178- ومن الشرائع التي فرضناها على المؤمنين أحكام القتل العمد ، فقد فرضنا عليكم القصاصَ بسبب القتل ، ولا تأخذوا بظلم أهل الجاهلية{[11]} الذين كانوا يقتلون الحر غير القاتل بالعبد ، والذكر الذي لم يقتل بالأنثى ، والرئيس غير القاتل بالمرءوس القاتل دون مجازاة القاتل نفسه ، فالحر القاتل يقتل بالحر المقتول ، وكذلك العبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، فأساس القصاص هو دفع الاعتداء في القتل بقتل القاتل للتشفي ومنع البغي ، فإن سَمَت نفوس أهل الدم ودفعوا بالتي هي أحسن فآثروا العفو عن إخوانهم وجب لهم دية قتيلهم ، وعلى أولياء الدم اتباع هذا الحكم بالتسامح دون إجهاد للقاتل أو تعنيف ، وعلى القاتل أداء الدين دون مماطلة أو بخس ، وفى حكم القتل الذي فرضناه على هذا الوجه تخفيف على المؤمنين بالنسبة إلى حكم التوراة الذي يوجب في القتل القصاص ، كما فيه رحمة بهم بالنسبة إلى الذين يدعون إلى العفو من غير تعرض للقاتل ، فمن جاوز هذا الحكم بعد ذلك فله عذاب أليم في الدنيا والآخرة .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
يمتن تعالى على عباده المؤمنين ، بأنه فرض عليهم { الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } أي : المساواة فيه ، وأن يقتل القاتل على الصفة ، التي قتل عليها المقتول ، إقامة للعدل والقسط بين العباد .
وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين ، فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم ، حتى أولياء القاتل ، حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول ، إذا طلب القصاص وتمكينه{[120]} من القاتل ، وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد ويمنعوا الولي من الاقتصاص ، كما عليه عادة الجاهلية ومن أشبههم من إيواء المحدثين .
ثم بيَّن تفصيل ذلك فقال : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } يدخل بمنطقوقها ، الذكر بالذكر ، { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } والأنثى بالذكر ، والذكر بالأنثى ، فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله : " الأنثى بالأنثى " مع دلالة السنة ، على أن الذكر يقتل بالأنثى ، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا ، فلا يقتلان بالولد ، لورود السنة بذلك ، مع أن في قوله : { الْقِصَاصُ } ما يدل على أنه ليس من العدل ، أن يقتل الوالد بولده ، ولأن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة ، ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله ، أو أذية شديدة جدا من الولد له .
وخرج من العموم أيضا ، الكافر بالسنة ، مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة .
وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه ، والعبد بالعبد ، ذكرا كان أو أنثى ، تساوت قيمتهما أو اختلفت ، ودل بمفهومها على أن الحر ، لا يقتل بالعبد ، لكونه غير مساو له ، والأنثى بالأنثى ، أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة ، وتقدم وجه ذلك .
وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل ، وأن الدية بدل عنه ، فلهذا قال : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أي : عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية ، أو عفا بعض الأولياء ، فإنه يسقط القصاص ، وتجب الدية ، وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي .
فإذا عفا عنه وجب على الولي ، [ أي : ولي المقتول ] أن يتبع القاتل { بِالْمَعْرُوفِ } من غير أن يشق عليه ، ولا يحمله ما لا يطيق ، بل يحسن الاقتضاء والطلب ، ولا يحرجه .
وعلى القاتل { أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } من غير مطل ولا نقص ، ولا إساءة فعلية أو قولية ، فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو ، إلا الإحسان بحسن القضاء ، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان ، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف ، ومن عليه الحق ، بالأداء بإحسان{[121]} .
وفي قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } ترقيق وحث على العفو إلى الدية ، وأحسن من ذلك العفو مجانا .
