200- وإذا فرغتم من أعمال الحج وشعائره فدعوا ما كنتم عليه في الجاهلية من التفاخر بالآباء وذكر مآثرهم ، وليكن ذكركم وتمجيدكم لله فاذكروه كما كنتم تذكرون آباءكم ، بل اذكروه أكثر من ذكر آبائكم لأنه ولي النعمة عليكم وعلى آبائكم ، ومواطن الحج هي مواطن الدعاء وسؤال الفضل والخير والرحمة من عند الله ، وقد كان فريق من الحجاج يقصر دعاءه على عرض الدنيا وخيراتها ولا يلقي بالاً للآخرة فهذا لا نصيب له في الآخرة .
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق ، وأن الجميع يسألونه مطالبهم ، ويستدفعونه ما يضرهم ، ولكن مقاصدهم تختلف ، فمنهم : { مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أي : يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته ، وليس له في الآخرة من نصيب ، لرغبته عنها ، وقصر همته على الدنيا ، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين ، ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه ، وكل من هؤلاء وهؤلاء ، لهم نصيب من كسبهم وعملهم ، وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم ، وهماتهم ونياتهم ، جزاء دائرا بين العدل والفضل ، يحمد عليه أكمل حمد وأتمه ، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع ، مسلما أو كافرا ، أو فاسقا ، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه ، دليلا على محبته له وقربه منه ، إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين .
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد ، من رزق هنيء واسع حلال ، وزوجة صالحة ، وولد تقر به العين ، وراحة ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ونحو ذلك ، من المطالب المحبوبة والمباحة .
وحسنة الآخرة ، هي السلامة من العقوبات ، في القبر ، والموقف ، والنار ، وحصول رضا الله ، والفوز بالنعيم المقيم ، والقرب من الرب الرحيم ، فصار هذا الدعاء ، أجمع دعاء وأكمله ، وأولاه بالإيثار ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به ، والحث عليه .
ثم بين - سبحانه - ما يجب عليهم عمله بعد فراغهم من أعمال الحج فقال - تعالى - : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } .
المناسك : جمع منسك مشتق من نسك نسكاً من باب نصر إذا تعبد ، والمراد هنا العبادات التي تتعلق بالحج .
قال ابن كثير : عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان أهل الجاهلية يقفون الموسم - بين مسجد منى وبين الجبل بعد فراغهم من الحج يذكرون فضائل آبائهم - فيقول الرجل منهم . كان أبي يطعم الطعام ويحمل الديات . . . ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الآية " .
والمعنى : فإذا فرغتم من عباداتكم ، وأديتم أعمال حجكم ، فتوفروا على ذكر الله وطاعته كما كنتم تتوفرون على ذكر مفاخر آبائكم ، بل عليكم أن تجعلوا ذكركم لله - تعالى - أشد وأكثر من ذكركم لمآثر آبائكم ، لأن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذبا أدى إلى الخزي في الدنيا والعقوبة في الآخرة . وإن كان صدقاً فإنه في الغالب يؤدي إلى العجب وكثرة الغرور ، أما ذكر الله بإخلاصث وخشوع فثوابه عظيم ، وأجيره كبير . وفضلا عن ذلك فإن المرء إذا كان لا ينسى أباه وهو الله رب العالمين .
فالمقصود من الآية الكريمة الحث على ذكر الله - تعالى - والنهي عن التفاخر بالأحساب والأنساب .
و " أو " هنا في معنى الإِضراب والترقي إلى أعلى ، لأنه . . . سبحانه أمرهم أولا بأن يذكروه ذكراً يماثل ذكرهم لآبائهم ثم ترقى بهم إلى ما هو أعلى من ذلك وأسمى فطالبهم بأن يكون ذكرهم له - سبحانه - أكثر وأعظم من ذكرهم لآبائهم .
قال صاحب الكشاف : وقوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله : " كذكركم " كما تقول كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكراً . أو في موضع نصب عطف على { آبَآءَكُمْ } بمعنى ، أو أشد ذكراً من آبائكم .
وبعد أن أمر - سبحانه - الناس بذكره ، بين أنهم بالنسبة لدعائه وسؤاله فريقان ، أما الفريق الأول فقد عبر عنه بقوله : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } . أي : من الناس نوع يقول في دعائه يا ربنا آتنا ما نرغبه في الدنيا فنحن لا نطلب غيرها ، وهذا النوع ليس له في الآخرة من { خَلاَقٍ } أي : نصيب وحظ من الخير .
وهذا النوع من الناس هو الذي استولى عليه حب الدنيا وشهواتها ومتعها فأصبح لا يفكر إلا فيها ، ولا يهتم إلا بها ، صارفا نظره عن الآخرة وما فهيا من ثواب وعقاب .
والفاء في قوله : { فَمِنَ الناس } للتفصيل ، لأن ما بعدها تقسيم للناس إلى فريقين .
وحذف مفعول { آتِنَا } للدلالة على تعميم المطلوب فهم يطلبون كل ما يمكن أن تصل إليه أيديهم من متاع الدنيا بدون تمييز بين حلال أو حرام ،
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } ( 200 )
وقوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } الآية ، قال مجاهد : «المناسك الذبائح وهراقة الدماء » ، والمناسك عندي العبادات في معالم الحج ومواضع النسك فيه ، والمعنى إذا فرغتم من حجكم الذي هو الوقوف بعرفة فاذكروا الله بمحامده وأثنوا عليه بآلائه عندكم ، وخص هذا الوقت بالقضاء لما يقضي الناس فيه مناسكهم في حين واحد ، وما قبل وما بعد فهو على الافتراق : هذا في طواف وهذا في رمي وهذا في حلاق وغير ذلك ، وكانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة فتتفاخر بالآباء وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم وغير ذلك ، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله تعالى( {[1898]} ) أكثر من التزامهم ذكر آبائهم بأيام الجاهلية ، هذا قول جمهور المفسرين .
وقال ابن عباس وعطاء : معنى الآية اذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم ، أي فاستغيثوا( {[1899]} ) به والجؤوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم .
وقالت طائفة : معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه ، وادفعوا من أراد الشرك والنقص في دنيه ومشاعره ، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم ، وقرأ محمد ابن كعب القرظي «كذكركم آباؤكم » أي اهتبلوا بذكره كما يهتبل المرء بذكر ابنه ، فالمصدر على هذه القراءة مضاف إلى المفعول( {[1900]} ) ، و { أشد } في موضع خفض عطفاً على { ذكركم } ويجوز أن يكون في موضع نصب ، التقدير أو اذكروه أشد ذكراً .
وقوله تعالى : { فمن الناس من يقول } الآية( {[1901]} ) ، قال أبو وائل والسدي وابن زيد : كانت عادتهم في الجاهلية أن يدعوا في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة ، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص ، بأمر الدنيا( {[1902]} ) ، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم ، والخلاق : النصيب والحظ ، و { من } زائدة لأنها بعد النفي ، فهي مستغرقة لجنس الحظوظ .