ الذي يدل على ذات أو معنى . وقد اختلف النحويون فى اشتقاقه على وجهين ، فقال البصريون : هو مشتق من السمو ، ، فقيل : اسم ، لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به .
وقال الكوفيون : إنه مشتق من السمة وهى العلامة ، لأن الاسم علامة لمن وضع له ، فأصل اسم على هذا " وسم " .
ويرى المحققون أن رأى البصريين أرجح ، لأنه يقال فى تصغير " اسم " سُمىَ ، وفى جمعه أسماء ، والتصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها . ولو كان أصله وسم - كما قال الكوفيون - لقيل في جمعه : أوسام ، وفى تصغيره وسيم .
ولفظ الجلالة وهو " الله " علم على ذات الخالق - عز وجل - تفرد به - سبحانه - ولا يطلق على غيره ، ولا يشاركه فيه أحد . قال القرطبى : قوله " الله " هذا الاسم أكبر أسمائه - سبحانه - وأجمعها حتى قال بعض العلماء : إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ، ولذلك لم يثن ولم يجمع : فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإِلهية ، المنعوت بنعوت الربوبية ، المنفرد بالوجود الحقيقي ، لا إله إلا هو - سبحانه -
و { الرحمن الرحيم } صفتان مشتقتان من الرحمة . والرحمة فى أصل اللغة : رقة في القلب تقتضى الإِحسان ، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفًا لله - تعالى- ، ولذا فسرها بعض العلماء بإرادة الإِحسان . وفسرها آخرون بالإِحسان نفسه .
والموافق لمذهب السلف أن يقال : هي صفة قائمة بذاته - تعالى - لا نعرف حقيقتها ، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإِحسان .
وقد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هاتين الصفتين ، فبعضهم يرى أن { الرحمن } هو المنعم على جميع الخلق . وأن { الرحيم } هو المنعم على المؤمنين خاصة . ويرى آخرون أن { الرحمن } هو المنعم بجلائل النعم ، وأن { الرحيم } هو المنعم بدقائقها .
ويرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد وأن الثاني منهما تأكيد للأول . والذي يراه المحققون من العلماء أن الصفتين ليستا بمعنى واحد ، بل روعي في كل منهما معنى لم يراع في الآخر ، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة ، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته ، ويلزم منه الدوام كغضبان وسكران . والرحيم بمعنى دائم الرحمة ، لأن صيغته فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف . فكأنه قيل : العظيم الرحمة الدائمة .
أو أن { الرحمن } صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإِحسان . و { الرحيم } صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإِحسان وتعديهما إلى المنعم عليه . ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ الرحمن لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفات كما هو الشأنِ في أسماء الذات . قال - تعالى- : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } و { الرحمن عَلَى العرش استوى } { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } وهكذا . . .
أما لفظ الرحيم فقد كثر في القرآن استعماله وصفًا فعليًا ، وجاء فى الغالب بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه . قال - تعالى - { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } الخ .
قال بعض العلماء " وهذا الرأي في نظرنا هو أقوى الآراء ، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه ، كما أنه ليس مستساغاً أن يقال فى القرآن : إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها " .
والجار والمجرور " بسم " متعلق بمحذوف تقديره أبتدئ . والمعنى : أبتدئ قراءتي متبركًا ومتيمنًا باسم الله الذي هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، والذي رحمته وسعت كل شئ ، وأتبرأ مما كان يفعله المشركون والضالون ، من ابتدائهم قراءتهم وأفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة .
هذا وقد أجمع العلماء على أن البسملة جزء آية من سورة النمل في قوله - تعالى - { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ثم اختلفوا بعد ذلك فى كونها آية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرة واحدة ، أو هي آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة الخ .