وفي قوله : { أَخِيهِ } دليل على أن القاتل لا يكفر ، لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان ، فلم يخرج بالقتل منها ، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر ، لا يكفر بها فاعلها ، وإنما ينقص بذلك إيمانه .
وإذا عفا أولياء المقتول ، أو عفا بعضهم ، احتقن دم القاتل ، وصار معصوما منهم ومن غيرهم ، ولهذا قال : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } أي : بعد العفو { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الآخرة ، وأما قتله وعدمه ، فيؤخذ مما تقدم ، لأنه قتل مكافئا له ، فيجب قتله بذلك .
وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل ، فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله ، ولا يجوز العفو عنه ، وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الأول ، لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره .
وبعد أن بين - سبحانه - أن البر الجامع لألوان الخير يتجلى في الإِيمان بالله واليوم الآخر . . وفي بذل المال في وجوه الخير ، وفي المحافظة على فرائضه - سبحانه - وفي غير ذلك من أنواع الطاعات التي ذكرتها الآية السابقة ، بعد كل ذلك شرع - سبحانه - في بيان بعض الأحكام العملية الجليلة التي لا يستغني عنها الناس في حياتهم ، وبدأ هذه الأحكام بالحديث عن حفظ الدماء لماله من منزلة ذات شأن في إصلاح العالم - فقال - تعالى - :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص . . . }
{ كُتِبَ } من الكتب ، وهو في الأصل ضم أديم إلى أديم بالخياطة . وتعورف في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، وأطلق على المضموم في اللفظ وإن لم يكتب بالخط ، ومنه الكتابة ، على الإِيجاب والفرض ؛ لأن الشأن بما وجب ويفرض أن يراد ثم يقال ثم يكتب ، ومنه { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } أي : فرض عليكم .
{ القصاص } : العقوبة بالمثل من قتل أو جرح . وهو - كما قال القرطبي - مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه ، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار ، وقص الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، ومنه { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } وقيل : القص القطع . يقال : قصصت ما بينهما . ومنه أخذ القصاص ؛ لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به . يقال أقص الحاكم فلاناً من فلان به فأمثله فامتثل منه ، أي : اقتص منه " .
فمادة القصاص تدل على التساوي والتماثل والتتبع .
والقتلى جمع قتيل ، والقتيل من يقتله غيره من الناس .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا فرض عليكم وأوجب القصاص بسبب القتلى . بأن تقتلوا القاتل عقوبة له على جريمته مع مراعاة المساواة التي قررها الشارع الحكيم ، فلا يجوز لكم أن تقتلوا غير القاتل ، كما لا يجوز لكم أن تسرفوا في القتل بأن تقتلوا القاتل وغيره من أقاربه .
فمعنى القصاص هنا أن يقتل القاتل لأنه في نظر الشريعة مساو للمقتول فيقتل به . وقد بين العلماء أن القصاص يفرض عند القتل الواقع على وجه التعمد والتعدي . وعند مطالبة أولياء القتيل بالقود - أي القصاص - من القاتل .
ولفظ " في " في قوله - تعالى - { فِي القتلى } للسببية ، أي : فرض عليكم القصاص بسبب القتلى . كما في قوله صلى الله عليه وسلم " دخلت امرأة النار في هرة " أي بسببها .
وصدرت الآية بخطاب { الذين آمَنُواْ } تقوية لداعية إنفاذ حكم الفصاص الذي شرعه الخبير بنفوس خلقه ، لأن من شأن الإِيمان الصادق أن يحمل صاحبه على تنفيذ شريعة الله التي شرعها لإقامة الأمان والاطمئنان بين الناس ، ولسد أبواب الفتن التي تحل عرى الألفة والمودة بينهم .
وقد وجه - سبحانه - الخطاب إلى المؤمنين كافة مع أن تنفيذ الحدود من حق الحاكم لإشعارهم بأن عليهم جانباً من التبعة إذا أهمل الحكام تنفيذ هذه العقوبات التي شرعها الله .