فبعضهم يرى أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة ، ومن حججهم أن السلف قد أثبتوها فى المصحف مع الأمر بتجريد القرآن مما ليس منه ، ولذا لم يكتبوا " آمين " . فثبت بهذا أن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة . وبهذا الرأي قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن جبير والشافعي ، وأحمد في أحد قوليه . ويرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وقالوا : إنها آية فذة . من القرآن أنزلت للفصل والتبرك للابتداء بها ، ومن حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة ومن كل سورة ، لما اختلف الناس في ذلك ، ولما اضطربت أقوالهم في كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط . وكما وقع الخلاف بين العلماء في كونها آية مستقلة أو آية من كل سورة ، فقد وقع الخلاف بينهم - أيضًا - في وجوب قراءتها في الصلاة ، وفى الجهر بها أو الإِسرار إذا قرئت . وتحقيق القول في ذلك مرجعه إلى كتب الفقه ، وإلى كتب التفسير التي عنيت بتفسير آيات الأحكام .
قال ابن عباس ، وموسى بن جعفر عن أبيه ، وعلي بن الحسين ، وقتادة ، وأبو العالية ، ومحمد بن يحيى بن حبان( {[1]} ) : إنها مكية ، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ الحجر : 87 ] والحجر مكية بإجماع . ( {[2]} )
وفي حديث أُبَيّ بن كعب أنها السبع المثاني ، والسبع الطُّول( {[3]} ) نزلت بعد الحجر بمدد ، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة ، وما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير " الحمد لله رب العالمين " .
وروي عن عطاء بن يسار ، وسوادة بن زياد ، والزهري محمد بن مسلم ، وعبد الله بن عبيد بن عمير( {[4]} ) أن سورة الحمد مدنية .
وأما أسماؤها فلا خلاف أنها يقال لها فاتحة الكتاب ، لأن موضعها يعطي ذلك .
واختلف هل يقال لها أم الكتاب ، فكره الحسن بن أبي الحسن ذلك وقال : «أم الكتاب الحلال والحرام » . قال الله تعالى : { آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات }( {[5]} ) [ آل عمران : 7 ] .
وقال ابن عباس وغيره : «يقال لها أم الكتاب » .
وقال البخاري : سميت أم الكتاب لأنها يبدأ بكتابتها في المصحف وبقراءتها في الصلاة .
وفي تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة( {[6]} ) رضي الله عنه .
واختلف هل يقال لها أم القرآن ؟ فكره ذلك ابن سيرين وجوزه جمهور العلماء . قال يحيى بن يعمر : «أم القرى مكة ، وأم خراسان مرو ، وأم القرآن سورة الحمد » . وقال الحسن بن أبي الحسن : اسمها أم القرآن .
وأما المثاني فقيل سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة . وقيل سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخراً لها .
وأما فضل هذه السورة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب «إنها لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها »( {[7]} ) ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن( {[8]} ) ، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني ، وإما أن يكون تفضيلاً من الله تعالى لا يعلل ، وكذلك يجيء عدل { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] وعدل { زلزلت } [ الزلزلة : 1 ] . وغيرها . ( {[9]} )
وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ل " لحمد لله رب العالمين " فضل ثلاثين حسنة على سائر الكلام » . وورد حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من قال لا إله إلا الله كتبت له عشرون حسنة ، ومن قال " الحمد لله رب العالمين " كتبت له ثلاثون حسنة »( {[10]} )
وهذا الحديث هو في الذي يقولها من المؤمنين مؤتجراً طالب ثواب ، لأن قوله : { الحمد لله } في ضمنها التوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله ، ففي قوله توحيد وحمد ، وفي قول : { لا إله إلا الله } توحيد فقط . فأما إذا أُخِذَ بموضعهما من شرع الملة ومَحَلِّهِما مِنْ دَفْعِ( {[11]} ) الكفر والإشراك فلا إله إلا الله أفضل ، والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :«أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله »( {[12]} )
القول في بسم الله الرحمن الرحيم
روي عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه أنه قال : البسملة تيجان السور . وروي أن رجلا قال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم تعس الشيطان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقل ذلك فإنه يتعاظم عنده ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يصغر حتى يصير أقل من ذباب » .
وقال علي بن الحسين رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } قال معناه إذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم .
وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «كيف تفتتح الصلاة يا جابر قلت بالحمد لله رب العالمين قال قل بسم الله الرحمن الرحيم » .
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أتاني جبريل فعلمني الصلاة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم يجهر بها » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذان الحديثان يقتضيان أنها آية من الحمد . ويرد ذلك حديث أبي بن كعب الصحيح إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم «هل لك ألا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها ؟ قال فجعلت أبطىء في المشي رجاء ذلك فقال لي كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة قال فقرأت : الحمد لله رب العالمين . . حتى أتيت على آخرها .
ويرده الحديث الصحيح بقوله عز وجل { قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ، يقول العبد الحمد لله رب العالمين . . . } .
ويرده أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أبي بكر ولا عن عمر ولا عثمان رضي الله عنهم أنهم قرؤوا في صلاتهم بسم الله الرحمن الرحيم .
ويرده عدد آيات السورة لأن الإجماع أنها سبع آيات إلا ما روي عن حسين الجعفي أنها ست آيات وهذا شاذ لا يعول عليه . وكذلك روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل { إياك نعبد } آية ، فهي على عده ثماني آيات ، وهذا أيضا شاذ .
وقول الله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } هو الفصل في ذلك .
والشافعي رحمه الله يعد بسم الله الرحمن الرحيم آية من الحمد . وكثير من قراء مكة والكوفة لا يعدون { أنعمت عليهم } .
ومالك رحمه الله وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء والقراء لا يعدون البسملة آية . والذي يحتمله عندي حديث جابر وأبي هريرة إذا صحا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قراءة جابر وحكايته أمر الصلاة قراءة في غير صلاة على جهة التعلم فأمره بالبسملة لهذا لا لأنها آية .
وكذلك في حديث أبي هريرة رآها قراءة تعليم ، ولم يفعل ذلك مع أبي لأنه قصد تخصيص السورة ووسمها من الفضل بما لها ، فلم يدخل معها ما ليس منها ، وليس هذا القصد في حديث جابر وأبي هريرة والله أعلم .
وقال ابن المبارك : إن البسملة آية في كل سورة وهذا قول شاذ رد الناس عليه . وروى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب : " باسمك اللهم " ، حتى أمر أن يكتب " بسم الله " فكتبها ، فلما نزلت { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } كتب بسم الله الرحمن . فلما نزلت { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } كتبها .
وروى عمرو بن شرحبيل أن جبريل أول ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قال له قل بسم الله الرحمن الرحيم .
وروي عن ابن عباس أن أول ما نزل به جبريل بسم الله الرحمن الرحيم .
وفي بعض طرق حديث خديجة وحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ورقة أن جبريل قال للنبي عليهما السلام قل بسم الله الرحمن الرحيم فقالها فقال اقرأ قال ما أنا بقارىء . . . . الحديث .
والبسملة تسعة عشر حرفا . فقال بعض الناس : إن روايةً بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال الله فيهم { عليها تسعة عشر } ( المدثر 30 ) إنما ترتب عددهم على حروف بسم الله الرحمن الرحيم لكل حرف ملك ، وهم يقولون في كل أفعالهم " بسم الله الرحمن الرحيم " فمن هنالك هي قوتهم . وباسم الله استضلعوا .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذه من ملح التفسير وليست من متين العلم ، وهي نظير قولهم في ليلة القدر : إنها ليلة سبع وعشرين مراعاة للفظة هي في كلمات سورة { إنا أنزلناه } . ونظير قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل " ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه " فإنها بضعة وثلاثون حرفا قالوا فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول .
والباء في بسم الله متعلقة عند نحاة البصرة باسمٍ تقديره : ابتدائي مستقر أو ثابت بسم الله . وعند نحاة الكوفة بفعل تقديره : ابتدأت بسم الله ، فبسم الله في موضع رفع على مذهب البصريين ، وفي موضع نصب على مذهب الكوفيين ، كذا أطلق القول قوم .
والظاهر من مذهب سيبويه أن الباء متعلقة باسم كما تقدم . وبسم الله في موضع نصب تعلقا بثابت أو مستقر بمنزلة في الدار من قولك زيد في الدار ، وكسرت باء الجر ليناسب لفظها عملها أو لكونها لا تدخل إلا على الأسماء ، فخصت بالخفض الذي لا يكون إلا في الأسماء ، أو ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما نحو الكاف في قول الأعشى :
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط *** كالطعن يذهب فيه الزيت والفُتُل
وحذفت الألف من بسم الله في الخط اختصارا وتخفيفا لكثرة الاستعمال .