وإذا لم يقيموها بالطريقة التي بينتها شريعته ، ولإِشعارهم كذلك بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على تنفيذ الحدود بالعدل . وذلك بتسليم الجاني إلى المكلفين بحفظ الأمن ، وأداء الشهادة عليه بالحق والعدل ، وغير ذلك من وجوه المساعدة .
وقوله - تعالى - { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } بيان لمعنى المساواة في القتل المشار إليها بلفظ القصاص ، فالجملة تتمة لمعنى الجملة السابقة ، ومفادها أنه لا يقتل في مقابل المقتول سوى قاتله ، لأن قتل غير الجاني ليس بقصاص بل هو اعتداء يؤدى إلى فتنة في الأرض وفساد كبير .
وقد يفهم من مقابلة { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } أنه لا يقتل صنف بصنف آخر ، وهذا الفهم غير مراد على إطلاقه ، فقد جرى العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الرجل بالمرأة .
قال القرطبي : " أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل " .
والخلاف في قتل الحر بالعبد . فبعض العلماء يرى قتل الحر بالعبد ، وبعضهم لا يرى ذلك ، ولكل فريق أدلته التي يمكن الرجوع إليها في كتب الفقه .
والغرض الذي سيقت من أجله الآية الكريمة ، إنما هو وجوب تنفيذ القصاص بالعدل والمساواة ، وإبطال ما كان شائعاً في الجاهلية من أن القبيلة القوية كانت إذا قتلت منها القبيلة الضعيفة شخصا لا ترضى حتى تقتل في مقابله من الضعيفة أشخاصاً . وإذا قتلت منها عبداً تقتل في مقابله حراً أو أحراراً ، وإذا قتلت منها أنثى قتلت في نظيرها رجلا أو أكثر . فيترتب على ذلك أن ينتشر القتل ، ويشيع الفساد ، وقد حكى لنا التاريخ كثيراً مما فعله الجاهليون في هذا الشأن .
قال الإِمام البيضاوي عند تفسيره لهذه الآية : كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد ، والذكر بالأنثى ، فلما جاء الإِسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية . وهي لا تدل على أنه لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، كما لا تدل على عكسه ، فإن المفهوم يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم .
ثم أورد - سبحانه - بعد إيجابه للقصاص العادل - حكماً يفتح باب التراضي ، بين القاتل وأولياء المقتول ، بأن أباح لهم أن يسقطوا عنه القصاص إذا شاؤوا ويأخذوا في مقابل ذلك الدية ، فقال - تعالى - : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } .
عُفِي : من العفو وهو الإِسقاط . والعفو عن المعصية ترك العقاب عليها . والذي عفي له هو القاتل ، و { أَخِيهِ } الذي عفا هو ولي المقتول . والمراد بلفظ { شَيْء } القصاص ، وهو نائب فاعل { عُفِيَ } .
والمعنى : أن القاتل عمداً إذا سقط عنه أخوه ولي دم القتيل القصاص ، راضيًا أن يأخذ منه الدية بدل القصاص ، فمن الواجب على ولي الدم أن يتبع طريق العدل في أخذ الدية من القاتل بحيث لا يطالبه بأكبر من حقه ، ومن الواجب كذلك على القاتل أن يدفع له الدية بطريق الحسنى ، بحيث لا يماطله ولا يبخسه حقه .
فقوله - تعالى - : { فاتباع بالمعروف } وصية منه - سبحانه - لولي الدم أن يكون رفيقاً في مطالبته القاتل بدفع الدية .
وقوله : { وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } وصية منه - سبحانه - للقاتل بأن يدفع الدية لولي الدم بدون تسويف أو مماطلة .
وفي هذه الوصايا تحقيق لصفاء القلوب ، وشفاء لما في الصدور من آلام ، وتقوية لروابط الأخوة الإِنسانية بين البشر .
وبعضهم فسر العفو بالعطاء فيكون المعنى : فمن أعطى له وهو ولي المقتول من أخيه وهو القاتل شيئاً وهو الدية ، فعلى ولي المقتول اتباعه بالمعروف ، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان .
وسمى القرآن الكريم القاتل أخا لولي المقتول ، تذكيراً بالأخوة الإِنسانية والدينية ، حتى يهز عطف كل واحد منهما إلى الآخر ، فيقع بينهم العفو ، والاتباع بالمعروف ، والأداء بإحسان .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : عفى بتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } ؟ قلت : يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه . قال - تعالى - : { عَفَا الله عَنكَ } وقال : { عَفَا الله عَنْهَا } فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معاً قيل : عفوت لفلان عما جنى ، كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه . وعلى هذا ما في الآية ، كأنه قيل : فمن عفى عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية .
وجاء التعبير بلفظ " شيء " منكراً لإفادة التقليل . أي : فمن عفي له من أخيه ما يسمى شيئاً من العفو والتجاوز ولو أقل قليل ، تم العفو وسقط القصاص ، ولم تجب إلا الدية ، وذلك بأن يعفو بعض أولياء الدم ، لأن القصاص لا يتجزأ .
وفي ذلك تحبيب من الشارع الحكيم لولي الدم ، في العفو وفي قبول الدية ، إذا العفو أقرب إلى صفاء القلوب ، وتجميع النفوس على الإِخاء والتعاطف والتسامح . وفيه - أيضاً - إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية من التعيير من قبول الصلح في قتل العمد ، وعدهم ذلك لوناً من بيع دم المقتول بثمن بخس . قال بعضهم يحرض قومه على الثأر .
فلا تأخذوا عَقْلاً من القوم إنني . . . أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
وقال شاعر آخر يَذْكُر قوماً لم يقبلوا الصلح عن قتيل لهم :
فلو أن حيا يقبل المال فدية . . . لسقنا لهم سيباً من المال مفعماً
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم . . . رضا العار فاختاروا على اللبن الدما
ثم بين - سبحانه - أنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر فقال : { ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } .
أي : ذلك الذي شرعناه لكم من تيسير أمر القصاص بأداء الدية إلى ولي القتيل إذا رضي طائعاً مختاراً ، أردنا منه التخفيف عليكم إذ في الدية تخفيف على القاتل بإبقاء حياته وإنقاذها من القتل قصاصاً ، وفيها كذلك نفع لولي القتيل ، إذ هذا المال الذي أخذه نظير عفوه يستطيع أن ينتفع به في كثير من مطالب حياته .
وبهذا نرى أن الإِسلام قد جمع في تشريعه الحكيم لعقوبة القتل بين العدل والرحمة .
إذ جعل القصاص حقاً لأولياء المقتول إذا طالبوا به لا ينازعهم في ذلك منازع وهذا عين الإِنصاف والعدل .
وجعل الدية عوضاً عن القصاص إذا رضوا بها باختيارهم ، وهذا عين الحرمة واليسر .
وبالعدالة والرحمة تسعد الأمم وتطمئن في حياتها ؛ إذ العدالة هي التي تكسر شره النفوس ، وتغسل غل الصدور ، وتردع الجاني عن التمادي في الاعتداء ، لأنه يعلم علم اليقين أن من وراء الاعتداء قصاصا عاداً .
والرحمة هي التي تفتح الطريق أمام القلوب لكي تلتئم بعد التصدع وتتلاقى بعد التفرق ، وتتوادد بعد التعادي ، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو . فلله هذا التشريع الحيكم الذي ما أحوج العالم إلى الأخذ به . والتمسك بتوجيهاته .