واختلف النحاة إذا كتب " باسم الرحمن " و " باسم القاهر " فقال الكسائي وسعيد الأخفش يحذف الألف . وقال يحيى بن زياد لا تحذف إلا مع " بسم الله " فقط لأن الاستعمال إنما كثر فيه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فأما في غير اسم الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف .
واسم أصله سمو بكسر السين أو سمو بضمها ، وهو عند البصريين مشتق من السمو ، يقال سما يسمو ؛ فعلى هذا تضم السين في قولك سمو . ويقال سمي يسمى ؛ فعلى هذا تكسر . وحذفت الواو من سمو وكسرت السين من سم كما قال الشاعر : ( *** باسم الذي في كل سورة سمه ***
وسكنت السين من بسم اعتلالا على غير قياس . وإنما استدل على هذا الأصل الذي ذكرناه بقولهم في التصغير : سمي ، وفي الجمع : أسماء ، وفي جمع الجمع : أسامي . وقال الكوفيون : أصل اسم وسم من السمة وهي العلامة ؛ لأن الاسم علامة لمن وضع له ، وحذفت فاؤه اعتلالا على غير قياس ، والتصغير والجمع المذكوران يردان هذا المذهب الكوفي . وأما المعنى فيه فجيد لولا ما يلزمهم من أن يقال في التصغير : وسيم وفي الجمع أوسام ؛ لأن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها .
وقد ذكر بعض المفسرين في هذا الموضع الاسم والمسمى هل هما واحد ؟ فقال الطبري رحمه الله : إنه ليس بموضع للمسألة ، وأنحى في خطبته على المتكلمين في هذه المسألة ونحوها ؛ ولكن بحسب ما قد تدوول القول فيها فلنقل إن الاسم كزيد وأسد وفرس قد يرد في الكلام ويراد به الذات كقولك : زيد قائم والأسد شجاع . وقد يراد به التسمية ذاتها كقولك : أسد ثلاثة أحرف ؛ ففي الأول يقال : الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى ، وفي الثاني لا يراد به المسمى . ومن الورود الأول قولك : يا رحمن اغفر لي وقوله تعالى { الرحمن علم القرآن } ( الرحمن 1 ) . ومن الورود الثاني قولك : الرحمن وصف الله تعالى .
وأما اسم الذي هو ألف وسين وميم فقد يجري في لغة العرب مجرى الذات . يقال ذات ونفس واسم وعين بمعنى . وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى { سبح اسم ربك الأعلى } ( الأعلى 1 ) وقوله تعالى { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } . وقوله تعالى { ما تعبدون من دون إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } . وعضدوا ذلك بقول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وقد يجري اسم في اللغة مجرى ذات العبارة وهو الأكثر من استعمالها فمنه قوله تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها } على أشهر التأويلات فيه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة » وعلى هذا النحو استعمل النحويون الاسم في تصريف أقوالهم فالذي يتنخل من هذا أن الأسماء قد تجيء يراد بها ذوات المسميات ، وفي هذا يقال الاسم هو المسمى . وقد تجيء يراد بها ذواتها نفسها لا مسمياتها . ومر بي أن مالكا رحمه الله سئل عن الاسم أهو المسمى فقال ليس به ولا هو غيره ، يريد دائما في كل موضع ، وهذا موافق لما قلناه .
والمكتوبة التي لفظها " الله " أبهر أسماء الله تعالى وأكثرها استعمالا وهو المتقدم لسائرها في الأغلب وإنما تجيء الأخر أوصافا .
واختلف الناس في اشتقاقه فقالت فرقة من أهل العلم هو اسم مرتجل لا اشتقاق له من فعل وإنما هو اسم موضوع له تبارك وتعالى . والألف واللام لازمة له لا لتعريف ولا لغيره بل هكذا وضع الاسم .
وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه مشتق من أله الرجل إذا عبد وتأله إذا تنسك . ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج :
لله در الغانيات المده *** سبحن واسترجعن من تألهي
ومن ذلك قول الله تعالى { ويذرك وآلهتك } على هذه القراءة فإن ابن عباس وغيره قال وعبادتك قالوا فاسم الله مشتق من هذا الفعل لأنه الذي يألهه كل خلق ويعبده . حكاه النقاش في صدر سورة آل عمران فإلاه فعال من هذا .
واختلف كيف تعلل " إله " حتى جاء " الله " ؟ فقيل حذفت الهمزة حذفا على غير قياس ودخلت الألف واللام للتعظيم على لاه وقيل بل دخلتا على اله ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام فجاء أَلِلاَه ثم أدغمت اللام في اللام . وقيل إن أصل الكلمة " لاه " وعليه دخلت الألف واللام . والأول أقوى .
وروي عن الخليل أن أصل إله ولاه وأن الهمزة مبدلة من واو كما هي في إشاح ووشاح وإسادة ووسادة . وقيل : إن أصل الكلمة ولاه كما قال الخليل إلا أنها مأخوذة من وله الرجل إذا تحير لأنه تعالى تتحير الألباب في حقائق صفاته والفكر في المعرفة به . وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا يشكل بخط اللات ، وقيل طرحت تخفيفا ، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط ، ومنها قول الشاعر ابن الأعرابي :
أقبل سيل جاء من أمر الله *** يحرد حرد الجنة المغله
والرحمن صفة مبالغة من الرحمة ومعناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة كما يدل على الانتهاء سكران وغضبان وهي صفة تختص بالله ولا تطلق على البشر وهي أبلغ من فعيل ، وفعيل أبلغ من فاعل لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة ، ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك ، والرحمن النهاية في الرحمة .
وقال بعض الناس : الرحمن الرحيم بمعنى واحد كالندمان والنديم ، وزعم أنهما من فعل واحد ولكن أحدهما أبلغ من الآخر .
وأما المفسرون فعبروا عن الرحمن الرحيم بعبارات :
فمنها أن العرزمي قال : معناه : الرحمن بجميع خلقه في الأمطار ، ونعم الحواس ، والنعم العامة ، الرحيم بالمؤمنين بالهداية لهم واللطف بهم .
ومنها أن أبا سعيد الخدري وابن مسعود رويا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الرحمن رحمن الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة » .
وقال أبو علي الفارسي : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى ، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين كما قال تعالى { وكان بالمؤمنين رحيما } وهذه كلها أقوال تتعاضد .
وقال عطاء الخراساني : كان الرحمن فلما اختزل وسمي به مسيلمة الكذاب قال الله سبحانه لنفسه الرحمن الرحيم فهذا الاقتران بين الصفتين ليس لأحد إلا لله تعالى . وهذا قول ضعيف لأن بسم الله الرحمن الرحيم كان قبل أن ينجم أمر مسيلمة . وأيضا فتَسَمِّي مسيلمة بهذا لم يكن مما تأصل وثبت .
وقال قوم : إن العرب كانت لا تعرف لفظة الرحمن ، ولا كانت في لغتها ، واستدلوا على ذلك بقول العرب : { وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا } وهذا القول ضعيف وإنما وقفت العرب على تعيين الإله الذي أمروا بالسجود له لا على نفس اللفظة . واختلف في وصل الرحيم بالحمد فروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { الرحيمْ الْحمْدُ } تُسكن الميم ويوقف عليها ، ويبتدأ بألف مقطوعة . وقرأ به قوم من الكوفيين .
وقرأ جمهور الناس { الرحيمِ الْحَمْد } يعرب الرحيم بالخفض وتوصل الألف من الحمد ، ومن شاء أن يقدر أنه أسكن الميم ثم لما وصل حركها للالتقاء ولم يعتد بألف الوصل فذلك سائغ والأول أخصر .
وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ : ( الرحيمَ الحمد ) بفتح الميم وصلة الألف كأنها سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت . ولم ترو هذه قراءةً عن أحد فيما علمت ، وهذا هو نظر يحيى بن زياد في قول الله تعالى { الم الله }