ثم ختم - سبحانه - الآية بالوعيد الشديد لمن يتعدى حدوده ، ويتجاوز تشريعه الحيكم فقال : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
أي : فمن تجاوز حدوده بعد هذا التشريع الحكيم الذي شرعناه بأن قتل القاتل بعد قبول الدية منه ، أو بأن قتل غير من يستحق القتل فله عذاب شديد الألم ؛ من الله - تعالى - لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول يدل على نكث العهد ، ورقة الدين ، وانحطاط الخلق .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 178 )
{ كتب } معناه فرض وأثبت ، والكتب مستعمل في الأمور المخلدات الدائمة كثيراً ، وقيل إن { كتب } في مثل هذا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء ، وصورة فرض القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أرا د الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع ، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه وترك التعدي على غيره كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها الرجل من قوم قاتله ، وأن الحكام وأولي الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود ، وليس القصاص بلزام إنما اللزام أن لا يتجاوز القصاص إلى اعتداء ، فأما إذا وقع الرضى بدون القصاص من دية أو عفو فذاك مباح ، فالآية معلمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح ، و { القصاص } مأخوذ من قص الأثر فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، و { القتلى } جمع قتيل ، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة وهو مما يدخل على الناس كرهاً ، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى( {[1605]} ) .
واختلف في سبب هذه الآية ، فقال الشعبي : إن العرب كان أهل العزة منهم والمنعة إذا قتل منهم عبد قتلوا به حراً ، وإذاقتلت امرأة قتلوا بها ذكراً ، فنزلت الآية في ذلك ليعم الله تعالى بالسوية ويذهب أمر الجاهلية ، وحكي أن قوماً من العرب تقاتلوا قتال عُمِّية( {[1606]} ) ثم قال بعضهم : نقتل بعبيدنا أحراراً ، فنزلت الآية ، وقيل : نزلت بسبب قتال وقع بين قبيلتين من الأنصار ، وقيل : من غيرهم فقتل هؤلاء من هؤلاء رجالاً وعبيداً ونساء ، فأمر رسول الله صلى عليه وسلم أن يصلح بينهم ويقاصهم بعضهم ببعض بالديات على استواء الأحرار بالأحرار والنساء بالنساء والعبيد بالعبيد ، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا يدخل صنف على صنف ، ثم نسخت بآية المائدة أن النفس بالنفس( {[1607]} ) .
قال القاضي أبو محمد : هكذا روي ، وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني إسرائيل ، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم ، وروي عن ابن عباس فيما ذكر أبو عبيد وعن غيره الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة( {[1608]} ) ، وأن قوله هنا { الحر بالحر } يعم الرجال والنساء ، وقاله مجاهد .
وقال مالك رحمه الله : أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد بها الجنس الذكر والأنثى فيه سواء ، وأعيد ذكر { الأنثى } تأكيداً وتهمماً بإذهاب أمر الجاهلية ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبداً أو عبد حراً أو ذكر أنثى أو أنثى ذكراً ، وقالا : إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية منه( {[1609]} ) وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة ، وإذا قتلت المرأة رجلاً فإن أراد أولياؤه قتلوا وأخذوا نصف الدية وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها ، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد ، هذا مذكور عن علي رضي الله عنه وعن الحسن ، وقد أنكر ذلك عنهما أيضاً ، وأجمعت الأمة على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء ، وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات ، قال مالك والشافعي : وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس ، وقال أبو حنيفة ، لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس ، وقال النخعي وقتادة وسعيد بن المسيب والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف : يقتل الحر بالعبد ، وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء : لا يقتل الحر بالعبد ، ودليلهم إجماع الأمة على أن العبد لا يقاوم الحر فيما دون النفس ، فالنفس مقيسة على ذلك ، وأيضاً فالإجماع فيمن قتل عبداً خطأً أنه ليس عليه إلا القيمة ، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد ، وأيضاً فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى ، وإذا قتل الرجل ابنه فإن قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره( {[1610]} ) مما لا عذر له فيه لا شبهة في ادعاء الخطأ فإنه يقتل به قولاً واحداً في مذهب مالك ، وإن قتله على حد ما يرمي أو يضرب فيقتله ففيه في المذهب قولان : يقتل به ، ولا يقتل وتغلظ الدية .
وقوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء } فيه أربع تأويلات :
أحدها أن { من } يراد بها القاتل و { عفي } يتضمن عافياً هو ولي الدم والأخ هو المقتول ، ويصح أن يكون هو الولي على هذا التأويل ، وهي( {[1611]} ) أخوة الإسلام ، و { شيء } هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية ، هذا قول ابن عباس وجماعة من العلماء ، والعفو في هذا القول على بابه( {[1612]} ) والضميران راجعان على { من } في كل تأويل .
والتأويل الثاني وهو قول مالك : ان { من } يراد بها الولي( {[1613]} ) ، و { عفي } بمعنى يسر لا على بابها في العفو ، والأخ يراد به القاتل ، و { شيء } هي الدية ، والأخوة على هذا أخوة الإسلام ، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل المقتول أي يسر له من قبل أخيه المقتول وبسببه ، فتكون الأخوة أخوة قرابة وإسلام ، وعلى هذا التأويل قال مالك رحمه الله : إن الولي إذا جنح إلى العفو على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه ، فمرة تيسر ومرة لا تيسر ، وغير مالك يقول : إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه( {[1614]} ) ، وقد روي أيضاً هذا القول عن مالك ورجحه كثير من أصحابه .
والتأويل الثالث أن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة حسبما ذكرناه آنفاً ، فمعنى الآية فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات ، ويكون { عفي } بمعنى فضل من قولهم عفا الشيء إذا كثر( {[1615]} ) أي أفضلت الحال له أو الحساب أو القدر .
والتأويل الرابع هو على قول علي رضي الله عنه والحسن بن أبي الحسن في الفضل بين دية المرأة والرجل والحر والعبد ، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف ، و { عفي } في هذا الموضع أيضاً بمعنى أفضل ، وكأن الآية من أولها( {[1616]} ) بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ثم الحكم إذا تداخلت ، و { شيء } في هذه الآية مفعول لم يسم فاعله ، وجاز ذلك و { عفي }( {[1617]} ) لا يتعدى الماضي الذي بنيت منه من حيث يقدر { شيء } تقدير المصدر ، كأن الكلام : عفي له من أخيه عفو ، و { شيء } اسم عام لهذا وغيره ، أو من حيث تقدر { عفي } بمعنى( {[1618]} ) ترك فتعمل عملها ، والأول أجود ، وله نظائر في كتاب الله ، منها قوله تعالى : { ولا تضرونه شيئاً }( {[1619]} ) [ هود : 57 ] ، قال الأخفش : التقدير لا تضرونه ضراً ، ومن ذلك قول أبي خراش : [ الطويل ]
فَعَادَيْتُ شَيْئاً والدَّرِيس كأنَّمَا . . . يُزَعْزِعُهُ وِرْدٌ مِنَ الْمومِ مردمُ( {[1620]} )
وقوله تعالى : { فاتباع } رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره فالواجب والحكم اتباع ، وهذا سبيل الواجبات كقوله تعالى { فإمساك بمعروف }( {[1621]} ) [ البقرة : 229 ] ، وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله تعالى { فضرب الرقاب }( {[1622]} ) [ محمد : 4 ] ، وهذا الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء من المؤدي ، وقرأ ابن أبي عبلة «فاتباعاً » بالنصب( {[1623]} ) .
وقوله تعالى : { ذاك تخفيف من ربكم } إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة من أخذ الدية ، وكانت بنو إسرائيل لا دية عندهم إنما هو القصاص فقط ، والاعتداء المتوعد عليه في هذه الآية هو أن يأخذ الرجل دية وليه ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم( {[1624]} ) واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه : فقال فريق من العلماء منهم مالك : هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه ، وعذابه في الآخرة ، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم : عذابه أن يقتل البتة ولايمكن الحاكم الولي من العفو ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : نقسم ألا يعفى عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل( {[1625]} ) ، وقال الحسن : عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة ، وقال عمر بن عبد العزيز أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى .